وجد الباروكة عند بائع للملابس العتيقة. تصور من ذا الذي يبيع باروكته إذا لم يكن مفلسا من طراز خاص. من يفعل ذلك غير سكير عربيد لا يدرك ليله من نهاره. في إحدى الدول الأوربية، لتصل الى بائع الملابس المستعملة (اللنكات)، لتكون من نصيبه. تنفس الصعداء وهو يلقي نظرة ودية على الباروكة التي قد تكون قد قطعت مسافة طويلة لتكون من نصيبه.
عندما هبط الليل، ألقى نظرة على وجهه أو بالأحرى على شعره قبل أن يمد يده ويضعه جانبا، لتظهر صلعته والشعيرات القليلة المتبقية فوق أذنيه. أطفأ الضوء بسرعة وكأنه لا يريد أن يرى وجهه.
ظن في البداية أن من ينظر إليه وهو مرتدي الباروكة السوداء البراقة، إنما هو معجب به..فكان يزداد خيلاء، لذلك كان يلتفت حواليه بتأنِ وفخار، لكنه لم يكن يدري قط أن زملاءه في العمل، كانوا يضحكون بضحكات عالية على اثر تعليقات متهامسة بينهم:
ـ هاقد عاد الديك الذهبي!
وهو اسم لحانة تقع بالقرب من مكان عملهم. كانوا يذهبون إليها في قيظ الصيف وسطوته بعد انتهاء الدوام في الساعة الثانية من بعد الظهر تماما، ليرووا ظمأهم كي يذهبوا الى بيوتهم منتشين.
كان ثمة إشاعة تدور الألسنة التي اعتادت النميمة، حول عدم جوازه حتى الآن.
ـ إن من ترى صلعته سوف تستعيذ بالله، وتفضل العنوسة.
لم يذكر لكائن السيرة الذاتية حكاية صلعته، التي تعود لطفولته، حيث كان أخوه غير الشقيق المصاب بجروح وقروح في رأسه، ينقل الصديد من رأسه الأقرع الى شعره.وعندما كان يبكي ويتوسل بزوجة أبيه، كانت تقطع بكاءه بحدة:
ـ وماذا إذا أصبت بالقرع ؟.. هل أنت أفضل من ابني المصاب بوابل من الجراح والقراح والصديد؟!
لم يكن يستطيع نقل معاناته إلى أبيه، وإحساسه بالظلم، فأبيه مصاب بالصمم في كل مايتعلق به.يشيح بوجهه عنه، متأملا زوجته التي لها الكلمة الأولى والأخيرة في البيت قائلا:
ـ لا صوت يعلو على صوت حسنيه في البيت!
في المدرسة أكثر ماكان يحز في نفسه إرغام معلم النشيد له في التحية الصباحية على إلقاء المحفوظات قبل انطلاق الطلبة الى صفوفهم. كان ذلك يحرجه كثيرا، ويغير لون السماء في عينيه. وكان بعض الأشقياء من الطلبة الكسالى يسخرون منه، الأمر الذي كان دفعه للوقوف في باب غرفة المعلمين حاملا في وجهه حزنه العميق. كان يحس بالوحدة والعزلة. كانوا يعذبونه عذابا منتظما، ويلقون بكاسكيتته القذرة من رأسه، ليتلقفونها، وهو يجري بينهم محاولا استردادها.
عندما خرج معلم النشيد من غرفته، وقف أمامه بانكسار وقال له بصوت خافت:
ـ أستاذ (عفية)..أرجو أن لا تطلب مني قراءة المحفوظات في الاصطفاف. فأنا أشعر بخجل شديد، والطلبة يسخرون مني ؟
أراد المعلم أن يسأله عن السبب، لكنه مالبث أن اكتفى بأن ربت بحنان على كتفه.
في داخل نفسه كان يرغب أن يدخل حانة (الديك الذهبي) ولو لمرة واحدة في حياته.كان صوت أم كلثوم في (الأطلال) يأتيه ساحرا من داخل الحانة عندما كان يمر من أمامها بين أنفاس السكارى ودخان سكائرهم كشيء لا يمكن رده.
وأخيرا فعلها. دخل حانة (الديك الذهبي) وأخذ يتأمل من عتمة الحانة الشارع. الشحاذ الذي يصادفه دائما جالس قريبا من باب الحانة. صيدلية (الشفاء) لاتزال مزدحمة. أبواب عيادات الأطباء بدورها مزدحمة وكأن المدينة مصابة بالطاعون. الأضواء الساطعة تنطلق من المطاعم مع الدخان المتصاعد من محلات الكباب. مراهقون يتحدثون بصوت عال،ويضحكون بنزق وهم يتابعون بعيون شرهة انحناءات أجساد العابرات. بائع (الشلغم) صليوه يقف في الرصيف المقابل للحانة. باعة الخضار يعودون مع البقية الباقية من خضرواتهم المصفرة على أمل أن يبيعونها في طريق عودتهم الى منازلهم بعد يوم طويل من التجوال في أزقات وأحياء المدينة.
أغلب رواد الحانة يبدو عليهم الفتور واللامبالاة بعد تمكنت منهم الكؤوس، وكان البعض يثرثرون ويدخنون بشراهة، وينادون النادل بشيء من التعالي والاحتقار، وآخرون يبدون مدفونين في الصمت الكئيب يتأملون حركة الشارع، حيث ستهجع السيارات بعد ساعات الى النوم، وتعود المنقبات والسافرات،والأشرار والطيبون، والجشعون والفقراء الى بيوتهم فالمدينة تنام مبكرة، وسيعود هو في نهاية المطاف الى غرفته.
سمع صوتا غليظا خلفه وهو ينادي على النادل:
ـ سيد.. سيد وينك..، تعال خذني للمرحاض..أريد أن أتبول.
اكتشف ان الرجل أعمى. سرعان ماحضر النادل مقتربا من الرجل:
ـ ياللا عمي جيتك..
نهض هو أيضا ليلقي نظرة على وجهه أو بالأحرى على شعره. كانت الباروكة في وضع ممتاز، شعرها براق،و مصفوف بعناية. كان النادل واقفا على باب المرحاض ليرافق الرجل الأعمى الى الصالة ثانية.
عندما غادر الحانة، شعر وكأن أمه التي لم يرها قد وضعت يدها بردا وسلاما على جراحاته وعذاباته.في خارج الحانة كان يسمع صوت خطواته وهي تطرق بقوة ونشوة على إسفلت الشارع.لقد كان يحس بالراحة والهدوء والاستكانة في الحانة.
في البيت قرر أن ينهي ليلته مع بائعة الهوى التي طالما تمناها، ولم يجد الشجاعة في نفسه للاقتراب منها. يحس الليلة بأنه عنترة العبسي.
لم يضيع وقته في التفكير.تناول سماعة الهاتف، واخذ يدير القرص بعد أن حصل على رقمها من أحد أصدقائه الذي كان زبونا وفيا لها، والذي كان يشعل نيران الجحيم، جحيم الشهوة في نفسه عندما كان يروي له في كل مرة تفاصيل لقاءاته الحميمة بها بالتفصيل الممل.

رغم مرور أيام على الحادث المشؤوم فهو لايزال يتذكر صرخة الرعب التي أطلقتها بائعة الهوى،عندما كان معها في ذروة حماوة الجسدين بين لهيب اللهفة والرغبة. كانت تئن عندما بدأت تشد شعره من فرط اللذة الحقيقية أو المصطنعة ، على أثره سقطت الباروكة من فوق رأسه. كل مايتذكره أنها أطلقت صرخة ذعر حقيقية، وهي تلقي الباروكة جانبا، قبل أن تنطلق عارية من بين ذراعيه في فراشه القاني الغارق تحت الضوء الأحمر.