تشهد تركيا سجالاً محتدمًا حول حرية التعبير الفني بين النخب الكمالية التي حكمت البلاد زمنا طويلا والطبقات الاناضولية الصاعدة ممثلة بحكومة رجب طيب اردوغان المحافظة اجتماعيا.


يبدي كثير من الممثلين والمخرجين والنقاد خشيتهم من ان يسفر السجال عن اسدال الستار على المسرح في تركيا بدلا من حمل الدولة على رفع يدها الغليظة عن الفنون وتركها تزدهر بحرية.

ويعبر الفنانون عن مخاوفهم من ان تُطفأ الأنوار في مسرح تركيا بصورة دائمة إذا مضت الحكومة قدما بخطتها المقترحة لإصلاح مسارح الدولة. وقال اوستون اكمين رئيس جمعية النقاد المسرحيين في مقابلة في اسطنبول مؤخرا quot;ان الحكومة تريد غلق المسرحquot;. واضاف quot;انهم يريدون تدمير الفنون. وبعد المسرح سيأتي الدور على الاوبرا والباليه، ثم يتحركون لعرقلة تعليم الفن في الجامعاتquot;. وقال quot;انا بصراحة
خائفquot;.

وأكدت وزارة الثقافة التي ترفض الافصاح عن تفاصيل المشروع الذي تعده مع مكتب رئيس الوزراء لإصلاح مسارح الدولة انه ليس هناك ما يستوجب خوف الفنانين. ونُقل عن الناطق باسم وزارة الثقافة ارتيغول غوناي قوله ان التغييرات التي ستُقدم الى الحكومة تعبر عن اتخاذ موقف تحديثي من رعاية الدولة للفنون ينسجم مع الممارسة المتعارف عليها في بلدان اخرى.

ولكن مستوى العداء وانعدام الثقة بين الشرائح المتنازعة في المجتمع التركي الذي يمر بتغيرات متسارعة لا يتيح طمأنة الفنانين بسهولة لا لاسيما حين يتذكرون كيف بدأت مبادرة الاصلاح.

متظاهران يرفعان يافطة مكتوب عليها quot;لا تمس مسارحناquot;

وبدأت المبادرة بنزاع نشب في نيسان/ابريل عندما أصدرت السلطات المحلية في اسطنبول قواعد جديدة لاختيار الأعمال التي تُعرض في مسارحها الثلاثة عشر مع تعيين موظف على رأس اللجنة التي تقرر بدلا من فنان. وردّ المدير الفني لمسارح العاصمة بالاستقالة ونزل فنانو اسطنبول ومخرجوها المسرحيون الى الشوارع للاحتجاج على الاجراء.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الممثلة والمخرجة اسلي اونغورين quot;ان هذه حملة لاخضاع جميع الفنون والثقافة الى قيم محافظةquot;.

ورد اردوغان بهجوم يعبر عن تفاقم العلاقات بين طبقات تركيا الصاعدة وطبقاتها الآفلة مخاطبا الفنانين quot;مَنْ تحسبون أنفسكم؟ وكيف يمكنكم أن تفترضوا تنصيب أنفسكم سلطة عليا في كل القضايا؟quot; وتساءل quot;هل انتم الوحيدون في البلد الذين يجوز ان تكون لهم كلمة في الفنون؟quot;

واعلن اردوغان وسط هتافات الحاضرين من شبيبة حزب العدالة والتنمية الذين احتشدوا في انقرة انه سيبيع جميع مسارح الدولة الى القطاع الخاص. واضاف quot;حينذاك تستطيعون ان ترضوا أنفسكم وتقدموا ما تشاؤون من المسرحياتquot;.

واكد نائب رئيس الوزراء بولندت ارينج ان الحكومة وافقت بالاجماع على فكرة الخصخصة وطلبت من الوزارات ذات العلاقة اعداد مشروع قانون بهذا الشأن. وتسبب هذا الاجراء في صدمة اجتاحت الوسط المسرحي الذي يضم 13 فرقة مسرحية تقدم اعمالها على 58 مسرحا حكوميا و24 مسرحا بلديا ونحو 170 فرقة مسرحية مستقلة.

وبلغ جمهور المسرح في تركيا 4.7 ملايين شخص في عام 2010، آخر عام تتوفر عنه أرقام، بحسب دراسة اجرتها جامعة بيلجي في اسطنبول. وفي العام نفسه، بلغ جمهور السينما 40.7 مليون شخص طبقا للأرقام التي نشرتها وزارة الثقافة.

وكان ثلثا الجمهور من رواد مسارح الدولة والمسارح البلدية التي تكلف تذاكرها 10 في المئة من سعر تذاكر النتاجات الخاصة. ولكن رغم شكوى المسارح المستقلة منذ زمن طويل من منافسة مسارح الدولة فان الاحتجاج على إعلان الخصخصة لم يقتصر على مسارح الدولة التي يعمل فيها نحو 2000 ممثل ومخرج وفني ومصمم ازياء وكوادر أخرى.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الممثل محمد زكي غيريتلي الذي يعمل في فرقة مستقلة في اسطنبول quot;ان الحكومة ستضع كل الفنون تحت سيطرتها خطوة فخطوةquot;.

واقر غيريتلي بالحاجة الى اجراء تغييرات في مسارح الدولة ولكنه قال انه لا يثق بالحكومة لتنفيذها. وعلى غرار اردوغان انتقد غيريتلي الممثلين والمخرجين في مسارح الدولة الذين يتقاضون رواتب كأنهم موظفون دون تقديم عمل طيلة سنوات أو العمل خارج المسرح في مسلسلات تلفزيونية.

واشار غيريتلي الى ان الفنانين يقولون منذ سنوات ان من الضروري اجراء تغييرات جذرية في مسارح الدولة التركية quot;ولعل الخصخصة هي الحل ولكن ليس في هذا السياق، ليس على يد الحكومة التي تريد الهيمنة وستجد بكل تأكيد طريقة للاحتفاظ بسيطرتهاquot;.

ولكن المعلق السياسي مصطفى اكيول يرى ان الفنانين ينامون على فراش أسهموا في صنعه. وقال انهم لم يعترضوا على خضوع الفنون للرقابة السياسية في مسارح الدولة quot;طالما كانوا مرتاحين إلا الحكام ولكنهم مندهشون وغاضبون الآن لأن آخرين ذوي تفكير مغاير يمسكون مقاليد الحكمquot;.

وقال اكيول ان النزاع هو نتيجة الهندسة الاجتماعية في السنوات الأولى للجمهورية الكمالية بعد الحرب العالمية الأولى عندما اعتبر الكماليون quot;ان الاوبرا والمسرح والباليه عناصر استراتيجية في مشروعهم لتغريب المجتمع بوسائل الدولة واستخدامها من اجل هذا الهدفquot;.

وتمخضت هذه السياسة عن جنس quot;من فناني الدولةquot; من النمط الذي كان معروفا في الأنظمة الشيوعية، شاركوا الدولة ايديولوجيتها التغريبية واحتضنوها وهم الآن يندبون انتقال السلطة من حكام quot;معينينquot; وايديولوجيتهم الأقلوية الى حكام quot;منتخبينquot; يمثلون الأغلبية المحافظة، على حد تعبير اكيول.

واقر اكمين شيخ النقاد المسرحيين بـأن المسرح، مثله مثل الموسيقى الكلاسيكية والاوبرا، قام طيلة تاريخ الجمهورية بدور في تغريب المجتمع التركي. وقال ان هذا هو السبب في موقف الحكومة الحالية من المسرح الذي تريد التخلص منه الآن.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتصادم فيها المعسكران حول قضايا ثقافية. فقبل عامين، اثار عازف البيانو والمؤلف الموسيقي فاضل ساي المعروف بمواقفه المعارضة لحكومة اردوغان، ضجة كبيرة بشجبه الموسيقى الهابطة التي تحظى بشعبية واسعة بين الاتراك قائلا انها وصمة على التنوير والحداثة والفن. وقال على فايسبوك انه يخجل من ذائقة الاتراك الثقافية.

واعلن ساي في مقابلة تلفزيونة وقتذاك ان جماعة حزب العدالة والتنمية quot;لا يذهبون الى الحفلات الموسيقية الكلاسيكيةquot; وانه شاهد اردوغان في حفلة باليه يوم الافتتاح وهو quot;لم يكن حتى يتفرج بل كان ينظر الى الأرض وهذا موقف متخلفquot;. واضاف quot;نحن نعيش في اليوم نفسه والعصر نفسه ولكننا نختلف اختلافا كبيراquot;.

واندلع نزاع آخر في عام 2010 بين محافظين من سكان حي وسط اسطنبول ورواد الصالونات الفنية الحديثة التي أخذت تنبثق في الحي عندما هاجم جمع من سكان الحي بالعصي والحجارة جمهور الحاضرين في ليلة افتتاح معرض فني. وأطلق الحادث مناظرة عامة استمرت اسابيع.

وكان اردوغان يشير الى هذه الواقعة عندما اتهم الوسط الفني بالنخبوية في كلمة ألقاها في مدينة كهرمان مراش مؤخرا. وقال اردوغان ان الدولة انفقت 75 مليون دولار على مسارحها في السنوات العشر الماضية مقابل ايرادات بلغت مليوني دولار. واضاف ان المسرحيين كانوا مرتاحين الى هذا الوضع ويستغلونه.

ويرى الناقد المسرحي اكمين ان لا ربحية المسرح الكلاسيكي على وجه التحديد هي السبب. واكد حاجة تركيا الى مسارح الدولة لأن quot;المسارح المستقلة لا تتوفر لديها الموارد لتقديم عمل من اعمال شكسبير أو مسرحية قديمة من مسرحيات ارستوفانيس أو سقراطquot;. وقال اكمين quot;ان الحكومة تبرر كل شيء بالناخبين. فهي لمجرد انها منتخبة تعتقد انها تستطيع ان تفعل أي شيء. وهذا خطأ كبيرquot;.