ترجمة: عبد الرحمن الماجدي

ولدت الشاعرةُ الإستونية كاتلين كالدما (Kauml;tlin Kaldmaa) في تالين عام 1970 ودرست الأدبَ الانكليزي والإستوني في جامعة تالين، وهي شاعرةٌ وناقدةٌ ومترجمةٌ وناشرةٌ. ترجمت عدداً من الأعمال الابداعيةِ من اللغة الانكليزية للإستونية وبالعكس، إذ ترجمت جميعَ أعمال الروائية البريطانية جانيت ونترسون للإستونية، ولها أربعة كتبٍ شعريةٍ ورواية واحدة، و عددٌ من القصص الخاصة بالأطفالِ.
وهي، اليوم، رئيس رابطة القلمِ الدولية فرع إستونيا، وكانت رئيس تحرير فصلية lugu (القصة) حتّى توقّفها نهاية عام 2011، و نالت عدداً من الجوائز الأدبيةِ داخلَ وخارجَ بلادها.
الشعر لدى الشاعرة كالتين كالدما quot;يشبهُ الاستيقاظَ عاريةً تماماً وسطَ هطولِ الثلجِ، وحرارةُ النيرانِ لمّا تَزلْ على الجلدِ، معَ لمسةِ نعناعِquot;.
تستعير الشاعرةُ من الكتبِ المقدّسة (الإنجيل والتوراة) عبارات في عددِ من القصائد باعتبارهما مرجعين تأريخيين، لكن بطريقةِ إسقاطِ نفسي لفعل الربِّ على الحبيبِ القاسي ليستمدَّ ذاتَ quot;القسوةِ الربانيّةِquot;.
تعمد في قصائدها الى الجرأة الجسدية والسخرية، ومزجِ الديني بالدنيوي والانثربولوجي ليكونوا سدنةً في خدمةِ النصِّ الشعري.
تبدو نصوصُ الشاعرة الإستونية كاتلين كالدما مباشرة وبسيطة لكنَّ هذه البساطةَ ليستْ سوى quot;فخٌّquot; للقارئ الذي سيجدُ نفسه، فجأةً، في منعطفٍ وجوديٍّ، تأريخيٍّ، أو فلسفيٍّ يقودُ بُنيةِ النصِّ نحوَ الختامِ.
وهي ترى أن الشاعرَ ينبغي عليه أن ينظرُ للعالمِ بدهشةِ طفلٍ ويضغظُ، في ذات الآنِ، بكلمةٍ حديديّةٍ في جسدِ اللّغةِ.
هنا مختارات من قصائدها:
قتلٌ
إقرأْ قصائدي،
عَرّيها،
بأَصابعكَ الكبيرةِ الخرقاءِ،
وانتفْ، عن بعدٍ، تيجانَ شجرِ الحورِ والقطنِ
العالقةِ في الشوك.
قَطّعها،
حدّ أنْ يرشحَ دمُ قلبي ويتسربَ
من جدرانِ عروقيَ الرقيقةِ.
أجرحنِي
حدَ أن، تَطحنَ الأسنانَ.
سيتوجبُ عليّ إعادةُ نموّ عظامي،
وإعادةُ جلدي وأعصابي،
وقلبي.
اقتلنِي،
لأولدَ من جديدٍ،
في كلمةٍ.
و استَرِحْ
في اليومِ السابعِ.
الشعرُ
الشعرُ يشبهُ الاستيقاظَ عاريةً تماماً
وسطَ هطولِ الثلجِ،
وحرارةُ النيرانِ لمّا تَزلْ على الجلدِ.
معَ لمسةِ نعناعٍ.
الشاعرُ
أن تكونَ شاعراً (كما ينبغي)
يعني أنْ ترى الحياةَ
بعيني طفلٍ.
لا لكي تندهشَ،
بل لتستدعي، كلَّ نأمةٍ، بعمقٍ،
ضاغطاً
بكلمةٍ حديديةٍ
في جسدِ اللّغةِ.
إعلانٌ عن الشوقِ
كيفَ تتعرفُ على هذا الشوقِ؟
يبدأُ بالطَرقِ الناعمِ على الجانبِ الأيسرِ من صدركَ،
ثمَّ يدبُّ في كلّ أنحاءِ جسمكَ مثلَ دبّورٍ،
يطنُّ في الرئتينِ،
يُهمهمُ في الاُذنينِ، يُحلّقُ قبالةَ العيونِ،
يرسلُ الفراشاتِ ترفرفُ وترفرفُ حولَ بطنكَ،
حتى تشعر بالدوارِ والشحوبِ.
كيفَ تعيشُ معَ هذا الشوقِ؟
تَحضُّ دماغكَ ليتذكرَ كلّ لحظةٍ،
تَحضُّ عينيكَ لتلتقطاَ صوراً كلَ رفةٍ،
تَحضُّ أذنيكَ لتسجلا كلَّ صوتٍ،
تَحضُّ يديكَ لتتحسسا كلّ لمسةٍ من جديدٍ،
تَحضُّ قدميكَ لتمشيا كلَّ شارعٍ وحجرٍ وجادةٍ.
تأخذُ الشوقَ،
ترسلهُ لاسلكياً عبرَ الفراغِ،
وتبتهلُ، كي لا يعودَ.
كيفَ تُعبّرُ عنْ هذا الشوقِ؟
من بينِ مليونِ كلمةٍ في لغةٍ واحدةٍ،
من بين بليونِ، تريليونِ، كدريليونِ من الكلماتِ
في كلّ اللغاتِ الأُخرى،
يمكنُ فقط أن يُقالَ:
أنا ــكَ.
غروبٌ
عادتْ الخرافُ للمنزلِ ثاغيةً،
لكنّ الماعزَ لمْ ترغُ،
أجراسُها ترنُّ في أعناقِها.
الانسانُ يختبيءُ في السريرِ ولا يُدركُ
حينَ يصيرُ الجلدُ شراشفَ،
والشراشفُ هواءً،
الهواءُ محيطاً،
المحيطُ صخرةً،
الصخرةُ قمراً،
القمرُ صمتاً،
الصمتُ فكرةً،
الفكرةُ حلماً،
الحلمُ حقيقةً،
الحقيقةُ وجوداً.
الواحدُ لا أحدَ.
كلمات الحب السرية
1
يوماً ما أنتَ تنهضُ، وهو هناكَ.
إنهُ هناكَ، الشخصُ الذي لمْ يكنْ.
الشّخصُ الذي لم يكنْ هنا.
إنّه هناكَ، جالساً على سريركَ،
يدندنُ بهدوءٍ لائحةَ الرغباتِ السريةِ:
سَتراكَ عيناي حتى لو كانتا مُغمضَتين.
سَتلمسكَ يدايّ حتى لو كنتَ من هواءٍ.
قدماي سَتمشيان إليكَ حتى لو لمْ تبرحْ مكانكَ.
وكلماتي ستصلكَ حتى لو كنتَ بعيداً.
خَجلي سَيزولُ مع أولِ دقيقةٍ حينَ أراكَ.
حلاوتي ستطعمكَ حين تكونَ بحاجةٍ للمزيد.
مِلْحي سيبقيكَ عائماً حين تغرقَ.
و همسي بـ إشششش سيتشبثُ بك ملتصقاً، بعيداً وقريباً.
ستراني عيناكَ حتى لو كنتَ أَعمى،
ذراعاكَ سَتمسكانِ بي حتى لو كانتا خاليتين،
أذناكَ سَتسمعاني حتى لو كانتا في صمتٍ مطبقٍ،
و قلبكَ سيخفقُ بي حتى لو كانَ ميتاً.
تلكَ هي أغنيةُ الرغباتِ السّرّيةِ،
سننشدها على ايقاعِ خفقاتِ القلبِ.
2
كلماتُ حبنّا بسيطةٌ وقصيرةٌ:
أرغبُ، أحتاجُ، أريدُ، أحبُّ، أعيشُ.
أنا ـكَ
أنا ـكَ
أنا ـكَ
أنا ـكَ
أنا ـكَ
أنا ـكَ
أنا ـكَ
أنا ـكَ
أنا ـكَ
إنَّ الـ سيكونُ الأخيرَ والأخيرَ والأخيرَ.
نهرُ الحبِّ
أتمنّى لو أقفَ معكَ عندَ نبعِ النهرِ،
كما وقفتُ، مرّةً، فوقَ الجبلِ،
عندَ المياهِ الزرقاءِ،
يقطرُ من الجليد الشفاف
ثلجُ أبيضٌ نقيٌّ
فنَشربهُ،
بارداً مثلَ الأبديّةِ.
لا شبابَ سيُستعادُ،
إنّما
صبرٌ
جديرٌ بالآلهةِ.
بينَ
ليسَ لدينا لغةً مشتركةً.
نحنُ لا نعلمُ بالذي بينَ شيءٍ ما ومكانٍ ما،
ما بين القارّةِ والمحيطِ،
ما بينَنا.
احترسْ
من القوةِ التي بَيني وبينكَ.
حينَ أحدِّقُ بشخصٍ ما يحدثكَ بلُغتِكَ،
تحدقُ أنتَ بشخصٍ ما يحدثني بلُغتي،
وها نحنُ في معركةٍ خاسرةٍ،
للأسفِ، إنّها خاسرةُ منذ زَمنٍ.
وَحشةٌ في العظامٍ، وَحشةٌ في الجسدِ،
تَنسكبُ مما تبقّى من قلبٍ،
(ليسَ قلبكَ لإنكَ بلا قلبٍ)
نحصلُ على ما يتبّقى،
ونتقاسَمه، فننْبهرُ بهِ، ونحاولُ التشبثَ بهِ.
تلكَ صرّةٌ صغيرةٌ،
ثقيلةٌ كرصاصٍة،
تسقطُ بعيداً بينَ أصابعِنا.
كجداولِ زئبقٍ صغيرةٍ.
تلكَ صرّةٌ صغيرةٌ،
نحنُ نَمتلكها،
ونَعلمُ
بهذهِ الماسةِ الصغيرةِ المتبقةِ من الوقتِ.
ولادةُ الغابةِ الحمراءِ
أحفرُ ثقوباً عبرَ الظلامِ والممرّاتِ،
عبر َالعالمِ الباردِ الأبيضِ،
ما مِنْ حجرٍ سيقفُ في طَريقي،
أحفرُ ثقوباً عبرَ الظّلام.
أشمُّ رائحةَ الحديدِ
تَخترقُ جوهرَ السوادِ.
والنارُ تحتَ الطبقاتِ غيرِ المرئيّةِ
تجعلُ الظلامَ ناعماً كلمسةٍ.
أشمُّ رائحةَ الحديدِ.
أربطُ جميعَ الممرّاتِ والثقوبِ
وآخرَ مساراتِ المتاهةِ،
خلالَ الظلامِ، والضوءِ.
الشجيراتُ تنبتُ،
الدمُ يتدفّقُ،
والغابةُ الحمراءُ تولدُ.

قصيدةُ القلبِ
الكلمةُ الأولى كانت فراشةً لليوم الاوّلِ
للنورِ
للبرقِ
واللّا أرضِ،
اخترتَ قولَها.
الماءُ يتدفقُ منْ أصابعكَ الغَشيمةِ.
جزئياتٌ معقدةٌ من الهواءِ غيرِ المُستنشقِ،
وحديدٌ أحمرُ داكنٌ ملموسٌ،
حلزوناتٌ تلتوّي وتدورُ في الطرقِ السريعةِ للمجرّاتِ الداخليةِ،
تصلُ أصابعكَ، وتسرقُ
هذه البدعةَ من إناءِ الدمِ المتدفّقِ،
تاركةً في صدري نجمةً على شكلِ قلبٍ.
ألا أستطيعُ قراءةَ هذهِ العيونِ؟ سؤال يواجهني.
ألا أستطيعُ قراءةَ هذه العيونِ؟
أستطيع قراءةَ سهولِ الصحاري، والأشجارِ العاريةِ، والماعزِ المتجمّعةِ على الأغصان.
أنتظرُ طريقاً ينفتحُ إلى الجنّةِ.
حقائبُ بلاستيكيةٌ تختلطُ في الريحِ.
أستطيعُ قراءةَ حقولِ الألغامِ، وسهولِ الحقولِ المهجورةِ، وحُفَرِ القنابلِ،
حيث تَمرّ الحيواناتُ لتشربَ، كما البشرُ، والطيورُ.
أستطيعُ قراءةَ مسطحاتِ المياهِ،
أستطيعُ أن أحصيَ حيتاناً تزنُ الواحدةُ عشرةَ أطنانٍ،
عالقةً ولاهثةً،
لمْ تبتلعْ يونسَ، إنّما عشاءً، مُصّنعاً ومحفوظاً في علبِ بلاستيكية،
يُسخّنُ في فرنِ الميكرويف.
أستطيعُ قراءةَ سهولٍ وسهولٍ وسهولٍ،
أطنانٍ، قطراتٍ وأنفاسٍ،
لكنْ لم أتدرَّبْ على قراءةِ هذه العيونِ،
أو الوثوقِ بما أراهُ هناك.
إنّها تتركُ في صدري ندبةً على شكلِ قلبٍ.
موتٌ
عندما تموتُ،
سأغرسُ شجرةً،
شجرةً قبالةَ قدميكَ،
سأغرسُ شجرةً بين أصابعكَ،
شجرةَ تفاح بأربعة أغصانٍ،
وشجرةَ كمثرى بأربعةِ أغصانٍ،
بين أصابعِ يدكَ الاخرى.
سأغرسُ شجرةَ قيقبٍ حمراءَ عندَ رأسكَ.
وحين أكونُ حزينةً،
وأشتاقُ إليكَ،
سألقي بنفسي عليك.
شجرةُ قيقبٍ حمراءُ عندَ رأسي،
وشجرتا فاكهةٍ بأربعةِ أغصانٍ بينَ أصابعي،
منصتةً للأرضِ والسماء، أنا الشجرةُ.
سأنتظرُ حتى تُسقطَ شجرةٌ أوراقَها بهدوءٍ عليَّ،
مثلكَ، من حينٍ لآخرَ،
تسقطُ الشجرةُ الثانيةُ والثالثةُ
التفاحَ والكمّثرى عليّ.
وها أنا أنتظركَ،
كما لمْ تفعلْ أنتَ أبداً،
انظرْ،
سأنظرُ الى الأشجارِ شبهِ العاريةِ
وأبكي،
قليلاً.