سان فرانسيسكو: لا أخفي تعثري حينما أكتب مقالات تتعلق بي شخصيا، و لا أستطيع تجنب هذا في مقالي عن واحدا من اهم كتاب القرن العشرين، لانه كان أول من قرأت في فترة شبابي الاول بعد الابتعاد البطئ عن قرأة و جمع المجلات التصويرية التي كانت تصلنا من القاهرة و بيروت مثل quot;سوبرمانquot; وquot;بساط الريحquot; و quot;ميكي ماوسquot; ، quot;سميرquot; الخ،
منذ 3 أسابيع و انا اسافر سواحل quot;كاليفورنياquot; بعد وصولي quot;سان فرانسيسكوquot; مدينة أحلامي السينمائية منذ فترة شبابي الاول، المدينة في ذاكرتي ما تزال كما هي بشوارعها التي تنحني نحو السواحل و الموانئ المتعددة، ثم عرباتها التأريخية التي شاهدتها في أفلام عديدة، و أحيائها الغامضة و جسرها العملاق المئوي العمر و عبوره يدعني أشاهد تشعب سواحلها، كما أتذكره في فيلم quot;شرخ في الماراياquot;الذي أخرجه العبقري quot;أورسون ويلزquot;، و أشاهد سجن quot;الكترازquot;العتيد و أتخيل كل من سكونه بقية حياتهم، هذا صار الان متحفا و مزارا للسواح بعد اغلاقه منذ عقود حيث بني سجن quot;سن كنتينquot; النموذجي أبعد بضعة أميال عن السجن القديم.
اود نصح من يزور quot;سان فرانسيسكوquot; ان لا تفوته زيارة دار سينما quot;بارامونتquot; التي شيدتها الشركة السينمائية في ثلاثينيات القرن الماضي، ربما لا أبالغ القول انها من أجمل دور السينما في اميريكا و العالم، و تحت أشراف بلدية المدينة تخصصت في عرض الافلام الكلاسيكية، خصوصا تلك التي صورت في سان فرانسيسكو بسعر بخيس كما 5 دولارات، حرصت على مشاهدة فيلم quot;بوليتquot;1968 الذي أخرجه quot;بيتر ييتسquot; و قام ببطولته quot;ستيف ماكوينquot;، هذا الفيلم صنع كاملا في تصوير خارجي يغطي كل أحياء المدينة و يعتبر من ايقونات سينما quot;الاكشنquot; خصوصا في الملاحقة المثيرة و السريعة في شوارعها، العديد من الافلام اللاحقة قلدت أثارة السياقة في الشوارع المزدحمة منذ ذالك الحين.
كل هذا كان ممتعا و جميل، و لكنني قبل سفري كانت تراودني فكرة تتبع خطوات الكاتب quot;جون شتاينبيكquot;1902-1968.بعد أيام سافرت جنوبا الى quot;ساليناسquot;مرورا بالعديد من المدن و القرى بأسمائها الاسبانية من quot;سان رافائيلquot;الى quot;سان خوسيهquot;، وهذا ليس غريبا، كلها أسماء وضعها الاسبان و المبشرين بعد أكتشاف أميريكا من قبل quot;كريستوفر كولومبسquot;.
كان سفرا بطيئا بتعمد لتذكر مسارح روايات الكاتب العظيم، و على مشارف مدينة quot;ساليناسquot; وجدتني محاطا بمزارع quot;الخسquot;و الغريب كان مشاهدة العشرات من المزارعين المكسيكيين في كل مزرعة في عمل يدوي شاق، حينها عشت رواية quot;شرق عدنquot;كتبها في 1952 و هي رواية فيها الكثير من الاسطورة الانجيلية، الاب الشديد التدين، و الاثنين من أولاده كما quot;فابيلquot;و quot;هابيلquot;و العلاقة المرتبكة بين الكل، مع الاشكال في مغادرة الام اطفالها لتفتح محلا للدعارة، لا أريد تلخيص الرواية فقط أريد مقارنة أحداثها في مدينة quot;ساليناسquot;قيل الحرب الاولى مع أيامنا هذه، مزارعها ما زالت كما هي، و انتاجها من quot;الخسquot; مازال كما قبل أكثر من قرن، و المزارعين هم أحفاد اؤلائك من المكسيكيين المهاجرين يعملون بدأب طول النهار لتصدير الخس لكل الولايات الاميريكية، فبين ذاكرتي في روايته و ما أراه الان لا يختلف بين ساليناس و quot;مونتيريquot; و ما بينهما من القرى حيث تدور احداث معظم رواياته، و كان ينتمي الى الطبقة الاكثر متوسطة ولكنه هاجر العائلة منذ شبابه الاول و أشتغل في العديد من المهن، و اقترب كثيرا الطبقات الفقيرة، و تعايش مع البؤساء من المهاجرين، ليبدأ كتابة قصص قصيرة في العشرينيات من عمره معظمها رفض في دوائر النشر، و ما تمكن من نشره لاقى فشلا ذريعا.و لكن اصراره و أعتقاده كاتبا جيدا لم يترك الكتابة الى حين كتابته رواية quot;تورتيلا فلاتquot;1935 فيها يصف ثلاثة من متسكعي مدينة quot;مونتيريquot; أحدهم يرث صدفة شقة، وهذا يدعو اصدقائه العيش معه بعد سنوات من التشرد و النوم في الغابات المجاورة، هنا يبدأ quot;شتاينبيكquot;أسلوبا ساخرا في وصفه حياة هؤلاء المشردين في بيت له جدران و ابواب و نوافذ و يكتشفوا تعقد العيش بهذه الطريقة.هذه الرواية القصيرة اطلقته للشهرة.
و لكن الرواية التي جعلت منه كاتبا عالميا كانت quot;عناقيد الغضبquot;1939 فيها حصل على جائزةquot;بوليتزرquot; و ترجمت لعدة لغات، و تحولت ذالك الفيلم الرائع الذي أخرجه quot;جون فوردquot; بنفس العنوان و بطولة quot;هنري فونداquot;، و هنا تبدأ شهرته ككاتب quot;ملعونquot;، و اتهم بالشيوعية و في مدينته الاقطاعية quot;ساليناسquot;أحرقت كتبه من قبل رجال البنوك و الاقطاعيين، و تعرض الى حملة تشويه مخزية الى حد مقاطعة جيرانه، ثم سؤ معاملته في كل الدوائر الرسمية من البريد الى البلدية، حينها قال شتياينبيك quot;بدأت أشعر بالخوف حقا، و قلق انا من تهديدات الاقطاعيين و رجال البنوك، هم قاموا بحرق كتبي، و الان تشويه سمعتيquot;، و هذا ما حدث فعلا، حيث قام هؤلاء أحراق كتبه في الساحات العامة، و بتعمد كان يعاني العرقلة من كل الدوائر الرسمية و سؤ المعاملة.و quot;شريفquot;المدينة نصحه ان يحمل سلاحا للدفاع عن نفسه حسب قول أبنه الاكبر quot;توم شتاينبيكquot;.
وصلت مدبنة الكتاب الرائع، مركزها ما يزال من الطابع المعماري الاسباني، لم تتسع كثيرا منذ القرن الماضي، مبانيها ما تزال واطئة السطوح، و لكن مزارع quot;الخسquot;تضاعفت بكثير، و أخيرا وجدتني أمام بناء فخم في وسط المدينة يسمى quot;مركز شتاينبيك الوطنيquot; بعنوان كبير يحمل أسم الكاتب، أعترف انني شاهدت العديد من المباني التي تخلد كتاب و فناني عدة مدن اخرى في مختلف الدول، و بصراحة لم أجد أجمل من ما شاهدته في هذا البناء من حيث التوثيق و التوزيع لكل مراحل حياة الكاتب quot;الملعونquot;.
في هذا المتحف الزائر ليس بحاجة لدليل او مترجم، كل أجنحته موثقة باللغتين الانكليزية و الاسبانية بجانب شاشات عديدة تعرض افلاما وثائقية، بجانب عروض رواياته التي تبنيت سينمائيا و مسرحيا، قبل دخول البناء اوقفت سيارتي امام موقف المتحف تحت اعلان 90 دقيقة مجانا و هذا أسعد صديقتي، ضحكت في داخلي واقول -من يتحمل 90 دقيقة في زيارة متحف؟- لكنني كنت مخطئ، التجول في حياة quot;شتاينبيكquot;كان أكثر من رائع، فيه فقد الزمن قبمته.
في المركز اكتشفت ان أحفاد أولائك الذين نبذوا و أحرقوا كتبه في اربعينات القرن الماضي تبرعوا بأكثر من 13 مليون دولار لبنائه و اعادة الاعتبار لاحد اهم أبناء مدينتهم، و أتسأئل هل سيحدث مثل هذا يوما في بلادنا التي جادت علينا بفنانين و كتاب ليسوا أقل قامة و قيمة من الكاتب الاميركي، افتتح المركز عام 1998، تقول مديرة المتحف quot;كلفهم التفكير طويلا في قيمة التراث الذي تركه الكاتب الذي أعطى هذه المدينة الصغيرة شهرة عالميةquot;و تقول ايضا ان الوضع لم يتغير كثيرا من حيث رخص الايدي العاملة و المهاجرين المكسيكيين، عملمهم الان اختياري و اطفالهم ايضا يتمتعون بحقوق الصحة و التعليم، ليس كما عاشوا اجدادهم.
كان quot;شتاينبيكquot; عنيدا و قوي الارادة في تعبيره، لم يتردد في اعلانه الكره لولاية quot;كاليفورنياquot; كوطنه الاصلي، و مع النقاد كان في حالة حرب دائمة، خصوصا مع المحافظين منهم، ولكنه في اواخر ايامه تعرض لحملة نقد قاسية، quot;ربما استحقها بجدارةquot; من قبل الرأي العام التقدمي في الولايلت المتحدة و في العالم بسبب تأييده المطلق لصديقه الشخصي quot;لندن جونسونquot;في حربه الغير عادلة ضد quot;فييتنامquot;، انا ايضا لم أخفي احباطي من موقفه الغير مبرر والذي يكاد يلغي كل تأريخه النضالي، و وقوفه دائما صفوف الفقراء.
أخيرا، و بأختصار، quot;شتاينبيكquot;جرب كل دروب الحياة كما مفكرا قلقا أزاء الحدث السياسي و الاجتماعي رغم أخطار الخطء في التقييم، فهو أستحق لقب quot;الشيوعيquot; في بلد يرى في الشيوعية سرطان يجب استئصاله، و بعد ذالك تمكن من تسميته المعادي للشيوعية بسبب من دعمه للحرب في فيتنام..قبل وفاته أراد توضيح موقفه بهذا الشأن و لكن الزمن لم يمنحه الفرصة.