خارجَ السرب كنتُ / داخلَ السرب صرتُ / غلط ٌ / حال بينهمُ وبيني / اوصدوا آذانهم /
لم يسمعوني/عبّأوا مجلسهم / بأكاذيب الوشاة الجهلة / واستعانوا بظلال الوهم بغدر القتلة /
...............
كانوا يجلسون فوق بسط ملوّنة، ومن ورائهم جدارٌ صخري. وأمامهم فسحة ٌ واسعة تنطوي على شجرة ذات جذع متين واغصان كثيفة. تحتها بضعُ دجاجات تنبشُ بمخالبها التراب. يتوسطها ديك قزحي الألوان ضخمٌ، لكنّه يقدّمُ ما تجود به مخالُبه الى صاحباته. كان كريماً سيّداً ومهذّباً حقّاً. جئتُ لرؤية صاحبي الذي يتوسطُ المجلس ويتحدّثُ الى شخص لا أعرفه. كان عليّ أن انزل بضع درجات كي اكون وسط الفسحة، وان انزع حذائي لأجلس فوق البساط معهم. وقبل أن اتقدّم نحوهم سألني شخصٌ: / أأنتَ مدعوّ الى هنا؟ / اجبتُه: / لا. لن احتاج الى الدعوة، انّهم أصدقائي، ومن حقي أن التقيهم وقتما أشاء / ردّ بلهجة خشنة: / كلهم تلقوا دعوات، وهذه مناسبة خاصّة / عندئذ رآني صاحبي ورفع يده قائلاً: / تفضلْ / عندئذ خفّ نحوي صديقٌ اعرفه فأمسك بيدي واخذني بهدوء الى مكانه. وقفتُ قليلاً لأنزع حذائي ثمّ جلستُ الى جواره. وكان أمامه بضعة ُ كتب ذات اغلفة ملوّنة ودفترٌ ذو غلاف اسود. كنتُ التقيته قبل ساعتين حاملاً بضعة أكياس، وحدستُ أنّه يقصدُ هذا المكان. أقبل شخصٌ يحمل صينية تتوسطها أقداحُ الشاي ليوزّعها على الحضور، وبدأ من حيثُ اجلس. تناولتُ استكانة الشاي الساخنة منه ذات الرائحة الطيّبة. ثمّ مضى يوزّعها على الجالسين.. كان بيني وبين صاحبي سوءُ تفاهم مزمن. كنتُ اريد توضيحه له قبل مجيئي الى هنا. لكنّه غادرني على حين غرّة، يبدو أنّ المجال لا يسمح لي ذلك الآن.سأرجيء الأمر الى وقت آخر. ولم أكد اكملُ استكانة الشاي حتى نهض بعضُهم وغادروا المكان. اقترب مني صاحبي وهمس بمودة: / لدينا اجتماعٌ مهم ولا بدّ من ذهابي، صافحني وغادر المكان. كما لا حظتُ أنّ بعض مَنْ غادروا كانوا يشزرونني بعدائية. بيد أن الذي اجلسني الى جواره أخذ يشغلني ويُريني كتباً مركونة ً الى جواره. وطلب استكانتين اخريين من الشاي. فتح دفتره وسمعتُه يُخاطبني: / لقد انجزتُه اخيراً وهو الآن جاهزٌ للطبع، ولمحتُ على سيمائه علامات الرضا. سألتُه: / أأستطيعُ القاء نظرة عليه ؟ / ردّ بلطف: / بالتأكيد، أنا بحاجة الى سماع رأيك، بل تستطبعُ أن تأخذه معك وتقرأه على مهل، ولطالما احترمتُ رايك / تناولته منه، كان ديوان شعر حداثي، أعرفُ أنّه موهوبٌ ومُقتدرٌ وله حدس رؤيوي مستقبلي، واتوقع له مسقبلاً غير عادي، مُثابرٌ، كثير الآطلاع على التراث والثقافة المعاصرة. بعضُ الصفحات مُزدانة بلوحات تعبيرية رسمها بألوان هادئة. مكتظة بالوجوه والأيادي والعيون والضفائر والشفاه وكلها محاطة ٌ بالزهر والفراشات والأنجم، وكلّ لوحة تعبّر عن ثيمة القصيدة. أمّا العنوان فغريبٌ / لآلئي الفقيرة / نهض مُعتذراً وغادرني: / وسمعني أقولُ: / حين انتهي من قراءته سأسمعك رأيي / بعد ذلك لم أره ابداً، بل اوصلته اياه في ست صفحات. بعد اشهر صدر ديوانه وكانت انطباعاتي مقدمة له.
بعد ذلك التقيتُ صديقي الذي قاطعني، قلتُ له: / ثمة امور اريد اخبارك بها / ردّ عليّ: انا في حاجة الى الاستماع اليك، تعال ننزو في ذلك المقهى / وضع النادل فنجاني القهوة امامنا، وبادرت بالقول: / بعد ان اغتربتُ سمعت كلاماً كثيراً عني، ونقلوا اليك مغالطات كثيرة، لقد تعرضتُ الى الضرب والآهانة والتهديد لكني لم اسيء الى ايّ احد..../ نحن نعرف الكثير عن اساليبهم، لذلك اعدنا النظر في تقويماتنا، امّا الذين ما زالوا يلوكون سيرتك في الداخل والخارج فينبغي أن نرجمهم ونملأ افواههم بالطين. نحن نعلم ان مَنْ بقي في الداخل كانوا أصلب عوداً منا واشرف ممّن يملؤون الفضائيات باللغو الفارغ. اطمئن فقد تغيّرت امورٌ كثيرة. وانت مازلتَ ذلك الصديق الوفي لنا.... / عندئذ انقطع خيطُ ُحوارنا فوجدتُني في مدينتي الأوربية والجوّ قارسٌ تكادُ اذناي واصابعُ يدي تتقطع. ولجنا البهو الزجاجي لمحطة الباص. امتلأ صدري برائحة القهوة. في زاوية قريبة ثمة امرأتان امامهما اقداح القهوة وقطع الكيك، حظينا، انا وزوجتي، بحصتنا وبدأنا بتناولهما. القهوة الساخنة امتصّت برودتنا، ولم نكد ننتهي حتى وصل الباص ورمينا جسدينا في جوفه الدافيء. تحرّك الباص وكان سوق السبت على يميني فارغاً ما عدا بضعة اشخاص كانوا يفرشون بضائعهم فوق مناضد طويلة يتحدون برودة النهار الشتوي. الباص يتهادى في الشارع الفرعي / وحوالينا نوافذُ تتلألأ باضواء السنة الجديدة ذات أشكال نجوم خماسية ومثلثات ودوائر/ لكنّه لم يوصلني الى شقتي، بل حطّ بي في المكان الأول الذي يضمّ صاحبي ورفاقه خلل تلك الفسحة. ولم اكد اخطو نحوهم حتى نهض الجميع، وبهدوء تسللتُ الى مكاني الأول جوار الشاعر. وانهالت عليّ كلماتُ الترحيب. كان صاحبي يتحدّث عن الوضع السياسي مُدعماً رأيه بالدليل والحجة، وكانت السياسة ُ لها الأسبقية. مذاقُ الشاي لذيذٌ يختلف عن مذاق القهوة التي شربتها في محطة الباص. كنتُ موزّعاً بين عالمين: عالم قارٌّ في مدينة اوروبية تلج في القرن الواحد والعشرين، مكتظاً باجنحة الحضارة والقيم الجديدة، وبين ذا المكان المرمي في ضاحية من ضواحي الحلم لم يزل يتقلبُ في كنف العشائرية والحزبية الضيّقة. لكني كنتُ سعيداً فقد اوصلت ُ رسالتي التي ظلت حبيسة في صدري تقضّ مضجعي. واذ اصغي الى قراءة الشاعر وقع نظري على الشجرة التي تتوسطُ الفسحة المربعة، كانت شجرة تفاح تزدحم اغصانها بزخم من حبات التفاح حمراء تومضُ وتتلألأ، ما زالت الدجاجاتُ جاثمة تحتها حول الديك القزحي الضخم تُغمضُ عيونها وتنام. فيما كان النقاشُ يجري ساخناً بين صديقي والجالسين حواليه. وبهدوء نهضتُ محتذياً حذائي وغادرتُهم، لا ادري حتى ذي اللحظة أين ذهبتُ وأين حطّ بي رحلي.....
............
ما سجّله الشاعر على غلاف ديوانه:
جامل ِالريح / جُلْ في الأفضية / ودعْ مُزنَ غنائك / يدكّ الضياء / بين المسافات /
خُذ ْضجّة َ الدرب / مشط ْ بها /غدائرَ حزنك / في مماشي الفرح/
...................
أنت
خاتلٌ
خلف الذبول
حدّ الأفول
فكيف تعرّسُ
دون جدوى
تهلُّ على
عروستك
في شرفتها
تناجي مبسمَها
تُكهربُ
زهرة الوله
فقم ْ
امتشقْ
ضحكة ًناحلة
من ثنايا
الكمد
فلا مهربَ
من خفر ٍ
تلوّنُ به
ملمحَك