البغل
لقبي ويروق لي. لقبي أيامَ قرية الجبل. كنا في السادسة، ونلهو في الوادي بين الشجر. وكانت هوايتي الأولى أن أخلع الغصون وأكوّمها وأحزمها بحبل، ثم أرجع بها لأبي المشلول، فيفرح الشيخ بمسئوليتي المبكّرة.
لقبي وأطلقه عليّ أترابي. لقبي ومازلت معتزّاً به. ليس به فحسب، إنما بمن أطلقه عليّ: الرفيق سانتوس، الأشرم.
سانتوس، الذي صار حين كبر، شيوعياً في الحزب، وله، كما لحزبه العظيم، قصص بطولة في زمن فرانكو.
الآن، الأجيال الجديدة لا تُعنى.
منطقة الرمبلاس هذه، كانت ميدان مواجهات عدّة مع قوات الجنرال.
كان الرفيق سانتوس، يجيد نصب الكمائن لهم. ضرباته دائماً موجعة.
لقد نسي الرامبلاسيون هذا التاريخ المجيد، وذلك البطل المغدور.
صارت عيونهم وعقولهم مركّزة فقط على السيّاح.
أنا البغل، لم أنسَ. وكيف يا أعزائي ينسى المرءُ أنصع أيامه؟
الرامبلاسيون فقدوا ذاكرتهم. ليتهم هم وحدهم، بل كل الأهالي.
أنا البغل، أذهب إلى بار ميغيل وأشرب كبغل وأتذكّر.
لأنه يجب أن يتذكّر أحدٌ ما، خاصةً إذا كان شاهدَ عيانٍ مثلي.
أنا البغل، أقعد في مكاني المفضّل، في آخر الزاوية اليمنى من البار، وأشرب كبغل، لكي أتذكّر كبغلٍ أيضاً.
لا ينفع أن تتذكّر كعصفور. العصافيركائنات لطيفة حقاً، بيد أنها خفيفة الجأش، رشفةُ بيرة وتغفو.
إن تذكّرتَ فلتتذكّر كبغل.
لا يوجد خيار آخر.
أجلس وأتذكرهم رفاقي: من قضى في المكسيك إبّان الهجرة الكبرى. من اعتلّ. من تزوج خمس مرات. من أصر أن يمشي الرحلة وحيداً. من حصل على أعلى الشهادات. من صار مدير شركة كبيرة. من خان. من انقلب .. وكلهم أحبهم.
كلهم أفتقدهم بشدّة.
إنهم جيلي الذي يتداعى، ويمتصّه شفقُ الغروب.
قبل شهر نعى الناعي الرفيق لويس في قرية نائية بالبرازيل.
لويس الطالب الأول في دفعة الطب عام 68. كرمّته جامعة برشلونة باحتفال لا يُنسى.
حتى أنّ صحف تلك الأيام لم تستطع تجاهل الخبر.
مات الدكتور مريضاً بسرطان البروستات، هو الذي عالج عشرات الآلاف من فقراء قرى شرق البرازيل.
لو كان في أهل برشلونة ذاكرة، لكتب أحدهم عنه في جرائد هذه الأيام.
ابني المجنون بميسي والبرسا، يوبّخني ولا يخجل:
كف عن هذه النوستالجيا الكريهة. زمنك مضى وانقضى. دعنا نعيش أيامنا.
يا ولدي يا حبيبي، فليبارك الربُ أيامكم. عيشوا ولكن لا تنسوا.
قليل من التذكّر يفرح القلب وينعش الروح.
أم أنني غلطان؟
والله الواحد صار لا يعرف، خاصة إذا أفرط في الشرب. ومع ذلك بوصلتي ترافقني دائماً. وتدلني دائماً.
أين سأجد في آخر العمر صحبة كصحبتهم؟
لا أجمل ولا أنبل من وفائهم. قصصهم وحكاياهم.
آه كم أشيل على كتفيّ، أنا البغل.
رحم الله سانتوس الأشرم.
كان صاحب بصيرة حتى وهو في السادسة.
البغل. أجل!
إنها كلمة عمري. تلخيص مكثف وفريد ولا أصدق منه لوصف مسيرتي وسيرتي.
أنا البغل، منذ السادسة، حتى السادسة والسبعين.
لم أتغيّر ولم أتبدّل قيد أُنملة.
لكنني الآن البغل الذي ينتظر تلك اللحظة الاستثناء:
أن يحمله الناس، بدل أن يحمل هو الناس!


أورغاسم
ثلاثون سنة سكّر، وستون سنة عمر، أوصلتني إلى هذا: أورغاسم العين. وهو شيء جمالي من الدرجة الأولى، إن كنتم لا تعرفون.
أنا مونتيرو أقول لكم، ويتعيّن عليكم أن تصدّقوني.
لمَ؟ لأنني أتحدّث عن تجربة.
لم تعد البرشلونيات الجميلات يفعلن بي إلا هذا: أورغاسم العين. العين لا الخاصرة.
أذهب كل أسبوع إلى شاطىء البحر، قريباً من فندق الشراع، وأجلس وأتمتع بجنة الأجساد وهي تأخذ حمام شمسها الأنيق الآسر.
غابة من الأجساد الرشيقة الفاتنة (في الحقيقة ليست كلها رشيقة وفاتنة)
أنظر، وبين الساعة وأُختها، أسحب من شنطة الكتف القماشية علبة استيلا، وأشرب. غابطاً نفسي على النعمة العظيمة.
أتفحّص وأتمحّص من وراء نظارة. من أعطاكنّ هذه الفتنة يتها البرشلونيّات!
وأي سحر هو هذا، وقد أوشكت الشمس على الكمون؟
لا أشبع من النظر، والتنقيب الجمالي، كما لو كنت أمام لوحة ل مونديالي.
مونديالي؟ كم هو فقير أمام ثراء بهذا التنوع وهذا الكم!
برشلونيات وسائحات من كافة أرجاء الكوكب.
وفي لحظة، لحظة لا تتأخر، أصل حالة الأورغاسم العيني.
ترتجف جفوني المتآكلة وترمش بشدة.
لقد بلغت الذروة:
ذروة التنوير الجمالي القصوى.
أقف حينها وألقي بعلب البيرة الفارغة في البرميل البلاستك الأصفر، وأعود أدراجي.
كل أسبوع أفعل هذا.
حتى غدا يوم الزيارة هو محور حياتي.
طبيبي غير مبسوط. طبيبي يقول لا شيء اسمه أورغاسم عين. الأورغاسم هو الأورغاسم، فلا تضحك على روحك.
كلا يا طبيبي. كلا. ثمة أورغاسمات لا تحصى. ومجحف أن تحصرها في نوع واحد. وماذا؟ نوع حيواني.
لا يقتنع. ويزفر لاعناً فشله في تطبيبي.
إنما .. أنا مونتيرو لا يهمّني.
ليفشل أو لينجح، الأهم أنني سعيد بتأملاتي الفنية رهيفة الصفاء.
سعيد بأورغاسمي الفذ،
أورغاسم العين لا الخاصرة.


quot;أيها العصفور، اعبر، وعلّمني العبورquot;
الحياة على الكوكب ndash; يفكّر بيدرو- كالحياة على شاطىء برشلونة: ما تراه اليوم لن تراه غداً. كل هؤلاء سيذهبون ويأتي غيرهم. سيذهبون بقصصهم وذكرياتهم، ليأتي غيرهم بقصصه وذكرياته أيضاً.
هكذا.
الحياة على الكوكب ndash; يتوسّع بيدرو- كالحياة في أي شارع كبير ببرشلونة. كالحياة في الرامبلا أو على باب ماريا دل مار. أفواج تأتي وتذهب. أمواج تأتي وتذهب. والثابت الوحيد هو الجماد: الباب أو الحائط أو الأسفلت أو البحر أو فندق الشراع. وحتى الجمادات ndash; يستغوط بيدروndash; حتى هذه تتبدل وتتغير. إنما ndash; يتعمق بيدروndash; تبدّلُها وتغيّرُها أبطأ وأقل مأساوية مما يفعله الزمن بالأحياء.
عندما يصل بيدرو لهذه الخُلاصات ينبسط، ويغبط نفسه على التوفيق، فيأخذ رشفة إضافية من الزجاجة.
لا شك أن ندرةً ممن يتصيّفون على البلاج الآن، يفكرون مثل بيدرو. ندرةً حتى لو كثرت الزجاجاتُ حولهم وبين أقدامهم.
إنهم يرون عري الأجساد ويعمون عن رؤية عُري المصير. ومن يسأل تعليلاً، فجواب بيدرو جاهز: إنهم يخافون الموت. يرتعبون لو فكروا خمس دقائق متواصلة في عرائهم الكامل حينما تجىء تلك اللحظة.
عند هذا الحدّ، يتوقف بيدرو، ويقوم نافضاً بعض التراب عن أنفه، لينزل الماء.
يغطس دقائق قليلة ويعود. لا يذهب لنافورة الماء العذب، بل يتمدّد على مفرشه، بجوار الفتيات الإنكليزيات، ويغفو.
في الواقع، هو غير غاف. هو بوعيه تماماً، لكنه يحب تمثيل الغفو، ليستمع لشقشقة هؤلاء الفتيات المرحة والرقيقة.
آه يا أبي رودريغِث! يفكر بيدرو. علمتني أزرع الزيتون في مصاطب الجبل، وأرعاه وأقطفه، ففلتت مني أشياء كثيرة.
لو كنت أعرفها، لكان استرخائي اللذيذ هذا أبدع.
آه يا أمي لويسا! يفكر بيدرو. نزعتك الانعزالية، أصابتني بالعدوى. انغلاقك على روحك، جعل روحي طبعة ثانية غير مزيدة ولا منقحة!
ما علينا. ينصت بيدرو بجميع ما أُوتي من انتباه وتركيز، وينبسط أكثر.
لغتهنّ رصينة الوقْع وليست صاخبة كلغتنا.
ثم إن الكحول اشتغلت.
يشعر بيدرو بنشوة تتهادى في عروقه مثل حفيف ملاك تحت كُرمة.
ثم يغفو، ويطلق بعض الأصوات.
يستيقظ على ضحكاتهنّ، فلا يفهم.
يقمن من حوله ويذهبن.
يقول: سيأتي غيرهن.
سيأتي لا بد!
ولتكن جلستك العابرة هذه يا بيدرو، هي الثابت المؤقت لهذه الرقعة من الشاطىء.
ثم يغفو.
يستيقظ بعد ربع ساعة، فيجد صبايا من الشمال بجواره.
أي بياض ناصع كبياض اليابانيات!
يسمع لغتهنّ بتوناتها المختلفة تحت المظلة، ويحدق في السماء الضاوية.
يعبر عصفور صغير أسود الجناح على بعد.
يتأمله وهو يذوب كنقطة،
ويغفو.
يستيقط ويتذكّر، بيسّوا.
يستيقظ ويتذكّر رودريغِث ولويسا.
غرناطةَ الجبلِ البعيد.
تلك الطفولة وذلك الشباب المُجِدّ القاسي.
أعبر وعلّمني العبور
اعبر وعلمني
اعبر
حتى يُلحس الملح الخفيف مِن على الشفة العليا.