يعتبر محمد مندور أحد أبرز نقاد الأدب العرب المجددين في العصر الحديث.

كان مندور في البداية قانونيا، ولكن طه حسين حبذ له طريق الأدب وشجعه وساعده على الفوز ببعثة جامعية إلى فرنسا. وعاد مندور في منتصف الأربعينات ليكون أستاذا جامعا وكاتبا في النقد الأدبي في أهم مجلتين ثقافتين عهد ذاك- quot;الثقافةquot; لأحمد أمين وquot;الرسالةquot; لأحمد الزيات. وبالمناسبة، فكل منهما زار العراق والتقى بنخبه الثقافية وببعض كبار رجال الدين في النجف.
عاد محمد مندور معجبا كل الإعجاب، كأستاذه طه حسين، بالآداب الغربية، وبالأخص بالأدب الفرنسي ومدارس النقد الأدبي الفرنسية، التي كان يراها أهم مدارس النقد الأدبي لاعتمادها على قراءة النص والتأثر به، ومن ثم تفكيكه بدلا من استخدام مساطر وقوالب نقدية جاهزة يقيم النص على أساسها. وقد كتب عن العديدين من كبار الأدب العربي، وترجم من روايات فلوبير وألفريد موسيه. ومن كتبه التجديدية كتاب quot; نماذج بشريةquot;.
كان مندور، كما قلنا، شديد الحماسة للاطلاع على الآداب العالمية، وفهمها وهضمها والتعلم منها لتجديد الحياة الأدبية العربية. وكان يؤكد أنه لا تكفي الإحاطة بالعلوم والفلسفات الغربية ما لم ننفتح أيضا على النتاج الأدبي الغربي. ومن رأيه أن الذي جعل الأدب العربي يتعثر على مر الأجيال أن العرب لم ينفتحوا على آداب الإغريق وغيرهم مثلما انفتحوا على المعارف العلمية والفلسفية. وجاءت بوادر النهضة مع حملة نابليون والبعثات لفرنسا.
يقول في أحد مقالاته: quot;إننا ندعو إلى تعميق حياتنا والمد من آفاقها، وإنه من قصر النظر أو الجهل أن نظن أن تراثنا العربي يكفي اليوم لنغذي نفوسا تعلم وتحس في قرارة الإنسان، وفي آيات الطبيعة أو الصلة بينما حقائق جميلة لم يصل إليها التفكير العربي إلا مجزأة مفككة أو ضائعة في خلال الألفاظ التي أصبحت في أدبنا عبثا يقصد لذاته.quot;
كان مندور ينادي بقدرة الأديب على الانفعال والتأثير، فانتقد مسرحية توفيق الحكيم بجماليون باعتبارها مسرحية عقلية تجريدية، وامتدح مسرحية برنارد شو في الموضوع نفسه لأنها تؤثر على القارئ ولا تتركه بلا انفعال إنساني. كان يرفض ما يسميه أسلوبا quot;واضحا من جزئيات لا موج فيهquot; بدلا من أسلوب الظلال والأسرار، ولو من حين لحين. ولذا انتقد احمد حسن الزيات باعتبار أن أسلوبه صنعة محكمة والصنعة الكاملة تبعده عن الحياة. وانتقد كثيرين ممن قضوا سنوات طويلة في الغرب وعادوا دون أن يتمثلوا الحياة والإحساس والثقافة الأوروبية.
ولعل من أهم مساجلات مندور مساجلاته عن الأدب quot;الخطابيquot; والأدبquot; المهموسquot;. وكان يرى وجوب توفر خاصية قوة النفس وموسيقى اللفظ في الشعر، بالعكس من الشعر الخطابي، كمعظم القصائد الكلاسيكية وغير الكلاسيكية العربية. ولذا انجذب نحو شعر أدباء المهجر، ورأى في الكثير منه شعرا إنسانيا يخاطب الوجدان بأسلوب أليف ونابض بالحياة. وكان من الأمثلة عنده قصيدة ميخائيل نعيمة quot;أخيquot;، عن وضع اللبنانيين في أعقاب الحرب العالمية الأولى والموت الجماعي جوعا. ومجرد استعمال كلمة quot;أخيquot; تجعل القارئ شريكا في الإنسانية والتعاطف والشعور بالقربي من المنكوبين. إنه لم يستعمل ألفاظا وكلمات مدوية وصاخبة ولكن كلمات وألفاظا أليفة ودية وقريبة من القلب، فتاتي مليئة بالعاطفة وقوة التأثير. من ذلك:
quot;أخي إن عاد بعد لحرب جندي لأوطانهْ
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه
فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانا
لان الجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم
سوى أشباح موتاناquot;
كما أنه قارن بين الأناشيد الوطنية العربية، المصرية وغيرها، وبين النشيد اللبناني القديم [ ولكن أين لبنان أمس من لبنان اليوم الذي يفترسه حزب الله وإيران!] النشيد المصري يقصفنا مثلا بعبارات مثل مصر quot; بلاد الأسود... نحن زوابع من نار.. في قوة الإعصار...quot; مع دعوات للحرب والعزة القومية.. كذلك كانت أناشيد العراقيين في بعض العهود. أما النشيد اللبناني المذكور، فكان يتغزل بطبيعة لبنان وفيه مثلا:
quot; عشقت فيك السمر وبهجة النادي
عشقت ضوء القمر والكوكب الهادي
والليل لما اعتكر والنهر والوادي
والفجر لما انتشر بأرض أجدادي...
أهوى عيون العسل أهوى سواقيها........quot;
فهو نشيد من القلب وملئ بالحب الصادق للوطن بدلا من القرقعات اللفظية والتهديدات العنترية والفخر المنتفخ..
الأدب عند مندور عبارة فنية، وموقف إنساني، وقوة إيحاء. والنقد الأدبي هو دراسة النصوص وتمييز الأساليب. ونلفت النظر إلى أنه حصر السجال في نطاق الأدب الخطابي والأدب المهموس. فهو لم يتعرض للتيارات الشعرية والفنية العالمية المثيرة للجدل، كالسوريالية والدادائية، ولا تعرض لقصيدة النثر. وهذه الأخيرة ترك أمر إثارة إشكاليتها وأمر ممارستها لجيل آخر من الأدباء العرب، كان من المبرزين فيه شعراء الستينات في العراق.
إن مساهمات مندور تعتبر في تلك المرحلة تطويرا مهما للنقد الأدبي وباعثا على التجديد الأدبي.
وأخيرا، إليكم هذه الفقرة من مقال له كما أعاد نشره في كتابه الرائع quot; في الميزان الجديدquot;:
quot; نحن قوم متزمتون، يظنون النفاق الاجتماعي فضيلة؛ قوم حسيون، إذا تغزلنا جاء غزلنا، إما إسفافا في الخضوع وإما quot;طرطشةquot; في العاطفة؛ قوم تعوزهم القوة المتماسكة. نحن قوم كثيرو الادعاء عن جهل، نكابر الغربيين، وندعي الدعاوى العريضة الباطلة، ونزج بالقومية وما إليها لنغطي جهلنا المريع. من، من من أدبائنا يعرف أن من واجب الأديب أن يكون مثقفا ثقافة منظمة، عميقة، مهضومة؟quot;- ربما هنا اشتط محمد مندور بعض الشيء، فقد كان عهد ذاك أدباء كبار من ذوي الثقافة المتعمقة والمنظمة. ولعله لم يقصد غير الغالبية من أدباء تلك المرحلة.