لم احضر ايّ عرض مسرحي له، بل تابعتُ بحرص وشوق بالغين جميع أعماله التي عُرضت على التلفاز. وقرأت كلّ كتاباته تقريبا، رأيته مرتين: اولها في اتحاد الأدباء أيام الزعيم قاسم، كان على مبعدة من ساحة الأندلس. فقد حضرت الى ندوة مشتركة للمبدعين الكبيرين علي جواد الطاهر وشاكر خصباك، كانا قد عادا ضمن وفد ثقافي من الأتحاد السوفيتي.تحدثا خلالها عن الحياة السوفيتية ومعطياتها العلمية والثقافية والاجتماعية. كنتُ وقتئذ في المرحلة الجامعية. وما أن ولجت حديقة الآتحاد حتى رأيته بصحبة شاعرنا الكبير سعدي يوسف. كلاهما نجمٌ ابداعي ألّاق أيامئذ، لم اجرؤ على الجلوس الى جوارهما، بل تركتُ كرسيين بيني وبينهما. واصغيتُ الى حوارهما الواطيء وكركرتهما. العاني كان ذا اديم مورّد وسعدي يميلُ الى السمرة قليلاً. الهي؛ ما أسعدَني وأنا الفتى الشاب اجلس قريباً من هذين الكائنين الأسطوريين. كنتُ اقرأ كلّ ما يُنشر لكليهما ولآخرين أغنوا الحياة الثقافية. بدأت الندوة بالنكتة وانتهت بها مروراً على التجربة السوفيتية ومنجزات الأشتراكية واناسها وتكنولوجيتها وثقافتها. يومذاك كانت الرجعية العربية تنشر وتختلق السيئات وترميها في الساحة السوفيتية. كان اللقاء ثرّاً بمعرفيته وصدقه يضطلع في تقديمه نجمان ابداعيان معروفان على صعيدي الجامعة والثقافة.

تلك البُرهة ُ فرصتي الاولى لرؤية العاني وسعدي.
مرةّ اخرى التقيتُه لقاءً عابراً صبيحة يوم صيفي وهو يتمشّى على جسر الأحرار تُجاه الصالحية وأنا عائدٌ منها نحو ساحة حافظ القاضي، كان أيامئذ ٍ مديراً عاما لدائرة السينما والمسرح اذا لم تخني الذاكرة، تقابلنا وجهاً لوجه، حييته دون ان اتوقف وردّ بمحبة على تحيتي. استغربتُ أن يذهب المديرُ العام الى دائرته مشياً.
والآن / بعد أن تقدّم به العمر واستحالت سيرتُه اسطورة خلل شهرته في التمثيل وكتابة واعداد العشرات من المسرحيات الخالدة / يتمرأى لي على فراش المرض محاطاً بكوكبة من اهله وزملائه والصحفيين، وجعلوه يُنشدُ معهم: موطني موطني.
اذن هو اسم ألمعي شعبي ولج سجل الخلود.
انه فنانُ العراق الأول بامتياز.
ومن البديهي أن يندثرُ اسم السياسي والحاكم ورجل السلطة وتُغطّيه أغبرة ُ النسيان، بينا يبقى الفنانُ مُخلداً / اسماً وذكراً وابداعاً / على كرّ الأزمنة والقرون، فما قيمة ُ العراق من دون الفن / من دون جواد سليم وحافظ الدروبي ويوسف العاني وسامي عبد الحميد وزينب وناهدة الرماح وخليل شوقي والجواهري وغائب طعمة فرمان وجبرا وسعدي يوسف والسيّاب وسواهم ممّن صعّدوا اسم عراقهم الى ذراري الأمجاد. هم لحمُ تأريخنا وحجر ابنية سطوعنا الحضاري. وان اردت ان استذكر انجازاته تمثيلاً وتأليفا لعجزت، انه احد مؤسسي فرقة المسرح الفني الحديث، والممثلُ والمؤلف ومُعد المسرحيات، كيف ينسى الزمنُ دعبول البلّام وملا عبود الكرخي وجحا وسعيد افندي على سبيل المثال. ومَنْ ينسى منا البيك والسائق، والشريعة والخان، ورأس الشليلة، وآني امك يا شاكر ومسمار جحا، والنخلة والجيران، والخرابة؟
يكاد هو واقرانه من نجوم المسرح يغطون مساحة نصف قرن من الابداع المسرحي: كان اسمُ العراق يشعُّ على وجوه العاني وابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وزينب وناهدة الرماح وخليل شوقي ومي شوقي وقاسم محمد وفاضل خليل وغيرهم ممّن اثروا مسرحنا الحديث. واذ اذكر هذه الأسماء التي اتذكرها الآن فلا ينبغي أن ننسى الأسماء اللامعة الأخرى الالى لايتسعُ المجالُ لذكرهم أو نستْهم ذاكرتي، فمعذرة لهم جميعاً.
يوسف العاني جامعة نقد وثقافة وتأريخ فلكلورعراقي عريق زوّد جمهور المسرح هو ورفاقه في الفن معاني السمو والمعرفة والجرأة والتأمل الواعي والفرح الذي كدنا ننساه لتكالب الطغاة والقمع والخراب والأحزان علينا.
يذهبُ الناسُ ويضمحلُ شأنهم، بيد ان اسماء يوسف العاني وحقي الشبلي وزينب وبقية الكواكب الاسطورية من اساطين مسرحنا العراقي تظلّ تضيء ممرات مدائن عراقنا.
لكن الزمن الجاحد القاسي الآسن ساق الينا قامعين ومحتلين وجلادين واميين حاولوا كتم انفاس الفن بكل اجنحته: الأدب والموسيقى والرسم والمسرح، كرّسوا جهودَهم واعلامهم لتلميع وصناعة امجادهم الكاذبة. لكن جرأة المثقف العراقي/ عناداً ومثابرة وصبراً / اجهضتها.
استغرب في عراقنا العريق أن يُقمع صوت الموسيقى والسينما والمسرح والأدب، ويضمحل شأن المبدع الذي يتهافت في سوح الوجع والمرض من دون أن يستطيع دفع ثمن علاج ِ دائه. ويُحيّرني أيضاً أن يتبوأ الوزارات والمراكزالثقافية الحسّاسة اناسٌ اميون يعدّون الفن عملاً شائنا يحط ّ من قيمة الانسان، والفنانَ خارج بدهيات وقيم الأخلاق، كما لو كنا نعيش في افغانستان وايران والصومال.
لتأريخك أيّها الجليلُ الجميل الفنان الألّاق دوماً نحني اصباحاً ومساءً.
ومعذرة لعدم قدرتي على استيعاب كل ما يتعلق بمسيرتك الرائدة..
ولك العمرُ الطويل وصادق محبتنا.