بغداد:نعت الاوساط الثقافية والفنية في العراق الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري، الذي توفي فجر يوم السبت، في العاصمة الأردنية عمان عن عمر ناهز الـ73 عاما، بعد صراع طويل مع المرض،وقد كان يتلقى العلاج في احدى المستشفيات الأردنية قبل نقله إلى منزله ليتلقى الرعاية هناك، لكن الاجل المحتوم كان رأيه ان تكون له الرعاية ففارق الحياة في غربته.

وجاءت كلمات النعي مبللة بالمشاعر الفياضة التي اعلنت عن محبتها الكبير للفنان الذي امضى مسيرة تمتد الى اكثر من خمسين عاما في الفن والجمال وكان علامة فارقة بين الرسامين العراقيين والعرب وتشير الى ريادته لفن الطباعة في العراق و العرب والى انه يعتز بتاريخه، والى أن الكثير من أعماله ذات مدى بعيد في التجريد، و أنها تبقى ذات روح عراقية ومرتبطة في البيئة المحلية للفنان ومخزون ذاكرته الشخصية، فتبرز في الكثير من لوحاته ثلاثية النهر والسماء والنخيل، فالناصري يبقى وفيا لكل ماهو شخصي وجوهري، وحتى الأشعار التي يوشي بها الكثير من أعماله بطرق مبتكرة ومنها قصائد للمتنبي وابو زريق البغدادي وابن زيدون تتضافر مع رسالة اللوحة ومرتكزاتها الجمالية والانسانية لتعبر عن الحنين والشوق وفقدان الوطن والحبيبة، وؤكدون انه علم من اعلام الفن العراقي وهو مدرسة في فن الحفر العراقي، عميق ودائم البحث عن القيم الابداعية و الجمالية و الفكرية التي تنير الطريق الى طلابه ومريديه.


ويعد رافع الناصري.. واحد من أهم الفنانين العراقيين المعاصرين، ويؤكد زملاؤه الفنانون انه قدم للفن التشكيلي العراقي الكثير من القيم والأبداع الراقي، وتأسفوا ان يغادر إلى مثواه الأخير وهو في الغربة ومن دون أن يلقوا النظرة الأخيرة عليه، وهو الفنان الذي يصفه البعض بأنه رﺟﻞ اﻟﻄﺒﯿﻌﺔ،الذي لا تكل ﻋﯿﻮﻧﻪ ﻋﻦ اﺳﺘﻘﻄﺎب ﻣﺌﺎت اﻟﺼﻮر ﻟﯿﻀﻌﮫﺎ ﻓﻲ اﻟﻠﻮﺣﺔ وأﺻﺎﺑﻌﻪ ﻻ ﺗﻤﻞ ﻣﻦ ﺗﺤﺪي اﻷﺟﺴﺎد،فوضعوه في المكانة التي يجلس عندها ﻓﻦ اﻟﺴﻌﺎدة واﻷﻧﺎﻗﺔ واﻟﺠﻤﺎل واﻟﺮﻗﻲ، ومن ﻟﻢ ﻳتعلم منه اﻟﻔﻦ ﻓﺈﻧﻪ تعلم منه اﻟﺨﻠﻖ اﻟﺮﻓﯿﻊ.، وبيمكن اقتباس ما كتبه الكاتب علي عبد الامير عجام في نعيه للراحل : من حق الموت ان يفخر انه هزم الجمال النادر في العراق،قد اختطف فجر اليوم ايقونة الجمال: رافع الناصري.


اخر معارضه كان استعاديا احتضنها المتحف الوطني الاردني للفنون وحمل عنوان quot;رافع الناصري.. 50 عاما من الرسم والطباعةquot;.، ضم اكثر من 90 لوحة فنية مختلفة الاحجام وهي بعض من اعمال انجزها الناصري منذ بداية مسيرته الفنية عام 1960 في بغداد وعمان والصين،وتميزت اعماله بأساليب جمعت بين الرسم الزيتي، والتخطيط والحفر على الخشب والزنك، والتقنيات الطباعية المختلفة، وهي تمثل تجربة الناصري الابداعية، وريادته في فنون الطباعة عراقيا وعربيا على مدى خمسين عاما مضت.
ولد الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري في العام 1940، ودرس في معهد الفنون الجميلة في بغداد من عام 1956 حتى عام 195، وفي الأكاديمية المركزية في العاصمة الصينية بكين من عام 1959 حتى عام 1963، وتخصص في الغرافيك (الحفر على الخشب)، وفي عام 1963، أقام أول معرض لأعماله في هونغ كونغ، وبعد عودته إلى بغداد، درس في معهد الفنون الجميلية إذ كان فنه واقعيا تشخيصيا.
وسافر الناصري إلى البرتغال في العام 1967، ودرس الحفر على النحاس في (غرافورا) لشبونة، في هذه الفترة اكتشف جماليات الحرف العربي وأدخلها في تكوينات تجريدية، كما أكتشف الاكرليك واستعمله بدلا بدلا عن الألوان الزيتية، و بعد عودته إلى بغداد في العام 1969، أسس جماعة (الرؤية الجديدة) مع عدد من الفنانين العراقيين، وشارك في تأسيس تجمّع (البعد الواحد) مع شاكر حسن آل سعيد
وترك رافع الناصري بغداد في عام 1991، ودرّس في جامعة إربد في الأردن وساهم في 1993 بتأسيس محترف الغرافيك في دارة الفنون في عمّان، وأشرف عليه لبضعة سنوات، وفي 1997 درّس في جامعة البحرين وأصبح مديرا لمركز البحرين للفنون الجميلة والتراث، وأقام في المنامة عام 1999 معرضه المهم (عشر سنوات... ثلاثة أمكنة)، ثم عاد وأقام في العاصمة الأردنية عمان مع زوجته الكاتبة والشاعرة والناقدة الفنية مي مظفر.
تقول عنه الشاعرة بشرى البستاني : رافع ولد فنانا بوعي إبداعي تؤازره مثابرة دؤوبة برصانة متأملة باحثة عما يحرك قواها الإبداعية بقوة، مثابرةٌ ظلت مخلصة للفن وقضاياه ؛ ولذلك كان من الصعب على هذه الأصالة المرتكزة على أدوات معرفية وخبرات إنسانية معمقة ان تعتمد قفزات سريعة كون القفزة العاجلة لا تستوعب ولا تأخذ مداها الزمني لتتمثل ما عاشت ورأت وقرأت. فضلا عن كونها تحتاج لقناعات حقيقية بما يسوغ لها تحولاتها الفنية، فالتحول لن يكون أصيلا إلا إذا كان صميميا بمعنى أنه ينبع من حاجة الفن نفسه حينما يرفض أن يكرر منجزه تكرارا لا وظيفيا، وكانت المناهج في زمن دراسته بلشبونة والنظريات النقدية والفنية والمذاهب الأدبية تتطور بسرعة لا معقولة، والحضارة وادواتها المعاصرة وتقنياتها الهائلة تتقدم بشكل مذهل، وصارت الدوال بؤر الاهتمام الحقيقية، الدوال وحدها في الحضارة المعاصرة منطقة تقف بين الدهشة والمعنى، والدال في لعبة التشكيلي رافع الناصري هي اللوحة، واللوحة مستقرة بخطوطها والوانها، بينما القراءة متحركة، النص مدونة مستقرة لكن نظريات القراءة له بالمرصاد، لا يمكن لقراءتين أن تتطابقا حتى لقارئ واحد للنص الواحد، واللوحة عالم متكامل، لكنه قابل للتفكيك والتحليل والتأويل، ولوحات رافع سواء بألوانها المشرقة أو خطوطها الداكنة طاقة فنية هائلة معبرة عن حياة متداخلة اختلط فيها الحابل بالنابل والأخضر باليابس وانفجرت إيقاعاتها بحكم زمنيتها المتشظية والهائلة السرعة في التطور الخارق، من هنا نجد لوحته تمنح جمالياتها للناظر، لكن لا تعطي مفاتيحها إلا بيد الفاتح الماهر.
اما الفنان شوكت الربيعي فيقول عنه : يمثل رافع الناصري أحد الشخصيات البارزة في الجيل الثاني من التشكيليين العراقيين، جيل ما بعد جواد سليم وفائق حسن، ولعله يمكن أن يعتبر ذلك الامتداد الحديث لفنان المنمنمات العراقي القديم يحيى الواسطي، بطاقته الفنية الهائلة وقدرته على بناء عالم خاص في لوحته، نكهة تميزه، وتخصه، وهو الشيء الذي يفتقر له الكثير من الفنانين العرب، يقدم الناصري خليطا مدهشا من تطويع التقنيات الحديثة في القوالب الأصالية، ليخرج بعالم متخيل بقدر ما يمس الواقع ويجد مكانه في الروح، تنوعت مصادر ثقافته الفكرية والبصرية،... كما يكشف الكتاب عن سر الغزارة في إنتاج الفنان وطبيعة رؤيته وموقفه الشعري من الوجود والكون. فهي انعكاس لتنوع خبراته متنقلاً, دراسة وعملاً، مابين الشرق والغرب: بغداد ثم بكين، والبرتغال ثم النمسا وإنكلترا، فضلاً عن تجارب حياتيه متنوعة، تكاد تكون استثنائية أحياناً، لترفد جميعها نهر انتاج تتغير ملامح التعبير فيه، وإن بلطف وتدرج، تبعاً لقسوة الظروف التي يمر بها العراق، من غير أن تفارقه روح الأمل في مقارعة القبح بالجمال.
وقال الناقد فاروق يوسف عنه : رافع الناصري رسام حدسي. يضع يده على القصيدة فتبتل أصابعه بمعانيها الداخلية. بالنسبة له فإن الطبيعة لم تكن سوى قصيدة لم تُكتب بعد. من اللغة يستعير أحياناً حروفاً، كلمات، جملاً. ولكنه لا يبحث عن السياق الواقعي الذي يمكنه أن يكون ملاذاً لاستعاراته. يهرب بما قرأه لكي يكون مخلصاً لما رآه في وقت سابق. لديه يمتزج الفكر والنظر ليشكلا قوة خلق. لن يكون مجال الصورة هنا محصوراً بالتأويل، سيقع ما لا يمكن أن يتوقعه الفكر. ستتمكن الصورة من القبض على الجمال باعتباره حقيقة مثالية. هنا بالضبط ترتجل حواسه بوصلتها الواقعية.
واضاف : يقف الناصري على الضفة الأخرى. هناك حيث تقف القلة الملهَمة من الناجين. ولكن كفاحه يسبق كفاح تلك القلة، من جهة ثقته بنبل مسعاه الروحي. كان الرسام رائياً لمصير لم تعد البشرية تكترث به. ولأنه لا يرى في الرسم نوعاً من الرثاء فقد اتخذ من الصبر وسيلة لتفكيك ما يرى وإعادته إلى أصوله التجريدية. تكون الحياة صالحة للعيش بالقدر الذي تبرر وجودها من خلال الفن.