عندما نشرت مقالي الاخير في ايلاف، قبل ايام عن quot;الهويات المعمارية المصبوبةquot;، لم يدر في خلدي، باني ساعود مرة اخرى، وبسرعة، الى موضوعة المقال، الاثيرة لدي، والخاصة بالهوية المعمارية: مغزاها ودلالاتها ومعناها وتمظهراتها في المشهد المعماري. علما باني اعتبر تلك الثيمة، من أهم القضايا النظرية التى بها يمكن quot;رفعquot; الممارسة المعمارية عالياً، او الانحطاط بها نحو الحضيض، وفقاً لنوعية ادراك تلك الثيمة اوتفسيرها. في تلك المقالة اشرت الى خطورة المعنى والى خطورة الدلالات لمفهوم الهوية، وبالتالي الى خطورة الناتج المعماري المتمخض عنهما، عندما اشرت بان quot;.. لا يمكن فهم الهوية (ونحن هنا، نقصد بالطبع الهوية المعمارية)، فهماً آحادياً. والاهم لا يتعين التعاطي مع الهوية كمعطى يمنح quot;مرة واحدة والى الابد، وبشكل يعلو على التاريخquot; كما يكتب صلاح سالم (الحياة في 16/12/2008)؛ ذلك لان الهوية مثلما هي متعددة، فانها ايضاً، محكومة بحتمية سياق تعاقب الصيرورات المستمر، وهي بهذا المعنى تستمد تعدديتها وتشكيلات صيرورتها، من جهد المعماريين الدائم، هم الذين يرصدون في نتاجهم متغيرات العصور، تلك المتغيرات التى يتمخض عنها اساليب تقنية متقدمة، وذائقة جمالية متحولة. لكن ما يضفي على الهوية المعمارية مصداقيتها والاحساس بالانتماء اليها، هو ما توفره في النتيجة من فائدة ومتعة الى المستخدم او الى المتلقي على حدٍ سواء. وهي بهذا تسهم في تقدم شعوبها والامم الاخرى مؤدية قسطها في اثراء المنجز المعماري العالمي وتكريس تعدديته. ومعيار المنفعة المضاف اليه المتعة، هو ، كما نرى، المعيار الموضوعي الذي يضفي على الهوية، اية هوية، حيويتها ويحدد قيمتها. وبالنسبة الى الهوية المعمارية، فانه يشكل المبرر الرئيس، وقد يكون المسوغ الوحيد لحضورها (اي حضور الهوية) في المشهد. بخلاف ذلك فان مفهوم الهوية، او بالاحرى quot;معناهاquot; المتجمد وquot;المصبوبquot; يضحى اداة للنكوص بدلا من التقدم. مثلما نراه اليوم رائجاً عند فئات اجتماعية عديدة، تسعى وراء توظيف ذلك المعنى من اجل الدفع نحو التخلي عن افكار الاصلاح والتحديث، بل ومحاربتهما، والجهر للدعوة الى تبني افكار ماضوية بحجة الدفاع عن الهوية و الحرص على استدعائها لتكون الطرف المهيمن، إن لم يكن الوحيد الصائغ للتكوينات التصميميةquot;.
لكن مثل هذا الادراك، او المفهوم، يبدو لم يكن وارداً عند مصمم سفارة العراق،التى افتتحت مؤخرا في المنامة بالبحرين بتاريخ 5/12/2013 بحضور جمع من المحتفلين. (خبر الافتتاح على الرابط الآتي: http://alakhbaar.org/home/2013/12/158724.html ). فالمبنى المتحقق، في اعتقادي، يحمل ما يمكن ان يؤكد اطروحة النكوص التصميمي، الناتجة عن مفهوم quot;الهوية المعماريةquot; المتجمد ومعناها quot;المصبوبquot;. ماذا نرى في عمارة المبنى، الذي لم يسعفني احداً في الاستدلال الى إسم مصممه (الخبر المنشور لا يذكر اسم المصمم، لكنه يشير الى ان مبنى السفارة quot;معلم وصرح معماري في المنامة، ويجسد حضارة العراق العريقة وبوابة عشتار والطراز البابلي (!!)، من دون ذكر لاسم المصمم او المكتب الذي quot;ابتدعquot; هذه التحفة المعمارية!)؛ نرى اقتطاعات سريعة لاشكال ورموز بابلية، كانت قد اجترحت قبل حوالي 2600 سنة، واستعملها quot;المصممquot; بدون اية محاولة منه لتفسيرها او تأويلها ضمن متطلبات العصر الحاضر الذي نعيشه. والسؤال، قبل ان اصف عمارة المبنى، يظل قائما، كيف تم اختيار هذا التصميم؟ من هي الجهة المخولة في اعطاء الضوء الاخضر لهذا النوع من quot;التلفيقquot; المعماري؟ ذلك لان تصميم سفارة للعراق، ليس بالامر العادي او اليومي، بحيث تمر حادثته من دون معرفة الوسط المهني بذلك. ومرة اخرى، هل تم إتباع التسلسل المنطقي والمهني في مثل هذه الاحوال؟ اعنى هل تم اعلان عن مسابقة معمارية لتصميم حدث مهم ومؤثر، كحدث تصميم سفارة في بلد آخر؟ وبالتالي إختيار المشروع المؤهل والناجح لهذه المهمة؟ هل تمت دعوة مكاتب معمارية ذات سمعة مهنية عالية للقيام بتلك المهمة، في حالة تعذر او عدم الرغبة في تنظيم مسابقة معمارية؟ فوزارة الخارجية، وهي الجهة المستفيدة، معنية قبل غيرها من المؤسسات العامة، في اتباع التسلسل المهني الرصين للوصول الى التصميم الملائم والناجح، كونها الوزارة التى تمثل، في الاخير، واجهة العراق الرسمية للعالم، وتعكس له طبيعة مؤسساته. (رغم اني اشك، بان مثل هذا حدث، او جرى تطبيقه فعلياً، نظراً للنتيجة المخيبة للآمال، الماثلة امامنا والتى عكستها quot;نوعيةquot; التصميم المنفذ! واذا صحت شكوكنا تلك، فثمة تساؤل لابد وان يبرز هنا، فيما اذا كانت وزارة الخارجية quot;السياديةquot; lt;كما تلقبgt;، بمقدورها ان تتجاوز اساسيات العمل الاستشاري واشتراطاته بمثل هذه الخفة الكبيرة، فماذا يرتجي من الآخرين، اذاً؟!)
عنما يشاهد المرء، اي مرء، عمارة السفارة اياها، والرموز المستخدمة فيها، واسلوب تنطيق تلك الرموز في المعالجات المقترحة، لابد وأن يحضر الى الذاكرة مفهوم quot;الشعبويةquot; Populist، وهومفهوم يختلف عن quot;الشعبيةquot; Popular. انه مفهوم يعكس نزوع quot;ايديولوجيquot;، يعني فيما يعنيه، تمجيد quot;الابتذالquot; والسخرية من الحلول الجادة والتهكم على اصحابها.. وهو اضافة الى ذلك، يروج لحلول تبسيطية عادة ما تكون وهمية وكاذبة للمشاكل المعقدة التى تواجه مجتمعاتها. معمارياً: يتمثل ذلك المفهوم بصيغة من صيغ انحطاط الذوق الفني، والاعلاء من شأن رموز شائعة ومتداولة بكثرة لدى فئات منحدرة، في الغالب الاعم، من قاع المجتمع، والتبجح بإظهارها باساليب فاضحة ومستفزة. وغالباً ما تحتفي بالصدفوية، وتتقبلها على حساب العمل المهني الجاد والمحترف. انها باختصار تسعى وراء التلفيق والتوفيق الذي يفتقر الى العقلانية، ويفتقد كلياً الى الابداع.
لا quot;يعيشquot; مصمم السفارة في وقتنا الحاضر. انه quot;عاشقquot; التاريخ الماضوي، الذي يراه منزهاً، ونقياً، وصالحاً لكل العصور والازمنة. فلغة عمارته، فضلاً، على انها quot;بابليةquot;، فهي quot;تتوقquot; لان تكون quot;تلفيقيةquot; lt;إيكلكتيكgt; Eclectic، ايضاً، تستقي quot;مرجعيتهاquot; التكوينية من بعض المصادر الحديثة. لكنها تدلل، في الوقت عينه، على معرفة غاية في التسطيح لخصائص لغة التيارات المعمارية المعاصرة واساليب تنطيقها، ولاسيما ما نراه مجسداً في معالجة مفردات الطابق الاول، فضلاً على علاقة ذلك مع عناصر الطابق الارضي، التى تغيرت، فجأة، اشكال هيئاتها التشكيلية ، بصورة تظهر نوعية ومستوى quot;مقدرةquot; المعمار التصميمية، باوضح تجلٍ لتلك المقدرة! وانا، هنا، لا اتحدث عن معالجات تنظيم الفضاءات الخارجية، وشكل النافورة، ونوعية القطعة النحتية وموقعها فيها، والتى quot;اجتهدquot; المصمم في ايصال تصوراته لنا عن طبيعة الحلول التكوينية التى بحوزته! فهذا متروك للمتلقي، عليه وحده ان يقيمّ ما quot;اجترحهquot; المعمار.
تظل عمارة السفارات، من الاعمال المميزة، التى يطمح المعماريون الى ان تكون ثقافتهم، وابداعاتهم، وحتى فكرهم حاضراً في صميم العمل التصميمي المبتدع. لكن بنوعية الثقافة العالية، والابداع الفريد، والفكر الذي يحترم quot;الآخرquot; ويتقبله. كما يسعى المصممون وراء ايجاد روابط عديدة، ينتقونها من السجل التاريخي، ببراعة، موظفين دلالاتها ومغزاها بتأويلات ذكية في مبانيهم . يتوق كثر من المعماريين، ان تكون ابنية سفاراتهم، جسراً يوصل ثقافة وحضارة البلد الذي يعود له مبنى السفارة، مع ثقافة وحضارة البلد المضيف. في احيان، يغدو احترام ثقافة الدولة المضيفة، وشواهد بيئتها المبنية، نبعاً اساسياً لتفسيرات، يمكن بها ان تكون جوهر المقاربة التصميمية لمبنى السفارة المبنية في ذلك البلد الغريب، بعيدا عن مبالغات حضور quot;الاناquot; المتضخمة، المتجاهلة للآخر، والمعتمّة على انجازاته. في هذا الصدد، نرى بان معمار السفارة العراقية في المنامة، كان عليه ان يجد في تاريخ البحرين القديم (طالما هو متحمساً، كما يبدو، للتاريخ، وشغوفاً به!)، نوعا من الصلة التى تربطه بتاريخ ما بين النهرين، lt;وهي علاقة حقيقية غير مختلقة، فالمخطوطات السومرية القديمة اشارت الى البحرين باسم quot;دلمونquot;gt;، ان يجد في تلك الصلة، حافزاً وباعثا لقواسم مشتركة، يبنى عليها منصة الانطلاق التصميمي لعمارته، حتى يكون منجزه عند ذاك quot;معلما وصرحا معماريا في المنامةquot;، كما ورد في التقرير المشار اليه تواً.
ليس لدي شكوك، في ان معمار السفارة، استطاع ان يتمثل في تصميمه المقترح احد اوجه quot;العمارة الشعبويةquot; الاكثر ركاكة والاكثر ضجراً، وان يعبر عنهما بصفاء ووضوح نادرين قلّ نظيرهما. انه لإمر مؤسف حقا، في ان العراق، الذي يمتلك نخبة من المصممين الاكفاء، إن كان ذلك لجهة الخبرة المهنية، ام لناحية المقاربات التصميمية المبدعة والحداثية، والذين يفتخر بوجودهم المشهد المعماري في كل دول الاقليم الذي ننتمي اليه، ان يكون مآل كل ذلك، مختصراً في ممارسة معمارية، quot;طفحتquot; برائحتها الشعبويه فضاء المكان! منتجة نموذجها التصميمي الممل، الغارق في عاديته، المتمثل في quot;واقعةquot; عمارة مبنى السفارة العراقية في المنامة.
لا يتعين، اخيراً، ان تفهم تقييماتنا السلبية لعمارة المبنى، وكأنها تجريح شخصي للمصم، او اساءة اليه. فهدف المقال وغايته، ليس هذا بالتأكيد. اذ لكل منا مقدرته وإجتهاداته ومعارفه الخاصة، التى تشكل نوعية مقاربته التصميمية، وهي بالطبع ليست مدار مساءلة او تفضيل. فانت لا يحق لك ان تطلب من الجميع ان يكونوا بمستوى ما تأمل او تتوقع. بيد ان المسألة، هنا، ليست في هذا الجانب. المسألة هي في اخذ المعمار على عاتقه لمهمة، بدت، وكأنها اكبر من طاقته ومقدرته التصميمية. وكان عليه ان لا يخوض غمارها، في الشكل والنوعية التى اقترحها لنا. فعمارة السفارة في النهاية، هي اختزال لتصورات تصميمية وجمالية لذائقة جمعية، عنوانها: العراق. انها lt;مبنى عامgt;، وليس خاص، يمكن للمصمم ان يجترح ما يريد على هواه. ولكونها بتلك الصفة، فعليه، بالتالي، تحمل وزر انتقاء قراراته التصميمية، وسماع النقد الموجه لها، خصوصاً في عدم تساوق عمارة المبنى المتحققة، مع تلك الطموحات النبيلة. وتبقى الحكمة، التى يمكن استخلاصها، من تلك quot;الحكايةquot; غير النبيهة، يكمن في عدم تكرار مثل تلك الممارسة وتجاوزها، والتعلم من اخطائها!.
معمار وأكاديمي