بعضُ الكلم يا مُحمد يرجو انعتاقا، كدمع حبسناه في الجفون.

المرأة التي جلست على طرف الرصيف كانت تبكي، انحنيتُ عليها، وضعتُ يديَّ على ظهرها، فمَسحتْ عينيها بطرف منديل يغطي رأسها و قالت : يَشقّ عليَّ صغاري، مذ ضحك سنهم يَشقوَن.
قدموا أفواجا كيوم الحشر، كالقيامة، يبحث بعضهم عن بعض. من كل حدب و صوب جاؤوا، كانوا ممزقين منهكين باكين.
و كنتَ مُنهمكا....
كانوا مرهقين و تائهين، حملتَ معهم همومهم، أنجزت كل الأعمال، حتى صنابير الماء ضاعفتها أضعافا، حاولت أن تفعل كلّ ما يخفف عنهم ألمهم و بؤس عيشهم، أحبوك صغارا و نساء و كبارا.
هل أخبرَتكَ أمك يا مُحمد عن الحي القديم، كان ذلك في زمني الحالم البرىء، قبل المدرسة، قبل المعلمات الساخطات، قبل مساطرهن المقرفات المريعات، قبل الأسوار، قبل الباب الأسود القبيح.
كانت أمُك صبية من عالم الكبار، كانت أكثر من أحببتُ في الحي القديم من الكبار، كان صوتها صفصافاً و جدولاً، كان إخضراراً ورسماً على نسج من حرير، أنيقا أبيضا كلونها المخملي البديع.
ألم تحدثك أمك بأنها كثيرا ما كانت تقول لي حين كنتُ صغيرة، بأنَّ أثوابي جميلة، و أنّ شعري جميل، و أنّها تريد أن تستعير ضفائري الذهبية.
في الحي القديم حين كنتُ صغيرة كانت شجرة البرتقال في دارنا كبيرة كبيرة، و كانتْ عجوزً هرمةً شجرة التين، و الشارع كان طويلا، عند تقاطع الزقاقين كنتُ أراها مشرقة كشلال صافٍ، نقية بيضاء صافية.
في يوم من ذلك الزمان البعيد، عرفتُ أنّ بيتهم كانَ حزينا، تحرك الكبار بجلبة، خرجوا و دخلوا، ذهبوا إليهم و عادوا إلى بيتنا، و تحدثوا طويلا، كانوا يقولون بأنّ والدَ أمك قد مات، الذين يزورونا في منزلنا قالوا ذلك بالشركسية، و قالوه بالعربية، و أنا عرفت بأنه قد مات بكلا اللسانين، و لكني لم أفهم معنى الموت بأيٍّ من اللغتين، عصى الموت على فهمي، لم أدرك لماذا يكون الموت أمرا حزينا...
يا ليت الموت لا يكون حزينا.........
قالوا إنَّه كان نزيها و شريفا، قالوها بكلا اللغتين، و لم أفهمها بأيِّ من المعنيين، فسرها لي الكبار فزادوا إبهامي إبهاما. كبرتُ فعرفت أنها تعني أن تكون نظيفا من داخلك، نظيفا في روحك.
في وطني ليس من حقوق الإنسان أن يكون نظيفا، كانت النظافة أمرا غير هين في الزمن الذي مضى، و صارت أصعب من شوك القتاد، و ما القتاد إلا المشقة لدرجة المستحيل، و المشقة لدرجة المستحيل كالموت الزؤام.
تذكرت بالأمس ذلك الفتى من أبناء اللاجئين في المدرسة، هل تتذكره يا محمد، دخل غرفة الإدارة، كان يلوح بيده (بالماغ) الكبير الثقيل قائلا : وجدت في الباحة هذا الإبريق يا أستاذ. ضاحكه بعض الحاضرين فضحك. لقد ضحك كثيرا.
هذا الفتى الذي رأى ما لا يستطيع أن يراه جيلا من البالغين، واحتمل من المشقات ما لا يحتمله البالغون، يضحك ببراءة و طفولة. يحدث أن يضحك الناس أحيانا وهم يبكون. بعض الشوك يحمل ثمرا و ياسمينا.
في الحي القديم، في الزمن البعيد، جاء أهل أبيك ليأخذوا أمك عروسا، تحَدثت الناس بأنهم دخلوا الحي هادئين، كادوا يهمسون، لم يطلقوا الزغاريد و الهناهين من أجل عروسهم، أخذوا عروسهم و مضوا صامتين، قالت الناس أن ذلك تقديرا لمشاعرنا، فأبي كان قد توفي قبل شهر و نصف من زفاف أمك.
أنت وُلِدتَ و نشأت في الحي الجديد يا مُحمد، لا تعرف شيئا عن الحي القديم، و ليس لديك ذكريات عنه.
أذكر أنّ النسوة في الحي القديم ذَهبنَ، ذهبن زمرا و فرادى، ذهبن إلى حيٍّ بعيد، قُلنَ بإنّ أُمك قد وَلدت صبيا جميلا أبيضا، و أنها أسمته مُحمدا....
....دخلتُ المدرسة، فتجمعت النساء و الأطفال من حولي، أغلب اللاجئين نساء و أطفال، ما أكثر النساء والأطفال، إنهم كُثرٌ مثلما الفقراء في كل الأماكن كثيرون.
سألنني عنك، أجفلتُ من سؤالهن و انقبض منه قلبي....
لماذا يسألوني عنك و أنت تقضي كل أيامك بينهم؟ لا تغادرهم لترى أمك إلا قليلا، أشفقوا هم عليك، و أشفق عليك كل المتطوعين، قالوا لك لقد أفرغت كل شيء فيك من أجلهم، فما أنت بقادر أن تفعل أوسع مما تعطيك السماء.
أخبرنني بأن رجال الأمن أخذوك، المؤتمنين على البلد أخذوك، لأنك قمت طوعا بتقاسم المشقة والألم والشقاء مع البائسين، و قمت طوعا بمناصفتهم راحتك ......
دعين لله أن يفك أسرك.
كان صوت أمك حين مررت بها ساعة أخذوك، هادئا متصبرا شجيا.
في كل يوم ملايين ملايين القلوب تلهج في وطني بالدعاء، لكن السماء أغلقت الأبواب و طردتنا، و مليارات البشر على الأرض، من كل فصائل البشر، صمت آذانها و أسدلت الستائر وأغلقت الأبواب و نَسَتْنا، لا أحد يريد أن يقلقه ضميره، يريدون أن يناموا هانئين، أليس الشاعر درويش هو القائل ( ليس من حق العصافير الغناء على سرير النائمين)، كان يعرف جيدا عما يتحدث، يعرف أكثر من الآخرين. لا يحق للمتألمين أن يزعجوا بآلامهم أحلام الناس الناعسين.
فدعهم مستلقين أو نائمين.
ما دامت صرخات إحتراق الأطفال لم تقلق نومهم، فلن يقلق شيئا صحوهم.
السور الحديدي الخفيض بطرف الحديقة. هل تذكره؟ كان أخضرا، مرتْ عليه آخر نظراتي المودّعة للمدينة ساعة الرحيل، كان جزء منه محطما، وقعت قذيفة في ذلك المكان.
في كل يوم في أحلامي أراه، تجتاحني الأحلام إجتياحا في كل نوم، تستلبني إستلابا، تهاجمني في كل أطرافي، أحلامي صارت صامتة تماما، ليس فيها أية أحداث، ليس فيها سوى ذلك السور الحديدي الأخضر، أراه في حلمي وحيدا. عبر سنين طويلة في الحي الجديد كنتُ أراك مستندا إليه، كنتَ تنتظر حافلتك المدرسية صغيرا، ثم صرت تنتظر حافلةَ عملك كبيرا، في كل الأوقات كنتُ أراك هناك، تلقي عليَّ التحية ثم تعود إليه.
في الأحلام المروعة التي تجتاحني أرى السور وحيدا، وحيدا حتى الصقيع، وحيدا حتى الموت، أراه وحيدا بأحلامي الصامتة، و لكني أراه سليما، كأن الصاروخ الذي وقع عليه لم يقع، و كأنه لم يدمر، و لم تتحول الحديقة لمقبرة شهداء.
لا أعرف متى كبرت يا مُحمد، أخبرْتَني حين حدثتك عن طفلٍ وُجد بين الأنقاض بدون أم و لا أب بأنك تريد أن تتبناه، تريد أن تربيه تربية فاضلة، و تجعله إنسانا فاضلا، خلوقا نظيفا كالملائكة، قلتُ لكَ أتريده ndash; سدهارتا- لهذا الزمان، و هل يتسع الوقت - للنيرفانا - في هذا المكان، كل الأزمان يمكن ان تتسع للتنور و كل مكان، أمّا حين تنقضّ أنياب الوحوش بجنون في أجساد المسالمين، حين ينطلق جنون الإفتراس ليمزق أجساد الوادعين، لا مكان لتنَور المتنورين، إما أنْ تَقتل أو أنْ تُقتل. العزّل يُقتلون.
و كنت دوما أعزلا.....
.....لقد أخبروني يا مُحمد، بأنّك قد .....
لا أريد أن أُصدقهم، لكنّ الأحلام تجتاحني و تستبيحني، و أرى سور الحديقة وحيدا، وحيدا حتى الصقيع، و حيدا حتى الإفتراق، وحيدا حتى الموت.
عندنا في قومي يا مُحمد، يقولون أنّ الكلمات إذا نُطقت صارت واقعا، عندنا يعتقدون أن أصل الواقع كلمات، هم يتجنبون النطق بما يَخشَون أن يكون، و بما لا يُحبون، و أنا أخشى أن أنطق تلك الكلمات، حبستها في جوفي. تعذبني تلك الكلمات.
القنوات الفضائية قالتها، قالتها مرارا و سمِعتُها بأُذناي.
مغلوبةٌ أنا و كل شيءٍ فيَّ مغلوب.
مغلوبٌ أنتَ والوطن كله مغلوب. مغلوب على أمره.
دعهم نائمين، لقد مُسخوا على مكانتهم، دعهم في استلقائهم، و هل أسوء من أن تُمسخ عنهم إنسانيتهم فلا يستطيعون مضَيا ولا هم يرجعون.
لا...... ، لا و ألفُ لا .
لا غالبَ إلا الله، لا غالب إلا الحق، لاغالب إلا النور، لاغالب إلا الشفقة، لاغالب إلا الرحمة.
الذين يَغلبون بالقوة يَخسرون، و الذين غُلبوا على أمرهم - من بعد غَلبهم- سوف يَغلبون. برحمتهم و شفقتهم سوف يَغلبون.
يا أخي الأصغر، يا ابن صديقتي و حبيبة قلبي و جارتي، يا ابن أكثر من أحببت في الحي القديم من الكبار.
كلمتُ أمك، لم أستطع أن أنطق حرفا واحدا، اختنقت الكلمات في حلقي و تدافعت الأحزان كلها معا، و اندفعت معها الذكريات حتى أمسَكَتْ بفكي و شَلتْ لساني. كان صوتها مخمليا حنونا هادئا دافئا، لا متوسلا ولا مرتجيا، كان شجيّا.
كلَّمتها كي أواسيها فيكَ، فواستني في نفسي، كلَّمتها كي أخفف جراحها فضَّمدتني، و أخرجتني من حزني و من ألمي.
رأيتُ السور في حلمي، كانَ الحلم ناطقا، فيه أصوات زقزقة عصافير، عصافير كثيرة، سمعت صوتها و أدركت حضورها لكني لم أراها بعيناي، و رأيت السور سليما، و خلف السور كانت الشجيرات كثيفة يانعة، وكثير من النباتات و الأعشاب تتزاحم بزخم و تغطي المكان، بعضها إتكىء السور و بعضها تعشَق و تسلق عليه، كانت كلها تتألق بالإخضرار العميق و النور.
لا لم يُغلبْ مُحمد ...
... فمُحمدُ مضى بإتجاه الأعالي، مُحمد مضى نحو طريق السماء، مُحمد مضى إلى النور الشعشاع، الذي لا يكون بعده ظلامٌ أبدا، فسلام عليه ( سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا)....