اسطنبول: اورهان باموق ظاهرة ثقافية تركية حفرت اسمها بعمق في واقع البلاد الثقافي بعد نيله لآرفع جائزة ادبية بالعالم وهي (نوبل للاداب) عام 2006، وعلى الرغم من تناقضات اراء الرجل واصطدامها مع ثقافات العلمانيين والاسلاميين في تركيا على حد سواء، الا ان لا احد ينكر براعته الادبية.. وجودة اسلوبه مع تعارضهم مع افكاره التي تناقش عادة حياة اسطنبول بين دولة الخلافة المتهاوية والدولة المدنية المقيدة.. المهندس المعماري الشاب بعد انهاءه الهندسة فالصحافة سافر للولايات المتحدة لدراسة الثقافة والفنون وعاد ليكتب مجموعة روايات ابداعية استثنائية ملهمة.. ولعل شهرته ارتفعت مع روايات اسمي احمر وثلج والكتاب الاسود واسطنبول (سيرته الحياتية) وهي نتاجاته الاخيرة التي امتدت منذ اواخر تسعينيات القرن الماضي حتى نيله نوبل.. وبعد نيله الجائزة وذياع صيته سرعان ما ترجمت اعماله لأكثر من ثلاثين لغة.. وازدادت شهرته بشكل رهيب.. وبقي العالم ينتظر جديد هذا الرجل.

ابداع ما بعد نوبل..
البعض يعتقد ان نوبل قد تكون النهاية، فأي تكريم سينتظره الكاتب بعد نوبل.. الا ان باموق نجح بتحقيق ابداع افضل مما كان قد حققه قبل نوبل، بالرواية والمتحف اللذان قدمهما لقراءه كوصفة سحرية للابداع.
في العام 2008 صدرت اخيراً روايته المنتظرة (متحف البراءة) وسرعان ما حققت اعلى المبيعات قبل ان تترجم للانكيزية والفرنسية والالمانية والعديد من اللغات الاخرى.. والغريب وبعد ما يزيد عن اربع سنوات من صدور هذه الرواية لم تترجم الى اللغة العربية بعد!

بين الرواية والمتحف..
هناك حكاية تقول بأن الروائي بعد نيله نوبل يتقاعد ابداعياً.. فما الذي سيناله اكثر من نوبل!.. الا ان باموق شذ عن القاعدة.. وبعيداً عن الاعمال التقليدية التي ينتجها روائيوا ما بعد نوبل.. قدم اورهان باموق عمل اكثر من رائع بل هو استثناء مدهش في عالم الرواية، في العام 2008 نشر باموق روايته الجديدة (متحف البراءة) ليلحقها لاحقاً.. بأفتتاحه لمتحف يحمل ذات العنوان (متحف البراءة) ليحقق لآؤل مرة ربطاً بين متحف لرواية.. او رواية لمتحف!
وفي مؤتمر صحفي رعاه باموق بنفسه افتتح متحفه العجيب بعد عامين من توزيع روايته بنسختيها التركية والانكليزية.. وحدث الصحافة عن فكرته.
اورهان استوحى فكرة المتحف من عيشه لروايته ومن شغفه العاطفي بالمتاحف.. اورهان يقول انه عاش طفولته بمدينة تحتوي العديد من المتحف (اسطنبول) الا ان المتاحف بها صروح تاريخية قديمة.. اما عندما سافر لآوربا وزار متاحفها بتسعينيات القرن الماضي انبهر بذلك التنوع في عالم المتاحف.. لقد ادرك من خلال زيارة العديد من المتاحف الصغيرة بأن واقع هذه المتاحف كالقصص كالروايات فهنا يتحدث عن شخص وهناك من يتحدث عن حالة.. بعبارة اخرى لقد ادرك باموق بأن التاريخ قادر ان يؤرخ بمتاحفه للبساطة للانسان العادي، كما هي قدرته للتأريخ للملوك والممالك.. قد وجد المتاحف تحفل بالمقتنيات الرخيصة البسيطة وليس فقط بالمجوهرات والمقتنيات الثمينة، وخطرت له حينذاك فكرة (لما لا اقوم بعمل متحف خاص لي)، وبعد سنوات تحققت الفكرة مرتبطة برواية من روائعه.
يبين باموق وجهة نظره بالمتاحف العالمية كاللوفر، المتروبوليتان، قصر توبكابي، المتحف البريطاني أو متحف البرادو، او الارميتاج فعلى الرغم من كونها جميعاً كنوزاً للإنسانية.. الا انها تؤرخ للامم للحضارات للحكومات.. ولا تؤرخ للانسان العادي.. وباموق يعتقد بأن التأريخ لحياة الانسان الفرد اهم.. فمتغيراته قادمة من اعماق الانسانية.
بالتالي فباموق اختار ان يؤرخ للانسان العادي.. وحدد من ارخ لهم بأنهم ابطال روايته الرائعة (متحف البراءة) فعبر محاور الرواية العاطفية العميقة التي يحب بها (كمال) ابن العائلة الارستقراطية الثرية (فوسون) ابنة عمه التي تعيش مع عائلتها الفقيرة بأسطنبول، ويعيش الحب بينهما متغيرات العاطفة والفصول والاحداث وواقع البلاد لتغوص بعالم العشق والحب وبأرهاصات الحياة الثقافية بأسطنبول.. انها خلطة معقدة يجيد باموق بحرفنته الروائية التحكم بمقاديرها مقدماً رواية عاطفية تغوص بحياة ابطالها كمال وفوسون وبحياة شخوصها الاخرين وبحياة اسطنبول المدينة من خلفهم.. بجزئيات الحياة البسيطة.
كمال الذي عشق فوسون حد الهيام اصبح مهوساً بجمع او سرقة مقتنياتها البسيطة اي شيء منها اي قطعة تذكر بها اي ملبس يحمل رائحتها اي شيء من بيتها.. حتى اعقاب سجائرها.. لقد اصابه هوس حب هذه الفتاة التي لن تصبح يوماً له.
والمتحف عبارة عن 83 واجهة، واحدة لكل فصل من فصول روايه (متحف البراءة)، وتستعيد خطوة بخطوة قصة الحب المستحيل بين كمال وحبيبته فوسون، هذا الحب الذي يتحول على مر صفحات الرواية عند كمال إلى عشق للأشياء التي تحيط بحبيبته، ونجدها معروضة في المتحف، من قرط أذن فوسون الذي أضاعته في الفصل الأول من الكتاب، إلى فستانها الربيعي، وانتهاء بغرفة النوم التي قضى بها كمال ايامه الاخيرة حيث روى قصته على الروائي باموق.. ليحولها الاخير الى رواية.
رواية (متحف البراءة) هي الأكثر تجريبية من بين روايات باموق السبع السابقة، خاصة على مستوى الأسلوب، وهي ليست قصة حب تراجيدية فقط، بل انها حفر في ذاكرة البطل وعن ذاكرة مدينته إسطنبول، حيث يسرد الروائي فيها قصة تركيا المعاصرة من خلال التأمل في التاريخ، ليعود إلى الماضي العثماني، وعصر الجمهورية وتركيا كمال أتاتورك، رغم أن أحداث الرواية تبدأ عمليا عام 1975.
باموق تحدث عن متحفه معبراً بأنه يرتبط بالرواية بشكل وثيق ولكنه ليس تفسيراً لها.. بالتالي فأهميته ليست في طبيعة مقتنياته.. بل بمقدرة هذه المقتنيات على التذكير بأحاسيس القراءة.. فعلى حد وصفه (عندما نقرأ كتابا نذكر الأحاسيس وتأثير النص علينا والمشاعر التي أثارها في داخلنا، والهدف كان إثارة إحساس مماثل جدا، كذلك الذي يثيره الكتاب)، بالتالي فباموق يرى ان الاهم في الحياة الانسانية هم الناس وأشياءهم وليس أمجاد الماضي، والسلاطين والجنرالات الكبار.. فيقول (نقول إن حياتنا اليومية جديرة بالاحترام، وأشياءنا يجب أن نحافظ عليها، بما في ذلك تفاصيل حركاتنا وكلماتنا وروائحنا).
يال دهشة الرواية وغرابة المتحف التي تجعلك تتأمل بأعجاب جنونية الفكرة.. حيث تروى قصة الحب بين الاعوام 1975 والعام 2000، تلك الفترة التي شهدت بها تركيا ازدهاراً وتجدداً ورحيلاً للانظمة العسكرية الذين كانوا محط نقمة بطل الرواية كمال.. الذي يجن بحبيبته وينهار عشقاً لها بطريقة درامية عجيبة.. الرواية تسرد احداثها بين ذكريات العائلتين الثرية والفقيرة ومتغيراتهما التي تتردد على حوار بطليهما العاشقان.. فالمتحف هو محصلة لحظات عشق لفوسون.. ان مقتنيات الطوابق الثلاث للمتحف هي مكملة للمشاعر والاحاسيس والضحكات والدموع والأم والفرح الذي سيختلجك عند قراءة الرواية بصفحاتها الستمائة.. هنالك ترابط روحي عميق.
عبقرية باموق لم تتجلى بالرواية فقط بل بتحويله منزل (كمال) وهو منزل قديم (من ثلاث طوابق) لكنه صغير ضيق بني عام 1897 في احد ازقة باي اوغلو القديمة في منطقة تقسيم بأسطنبول لمتحف قدم به حياة ومقتنيات عصر الرواية ليضم مقتنيات فوسون التي جمعها من بيتها ومحيطها، وليحمل ذات الاسم (متحف البراءة) وكأنما اراد باموق ان تعيش روح الحكاية في اروقة المتحف الاستثنائي الصادم حد الدهشة.
حكاية عشق فوسون الجميلة الفقيرة ابنة مدرس التاريخ المتقاعد والخياطة البسيطة.. فوسون التي تنقلت بالاعمال كبائعة بمتاجر الملابس فقيرة بسيطة ولكنها ثرية بجمالها اللا محدود، وبحب ابن عمها الثري كمال الذي فقد ثروته هوساً بعشق ابنة عمه.. الروية هي سرد لما قصه كمال بصمجي على اورهان باموق حول حياته منذ ان كان في الثامنة عشر عام 1975 حتى العام 2008 حيث توفي كمال.. في المنزل الذي اقتناه عام 1999 لقربه من منطقة عمل فوسون.. ذات المنزل القديم الذي اصبح اليوم (متحف البراءة).. ان المتحف والرواية اسفاراً من الابداع المدهش. في داخل المتحف.. حيث الروح في كل الاركان..
البحث عن المتحف لم يكن يسيراً.. فبالشارع المحاذي لمدرسة غلطة سراي الشهيرة في شارع الاستقلال بمنطقة تقسيم وبأنحدار جبلي قاسي لطريق تقع المكتبات على جانبيه سرت منهكاً من شدة الجذب نتيجة لآنحدار الشارع الجبلي الضيق الذي بات يزداد قدماً كل ما تقدمت نحو اسفله.. وقبيل نهايته وعبر شارع فرعي صغير انعطفت يساراً وسرت خطوات قليلة لآجد البيت الاحمر القديم يرتكز مفترقاً للطرق بالغة الصغر.. وقد ثبتت على جداره لوحة عمودية تشير بأنه (متحف البراءة) وقد منح طلاء البيت الجديد هيبة ربما لتذكر بهذا الصرح عند بناءه قبل ما يزيد عن المائة عام.
اتجهت لقطع تذاكر الدخول فسألوني عن مهنتي فأخبرتهم بأني صحفي فردوا اذن دخولك مجاني! شكرتهم ودخلت وهنا اقترب مني شاب تركي عشريني فحدثني بالانكليزية معرفاً نفسه بأسمه (اورهان) فضحكت من المصادفة فأورهان موظف في متحف اورهان، قال لي ان احتجت لآي تفاصيل اضافية فبأمكانك النزول للمكتبة في الطابق الارضي.. اما المقتنيات فمشروحة بالتركية والكتاب (الرواية) متوفر اينما تنقلت.. فشكرته باللغة التركية قائلاً (بأن لغتي التركية على محدوديتها ستساعدني على تفهم المعروضات) وابتدأت استكشافي لمتحف انغرس بذهنيتي بروحانية الذهول المدهش لآندماج البساطة بالابداع.. استكشاف حلقت معه مخيلتي تستذكر احداث الرواية التي عرفتها بنسختها التركية بصعوبة على متعلم جديد للغة مختلفة وبعجائبية سرد باموق المميزة.
انعطفت يميناً بصالة المتحف الارضية المغلفة بخشب الصاج اللامع واغلفة الجدران البنية السمراء.. وعند اقصى الصالة تنتصب لوحة جدارية غاية في السريالية والتجريد اطار خشبي على حجم الجدار الصقت بداخله اعقاب سجائر بشكل مرصوف وبدقة متناهية تحت السنوات من العام 1976 حتى العام 1984 انها اعقاب السجائر التي دخنتها فوسون في الرواية.. وجمع اعقاب السجائر كأنها تأريخ لآنسان من ما تبقى منه! وليمنح القارىء قسطاً من التأمل داخل بنية الرواية ازدادت اعقاب السجائر تحت اشارة العام 1979 لتترك اثراً مفاده هنا حيث كانت فوسون تدخن اكثر، هنا كانت همومها اكثر، هنا استعرت رئتيها بأستعار قصة حب كمال لها، كما ان بعض اعقاب السجائر كانت مهتالة بأحمر الشفاه لتذكر بفوسون.. اما ما يجاور هذا الجدار المدهش فشاشة صماء تعرض فيلماً قصيراً اسود وابيض يتكرر لآذرع اشخاص تنفض رماد سجائرها داخل المنافض الزجاجية.. ليتكرر التجرد بأقتفاء الاثر من البقايا المحدودة.
عند الحائط الجانبي تشتعل مشاهد القبلات الحميمة بين عاشقين من افلام سينمائية تركية كلاسيكية بالابيض والاسود تعرض بشاشات صماء متناثرة على الجدار.. وكأنها تحاكي ذلك العصر وترامي عشاق الامس بعشوائيتهم التي تنتشي بقبل الحب.. ولا شك بأنها محاكاة لآنطباعية كمال عن فوسون وعائلتها الذين كانوا يقضون ساعات طويلة في مشاهدة التلفاز.
سلالم المتحف ضيقة جداً لا تتسع الا لشخص واحد، عند الصعود للطابق الاول تبدأ بمشاهدة مقتنيات اسطنبول القديمة كما هي، اورهان انزل ما كتب عنه بالرواية بواقعية كاملة بين ارف المتحف ستعيش تلك الايام بكامل مقتنياتها القديمة وجميعها قطع اصلية.. معظمها من مقتنيات منزل فوسون جمعها كمال العاشق كهوس بمقتنيات الحبيبة او برائحتها التي غطت الاشيياء، اتنقل والذاكرة التشبيهية تقتادني مما ارى وبين الرواية واحداثها.. كل ما اراه حولي حقيقي ولكنه قديم.. استذكر براعة السرد لحياة فوسون عبر نظرة كمال عنها.
على طرف السلم وضعت ادوات مطبخ متكاملة قديمة الطراز تعطي انطباعاً لمقتنيات مطابخ ما بعد الثلث الاول من القرن العشرين في تركيا.. من ملاعق ومعدات طبخ وبعض الاشواك والسكاكين وادوات تقليب الطعام في القدور وزجاجات رش الملح..
وعند وصول قدمي للسلمة الاخيرة اصبحت وجهاً لوجه مع ملصق كبير لصور سيدات غطيت اعينهن بشريط اسود وجميع الصوار اقتصت من اوراق الصحف القديمة لسيدات تركيات حقيقيات قاسمهن المشترك بمغادرتهن لهذه الحياة بالقتل جريمةً او اختيارياً عبر الانتحار.
ما ان افقت من صدمة الملصق الكبير الذي احتوى صور اكثر من 60 سيدة.. حتى سرت اتجول بممر هذا الطابق الضيق الذي اكتض بالارفف المليئة بمقتنيات زمان رواية باموق مقتنيات البيوت الاسطنبولية الفقيرة بسبعينيات القرن الماضي حيث مجمل المقتنيات اعمارها اقدم واقدم عقوداً من الزمان، فهذا رفاً مغطى بملاعق كثيرة، بما في ذلك كوب عليه أثر من شفتي فوسون اللتين لا تزالان ترتعشان، اما على الجدار المحاذي للسلم فقد علقت على الجدران صور لآشخاص وساعة قديمة ببندولها الراقص الكبير، قارىء لميزانية الكهرباء القديمة التي كانت تستخدم بالدور القديمة.. مفاتيح الغرف القديمة.. وهنا رفاً يضم حذاء وحقيبة نسائية قديمة ماركة (Jeasy colrang) من تقليعات العقود الماضية.. انها من مقتنيات فوسون وهنا حزام اصفر اللون ثم معدات خياطة قديمة بكرات الخيوط.. والمقصات والابر المسننة والدبابيس الابرية.. لا شك بأنها مقتنيات والدتها، ثم اقداح الشاي الزجاجية الصغيرة (الاستكانات) فعلب العصير الزجاجية القديمة (الرائجة في تلك الحقب) وقناني المشروبات الغازية المزججة.. وبخلفيات هذه الارفف اعلانات ومقاطع من صحف قديمة ملصقة في كل مكان.. هذه لمبة نفطية وهنا علب اعواد ثقاب قديمة متعددة الماركات.. في الرف القريب اقداح زجاجية للشراب، زجاجة ويسكي قديمة من ماركة (likoru) واقداح النخب الصغيرة.. انها من بيت فوسون، وهنا صور لعلب المشروبات الروحية القديمة خلفها الصقت صور من بارات ومطاعم اسطنبول القديمة.. علبة سجائر قديمة ماركة (samsun) ومنفضة خزفية مزخرفة .. مكواه قديمة للملابس، مزاليج ابواب وشبابيك قديمة، صور من بيت فوسون لآقاربهم واصدقائهم.. اطفال على اسرتهم رجال قرب سياراتهم هذه عائلة وتلك امرأة اربعينية تجلس خلف ماكنة خياطتها القديمة (انها ام فوسون).. انا اسير بين اسطنبول قبل عقود بكل جزيئياتها.. مقصات لحلاقة الشعر من طراز النصف الثاني من القرن الماضي وقربها خصلات شعر ابيض تذكرك بشيب الاشياء.. او ربما بشعر والد فوسون.
يتصف المتحف بالشمولية تماما مثل الرواية، ساعات يدوية قديمة بأحزمتها الجلدية، خريطة قديمة، امشاط شعر نسائية قديمة مختلفة لاشكال والاحجام والالوان.. معظمها سرقها العاشق كمال من مقتنيات حبيبته فوسون، مفاتيح ابواب قديمة، خضار مجفف وسمك مشوي على الطريقة التركية وكأس عرق تركي وصحن من التين الاسود.. وبالخلف ثبتت صور ذلك الزمان بعشوائية المشهد فهذه عائلة مبتهجة وهؤلاء جنود صامتون وهنا شباب يشربون العرق التركي بمرح ويغنون وعلى مقربة طفل يلعب بكرة الجلدية الداكنة.. ان ما تجول بينه يسحبك نحو ذلك العالم.
وهنا حنفيات ماء قديمة، فانوس نفطي، شباك خشبي قديم، علبة ادوية قديمة.. مواد حلاقة قديمة من فرشاة وانيتها الى مكانة الحلاقة المعدنية وشيفراتها القديمة ومغسلة صغيرة.
عند السلم بأتجاه الطابق الثاني صورة للدوندرما التركية (الايس كريم) وللمحار المشوي تلك الاكلة التركية الشعبية التي احبتها فوسون وكمال كحال جميع من عايش جيلهما، وهنا حذاء رجالي من تقليعات الستينيات بالونين الابيض والاسود وبالجلد اللماع.
مع الصعود وعند الجدران ساعات كبيرة بأرقامها الرومانية وبندولاتها المتدلية، مع قوارير مختلفة، مفروشات قديمة ثم ستائر من القديفة الحمراء السميكة اقتطعت من مسارح ودور سينما اسطنبول القديمة وعلق فوقها من اين جيء بها فواحدة من جراند سينما هوتيل واخرى من سينما بايوغلو والمزيد.. حيث ملتقيات شباب اسطنبول انذاك، في الطابق الثاني هنا صور لعملات نقدية وعلب قديمة وجدران ازدحمت بها شهادات تخرج قديمة وهويات لآشخاص ووصولات ودفاتر صكوك قديمة.. زحمة من وثائق ذلك الزمان شيء مبهر.. اي عقلية صنفت هذه الموجودات بهذا المد الاسر نحو الماضي.
على هذا الرف نسخة قديمة من كتاب (kahramanlar) للكاتب رشيد ايركام كوجو، وهنا عدادات سرعة لسيارات من طراز الخمسينيات، قلادات نسائية قديمة.. ثوب (فستان) فوسون الربيعي المزركش الالوان مع حليها البسيطة.. التي سحرت كمال حد الهيام.. تشعر عند الوقوف قرب الثوب بأنك امام فوسون تحاورها !. وعلى مقربة جواز سفر قديم لسيدة تركية.
وانت في هذه الصالة تستمع لصوت متكرر لصفير جرس سفينة تعلن اقتراب الابحار.. انها نقلة نفسية لآجواء البوسفور.. اورهان باموق يذكر بحياة المدينة بعبور البوسفور اليومي بين امينونو بالطرف الاوربي وكادكوي او محطة حيدر باشا في الطرف الاسيوي من اسطنبول.
وبعد سحب الاعين فالاذان.. هنا يستنفر الانف وهو يقف قرب علب عطور نسائية قديمة.. جميعها من ماركات الطبقة لوسطى او الفقيرة حيث استخدمتها فوسون، وهنا تماثيل الحيوانات الاليفة الفخارية الصغيرة من تقليعات تزين طاولات الماضي. هذه طابعة قديمة من ماركة (رينغتون نيكسوس بورتبل) بالحروف التركية اللاتينية.. وها هي صحون الاكلات التركية الشعبية كاليبرق (الدولمة) والبورك.. وعند نهاية هذا الطابق وقرب سلمه الضيق ترك ركناً وضع فيه كأس العرق التركي الشهير (المشروب الشعبي) وقد امتلىء لنصفه تاركاً ما تبقى من زاوية العرض لصور مختلفة من سفرات شبابية او جلسات او حفلات عائلية تضهر البهجة بعيونهم وبأيدهم كؤوس العرق التركي وهم يرفعون نخب السعادة.. صور تملؤها الضحكات والفرح، وكأن الفكرة من هذه الزاوية ان نغادر هذا الطابق والتساؤل الدائم يصرخ بصمت لما عالم اليوم اكثر حزناً من عالم الماضي.. لما الانسان المعاصر اشد الماً وارتياباً من انسان الماضي المبتهج بفطرته السعيدة؟
اتجهت نحو السلم بأتجاه الطابق الثالث والحيرة تتصاعد بي.. يبدو لي انني انتقلت سريعاً عبر هذا السلم من جمالية الماضي الى حزن الحاضر او حزن العقد القريب!
الطابق الثالث حيث غرفة كمال التي قضى بها ايامه الاخيرة.. تحتوي عشرات الكتب والاوراق وعشرات المحابر الفارغة لآقلام الحبر تعكس سنوات من الكتابة.. اوراق غطت الجدران بعشوائية ما كتب بها وما ترك فيها من الملاحضات والشطب والمخططات والرسوم العشوائية والاقواس والدوائر.. اورهان علق اوراقه التي كتب بها ملاحضاته عن قصة الرواية مسوداته العديدة.. انه يكتب بالاسود ويترك الاف الملاحضات بالاحمر.. مع رسوم مختلفة لوجوه واشكال عشوائية.. انها حالة من التخطيط الغير منضبط عندما يبدأ الكاتب بالتفكير.. هكذا تأمل اورهان باموق بطله وهو يروي له هذه الرواية.. نعم انها غرفة (كمال بصمجي) بطل الرواية الذي عاش حب والم وحياة وفن اسطنبول بكل مقتنياتها التي مرت بي بالطوابق التي قطعتها نحو هذه الغرفة.
هنا تأكل كمال واحترقت روحه بجنون حبه لفوسون.. بهوس عشقه لها ولآشياءها.. هنا وعلى جانب الغرفة الايمن ترك سرير (كمال) المعدني وتركت الجدران بغلافها الورقي الملون على حاله.. معلق عليه بعض الصور القديمة، والشباكان بستائرهما الدانتيلية البيضاء.. وشماعة الملابس المعدنية التي علق عليها بيجامته البيضاء المخططة بالازرق.. وحقيبة ملابس جلدية باللون البني الداكن، كرسيه القديم، دراجة اطفال قديمة بثلاث عجلات، ومنضدة صغيرة قرب السرير فيها جاروران خشبيان، وعليها مصباح زجاجي قديم للقراءة وصورة صغيرة مؤطرة غير واضحة الشخوص وزجاجة عرق تركي وساعة يدوية ومشط للشعر ومفتاح ومصباح يدوي صغير يعمل بالبطاريا وفرشاة اسنان.. انها مقتنيات كمال الاخيرة.
لا اعلم لما شعرت بالحزن في هذه الغرفة.. وبعد تجوالي الطويل لم اقوى على الوقوف فجلست على اريكة جلدية في الغرفة بزاوية تترك امامي السرير وقربي جدار الاوراق، تصاعدت بداخلي مشاعر الحزن والالم وكأني اشفق على انسان غادر هذه الحياة بهذه الوحدة المقيتة بتلك المقتنيات القليلة.. توقفت عن التفكير قليلاً تعصرني سحابات الالم.. ما الذي صنعه الحب بهذا الرجل.. يال الحيرة، ثم عدت برأسي نحو الخلف كأنما انفض الافكار المزعجه منه.. وانتبهت بأن خلفي كتب على الجدار وباللغة التركية هذا النص (quot;ليعلم الجميع انني عشت حياة سعيدةquot; التوقيع كمال بصمجي)، وقربه كتب (بين الاعوام 2000 و 2007 عاش كمال بصمجي بهذه الغرفة والتي استمع له فيها اورهان باموق وهو يروي قصته التي كتبها باموق في 12 نيسان 2007).
وهنا شعرت ببعض الامل من تفائل انسان اشاهد امامي بؤس نهاية حياته وهو يكتب بأنه قد عاش حياة سعيدة!
ان كانت الروايات الكبيرة تخلد عبر السينما بفيلم يحاكيها.. فباموق اجتاز هذه الفكرة نحو تخليد بطله (كمال بصمجي) بمتحف يقتفي حياته ونهايته كما رواها وكما عاشها وكما كتبت بالرواية.. انها رواية لبراءة الانسان لبراءة الحياة قبل ان تزدحم تعقيداتها.. انها عزلة غريبة.. فبهذه الغرفة الصغيرة المعزولة الخاوية الحزينة وعلى بعد ما يزيد عن 10 دقائق بقليل عالم اخر من الرفاه والحياة النابضة حيث شارع الاستقلال اشهر شارع بأسطنبول ذلك الصرح السياحي التجاري الذي يؤمه باليوم الواحد حوالي المليونان انسان.. يال حجم التناقظ.. بين عزلة كمال عن صخب العالم القريب، يال نهايته الهادئة وقربه ضجة الحياة المفعمة!
المتحف لا يؤرخ لسلطان بل يؤرخ لآنسان عادي رحل من هذه الدنيا ببراءة من كل شيء.. انها روعة وبراعة الفكرة وتجلي الغرابة والتجديد في الفكر.
اطلت الجلسة متأملاً غرابة هذه الحياة قبل ان انسحب بتثاقل من هذه الغرفة نزولاً الى الصالة الرئيسية بأتجاه مكتبة المتحف.. وهنا قابلني اورهان الشاب مجدداً بحيويته المعهودة ودعاني لشرب الشاي التركي معه بالمكتبة فوافقت بأيماءة من وجهي دون اي كلمة فما شاهدته اخذني من واقعي وشكرت المصادفة التي جعلتني اسجل اثناء جولتي ملاحضاتي فربما كنت سأنسى الكثير لو لم اسجل ما رأيت، فشحنة الافكار العاطفية قادرة على بعثرة اوراق الذاكرة بسهولة.
جلست في المكتبة القابعة في قبو المنزل وهي غرفتان متداخلتان تظم مكتبات خشبية لعرض الكتب ازدحمت بجميع روايات باموق وبعدة لغات.. شربت الشاي بصمت والافكار تعبق بذهني حول متاعب الحب بين الرواية وبين المتحف وبين الحياة.. ثم شكرت اورهان الشاب على حسن الضيافة وحملته السلام لآورهان الكبير المبدع.. وغادرت بصمت وشرود وذهول.

اورهان باموق في سطور..
ولد اورهان باموق لآسرة بورجوازية تركية عام 1952 في اسطنبول وعاش مع والداه واخوه الاكبر حياة ربما ليست مستقرة مادياً او اجتماعياً للخلافات بين الابوان.. مارس الرسم والقراءة في مطلع صباه وشبابه.. ثم درس الهندسة فالصحافة بأسطنبول قبل ان يدرس الادب والفن بالولايات المتحدة.
ويعد باموق اشهر شخصية ثقافية تركية.. وخاصة وهو التركي الوحيد الذي حاز نوبل للاداب، برز كروائي مميز فريد من نوعه مختلطة اعماله بين التاريخ والسياسة والفكر والثقافة والمدنية والروحانية والغموض والتشويق.. وبراعة سرد القصة ودقة الاوصاف والتماهي مع الشخصية.. وقد نال شهرة كبيرة اوصلته لنيل نوبل الاداب عام 2006 بعد سلسة من الجوائز والتكريمات وتكرار طبع رواياته بعدة لغات.. اصدر باموق الروايات التالية:
جودت بيك وأبناؤه (رواية) صدرت عام 1982 وسيبدأ العمل مطلع العام 2013 لتحويلها لمسلسل تركي درامي طويل، المنزل الهادئ (رواية) صدرت عام 1991، القلعة البيضاء (رواية) صدرت عام 1995، الكتاب الأسود (رواية) صدرت عام 1997 وهي من المنعطفات الابداعية بمسيرته الروائية، ورد في دمشق (رواية) صدرت عام 2000، الحياة الجديدة (رواية) صدرت عام 2001، اسمي أحمر (رواية) صدرت عام 2003 وتعد من اهم رواياته وترجمت للعديد من اللغات وربما هي السبب بعالمية وصول اعماله، إسطنبول (رواية) صدرت عام 2003 وهي سيرة ذاتية له تتحدث عن حياته وحياة اسرته بالتفاصيل الدقيقة منذ الطفولة حتى الشباب وتعد من روائع الادبيات في الربط بين حياة عائلة وحياة مدينة واحداث عصر، ثلج (رواية) صدرت عام 2004 وهي تجسيد لنجاحاته السابقة ومن مبررات فوزه بنوبل لاحقاً وهي رواية درامية بالغة الروعة في صناعة الحدث وربط الافكار والسرد المشوق.. واخيراً كانت روايته المدهشة متحف البراءة (رواية) التي صدرت عام 2008.
يعيش باموق بين اسطنبول حيث منزله على ضفاف البيسفور الاوربية وبين نيويورك حيث عمله كأستاذ زائر بجامعة كولومبيا متخصص بالادب والفن.