ما إن تدخل إلى تلك البناية البيضاء ذات الطوابق الثلاثة، في آخر شارع quot;كويلهو دا روشاquot;، وتستمع إلى الشرح وترى الصور، حتى تتيقّن أنك أمام شاعر يمكن تلخيص حياته كمواطن بكلمة واحدة: quot;غلبانquot;.

فعلاً!
بسّوا كان نموذج الغلبان في عصره. عاش حياته القصيرة (47 عاماً) متوزّعاً بين عمله في النهار[مسئول بريدٍ تجاري ومترجم ومحاسب في عدة شركات]، والقراءة والكتابة ومقارفة التنجيم ليلاً. وبعد عودته من العمل، كان لا يتوقّف عن التدخين ومعاقرة الكحول الرخيصة والتسكّع.
بل حتى حبه أو عشقه الوحيد لزميلته quot;أوفيليا كيروزquot; التي تعرّف عليها في شركة الحسابات، كان بتأثير من شكسبير وبطلة مسرحيته. وثمة من يقولون الآن في لشبونة إنه عشقها فقط لمجرّد اسمها، هو الذي كان مهموماً بشكسبير ويتقن لغته حدّ الكمال. علاقة عابرة لم تستمر سوى تسعة شهور وانتهت.
تقول الشارحةُ: لم تكن بينهما quot;فرشةquot;! علاقتهما ما تعدّت الإعجاب الرومانسي قطّ.
وأنا، حين رأيت أدوات حلاقته، وغرفة نومه ورسومات تنجميه، التي كان يوليها اهتماماً يومياً جدياً، أيقنت بدقةِ الكلمه: غلبان!
لن يجد زائرُ المتحف الكثيرَ ليراه: بعض صوره الشخصية وصورة لأوفيليا وأخرى لأمه، وبعض مخطوطاته، ودفتراً صغيراً به ترجمة لشكسبير، مع مكتبته التي نُقلت - لحسن الحظ - بكاملها.
بيسّوا هذا، الذي كان في شطر كبير من حياته، يعتاش على كرم الآخرين، هو بيسّوا نفسه، صاحب quot;الشنطة / الكنزquot;. الشنطة الجلد الأشهر في تاريخ الأدب. لم ينشر في حياته غير ديوان صغير بلغته الأم بعنوان: quot;رسالةquot;. كان يقول: لا وقت لديّ لتمضيته مع الناشرين وعقد المساومات. لذا كرّس وقته كلّه للإنتاج. ومات تاركاً وراءه تلك الشنطة التي تحتوي على 27543 وثيقة، قيل لي إنّ أكثر من نصفها بقليل نُشر حتى الآن.
متحفه في تلك البناية، يضمّ آخر شقة مؤجّرة سكنها مع أمّه quot;ماريّاquot; وأخته quot;هنريكيتاquot; غير الشقيقة. فلم يكن له إخوة وأخوات أشقّاء باستثناء شقيقه quot;جورجيquot; الذي مات رضيعاً، بعد وفاة الأب quot;يواكيمquot; بسنة. فإذا عرفنا أنّ بيسّوا ولد عام 1888، نعرف من تاريخ وفاة أبيه [1893]، أنه تيتّم وهو ابن خمس سنوات لاغير.
وليس هذا فحسب، بل عاجله القدرُ بالطعنة القاضية، بعد سنتيْن من رحيل الأب، إذ تزوّجت أمه من quot;جواو ميغيل روساquot;، فاقتلع الزوجُ الغريب الطفلَ من طفولته ومدينته وحضن أمه جميعاً، وسافروا إلى مدينة quot;دوربانquot; بجنوب أفريقيا، ليمارس هناك وظيفته الجديدة كقنصل للبرتغال.
سيعود بيسّوا بعد حوالي عشر سنوات من اقتلاعه لمدينته الأحبّ لشبونة. ولن يذكر دوربان في كل ما كتب سابقاً ولاحقاً، بل سيتجاهلها كأنها لم تكن.
حين وقفنا على باب المتحف، قالت مرافقتي المترجمة الأدبيّة وبروفيسورة الفلسفة quot;تيريزا ساليماquot; : هكذا الحياة. عاش بائساً، وعديدون الآن وفي المستقبل سيحلبون بؤسَه ذهباً ويورو!
جلسنا، على المقهى المواجه للبناية. كانت الثالثة بعد الظهْر. ولشبونة معروفة بقيظ صيفها الذي يزيد عن حرارة برشلونة بثماني درجات. لكن لا رطوبة فيها، ما يجعلك لا تشعر بوطأة الحرّ والعرق. فهي على المحيط الأطلسي، بمياهه الساخنة، عكس برشلونة التي على المتوسط ذي المياه الباردة.
شربنا عصيراً وشاياً وولجنا المتحف، نحن مجموعة من شعراء عشر دول. كان اليوم هو الخميس 28 حزيران وثمة إضراب عام للمواصلات، أعلنه الحزب الشيوعي البرتغالي، وكاد يشلّ حركة البلد.
صعدنا وتفقّدنا المتحف. في الطابق الأول منه كانت شقة بيسّوا. غيّروها الآن ووضعوا سرير نومه ومعظم متعلّقاته في الطابق الثالث. فوجئنا أيضاً ببعض الأقسام مغلقة بسبب الإضراب، منها قسم المكتبة بالطابق الثاني. المكتبة التي بي شغف لاستنشاق رائحة كتبها العتيقة ومعرفة ما كان الشاعر الأكبر يقرأ ويحبّ. رأيناها من خلل باب المدخل الزجاجي. ويمكن القول أنها من ناحية الكمّ تبدو معقولة بالنسبة لاهتمامات صاحبها ولزمنه.
آخر النهار، أُحيي أمسية قراءة في الطابق الثالث، حيث القاعة الصغيرة، التي تحتوي على 45 مقعداً أسود، في خمسة صفوف من الكراسي. كنت أقرأ وتمثالان صغيران أسودان لبيسّوا يقفان خلفي من الجانبين على مستطيليْن: تمثال صغير ارتفاعه حوالي ستين سنتيم وآخر أكبر قليلاً. وفي الخلف، ثمة شجرة عالية مغطاة بزهور بنفسجية وزرقاء، خلتها في برهة سكينة، وكان الوقت ما بين العصر والمغرب، وكأنها من الفردوس!
بعد الأمسية عدت لتفقّد غرفة نومه ثانيةً: صغيرة ومعتمة (الأحرى: مُقبضة) خاصة وأنت تستمع للشرح وتكاد تقهقه وأنت ترى إيمانه الوطيد بالسحر والشعوذات، وتلك الرسوم العجائبية التي كان يخطّها ويعوّل عليها لتنقذه من آلامه المستعصية: ديونه المتراكمة، عزلته ووحشته في مدينة السبعة تلال.
كان، مثلما قرأت عن الموسيقار موزار، من نفس الطينة!
وأكثر ما لفتني في الطابق الثالث من متعلّقاته: فرشاةُ الذقن والأمواس وماكينات الحلاقة، التي ذكّرتني بطفولتي حين كنا نحلق على الصفر، عند حلاّقي سور المقبرة القديم بخانيونس، أوائل سبعينات القرن الماضي. نفس الأدوات!
يا لك من غلبان أيها الشاعر الأكبر!
quot;كان يهرب من دائنيهquot; تقول مرافقتي البرتغالية. وكان دينه العصيّ على السداد، يحرمه من التسكّع في بعض الأزقّة والسّاحات والأسواق التي يألفها ويحبها. وكان كذلك كحولياً، ويشرب بالدين!
وما أكثر ما رؤيَ وهو ثمل يتطوّح تحت زخّات المطر، بينما تكون المدينة خاوية من سكانها الذين لاذوا ببيوتهم، اتقاءً من الزخّات والصقيع القاسي (الصقيع الذي يزور لشبونة بفعل المنخفضات الجويّة القادمة من شمال القارّة).
بيسّوا لم يكن يهتم للزخّات ولا للصقيع، لأنه ببساطة يكون تحت تأثير الثّمَل.
أما قصته مع بدائله فطريفة وتُحكى: كان مؤمناً تماماً بالشخصية التي يكتب على لسانها، حتى وصل به الأمرُ أنه كان يتقمصّها ويحادث أمه وأخته، طول الليل والنهار، بلسانها. وعبقريته أنه استطاع، في صنيع كوني نادر، أن يجعل لكل بديل من بدائله الثلاثة، عالمَه الشعري الخاص وبصمته الخاصة، وموته الخاص أيضاً - باستثناء كاموس الذي ظلّ حيّاً ولم يشأ بيسّوا قتله. وفي هذا الصدد سمعت من أحدهم أن بديله الأخير هذا واسمه بالكامل: quot;ألفارو دو كاموسquot; كان أقرب إلى quot;والت ويتمانquot;. وعليه، فثمة بعض النقاد هنا ينظر إلى كتابات ألفارو، بوصفها [الأضعف = الأقلّ أصالة] بين كتابات بيسّوا.
طرحت هذا الرأي على مجموعة من شعراء البرتغال الشباب فلم يتحمّسوا لهذه الخلاصة، مع عدم نفيهم إمكانية تأثّر بيسّوا بالشاعر الأمريكي أثناء فترة إبداعه لألفارو.
عدنا في اليوم الثاني، الجمعة وتجوّلنا في كل الأقسام.
عصراً، نصعد للقاعة. أخرج للشرفة، وأتأمّل شجرة التين العملاقة من بيت الجيران، وهي ترسل غصونها المحمّلة إلى بيت بيسّوا.
شجرة التين وشجرة اللوز وشجرة الكينا الأبعد. ثم في نظرة إلى الأسفل، حيث السلّم الحديد الحلزوني الأبيض يأخذك إلى بركة ماء جميلة تحت، وإلى قط كبير أسود، حوله جدار رُسمت عليه صورة كبيرة للقط .. وبنظرة أخرى إلى اليمين ترى جاراً شاباً أسود البشرة وله عضلات، يرتاح من هذا اليوم الحارّ، فارداً ذراعية على سياج شرفته الصغيرة.
بعدها أسأل عن التواليت، فيقال في الطابق تحت الأرضي. أذهب. وأُفاجأ أنهم وضعوا رسومات وكلمات بيسّوا حتى في الحمّام.
في المساء تُقام أمسية قراءة للشاعر الفرنسي يونيل ريه. يقرأ قصيدة له عن بيسّوا، وخلفه التمثالان، كأنهما حارسان.
تذهب عيني إلى صبية جميلة تنشر غسيلها الأحمر والأسود والأبيض، على حبال شرفتها في الطابق الأول من عمارة بيضاء قريبة لها سلالم خارجية حديد وطوابق ثلاثة.
أنظر إلى ليونيل وإلى الفتاة غير بعيد، ثم أغرق في نوبة سحر.
يوقظني تصفيق الجمهور الصغير في ختام إلقاء الشاعر الكبير. ثم تأتي الجميلة العصبية ذات العينين الخضراوين وتوقظني مرة أخرى بإيقاعات اللغة البرتغالية التي قيل لي إنها تشبه اللغة الكتلانية، لكنني أحسّ، من خلال السماع، تشابهاً بينها وبين لغة دستويفسكي. فما أكثر ما يتردّد حرفا الجيم والشين فيها، فيوحيان لي بثقل معيّن في اللسان ndash; الأمر الذي، لسببٍ ما، يذكّرني باللغة الروسية.
تنتهي الأمسية، وأنظر للغسيل، فلا أجد غير اللون الأبيض.
وداعاً بيسّوا.
كل بلد بحاجة إلى أسطورة، وبلدك عوّضك - بعد فوات الأوان طبعاً - عن جماع ما عشته من بؤس:
* فقدانك المبكّر لأبيك.
* اقتلاعك المبكّر أيضاً من صدر أمك.
* ذهابك طفلاً للعيش مع رجل كريه، في بلد غريب. بلد لشدّ ما كنت تتقطّع وأنت ترى سكانه البيض يتكلمون عن برتغالك بنوع من الاحتقار. أما جرحك الفاغر فحين ترى أمك وهي تبذل قصاراها لإرضاء quot;القنصلquot; على حسابك.
* غربتك في دوربان، ووقوعك هناك أسيراً في براثن الحنين المرضيّ لمدينة الطفولة الزاهية.
*عودتك للشبونة، وافتقارك إلى الاستقرار والطمأنينة بين جبالها ووديانها.
* إدمانك الكتابة والكحول.
*عزلتك الصارمة الموحشة.
* افتقادك الأبدي لحبيبةٍ بعد أوفيليا. كما إفتقادك الأبديّ لدفءالصداقة، بعد انتحار quot;ماريو كارنييروquot; الأعزّ.
* حياتك أعزبَ مديوناً حتى آخر نفَس.
* وأخيراً موتك في المستشفى الفرنسي بشارع quot;لوز سوريانوquot; بتليّف الكبد.
هل تذكر آن كنت تحتضر، كيف طلبت من الممرضة نظاراتك، وكتبت آخر جملة: quot; غدي؟ لا أدري كيف سيكون غديquot;.
ما الذي كنت تودّ معرفته أيها الشاعر؟
لقد تبدّلت أقدارك فور أن غادرك النفَس الأخير.
الغدُ، على غير العادة، على غير العادة أبداً، جاءك بما لم تكن تتوقّع:
أخذوك من السرير الحقير في quot;سان لوي ديه فرانسيهquot; ودفنوك في احتفال مهيب في quot;البانثيونquot;!
هناك حيث يرقد فاسكو دا غاما وسواه من عظماء البلد.
وهاهم الآن، يتربّحون من ورائك.
هاهو quot;كازا بيسّوا ndash; بيت بيسّواquot; في 16 كويلهو دا روشا، يدرّ على الدولة ما لا يخطر على بالك وخيالك القاصريْن.
أنت، يا من بدّلت خمس عشرة غرفة حقيرة، هرباً من الديون والشُّح، منذ عودتك من دوربان.
لم تمنحك مدينتك حق البداهة في تملّك جُحر يلمّك ويؤيك. لم تشعر يوماً بنعمة الاستقرار والاطمئنان للقادم.
ألهذا كتبت كتابك quot;اللاطمأنينةquot;؟
ننزل، وقد انتشر المساء. وتحقيقاً لرغبة اكتشاف لشبونة بالأقدام، نعود لفندقنا البعيد (أُوليسيبو سلدانيا) مشياً. لأكتشف أنا المشّاء المزعوم، كم أرهقتني الرحلة، فما بالك برفيقتَي الكتلانيتيْن المترجمة quot;كارما أريناسquot; وصديقتها الشاعرة السمينة؟
ذلك أنّ لشبونة الواسعة الشاسعة البهيّة، ليست بالمكان المثالي للمشّائين، فهي جبلية، يكثر فيها الصعود والهبوط.
مع ذلك حمدت للسيدتين الرائعتين، قوة شكيمتيْهما، فما تأفّفتا ولا شكتا [متى سننتهي منك أيها المُثنّى اللعين!]، رغم الحرّ والعرق وقسوة صعود المرتفعات.
والآن، ليل ...
نصعد ونهبط.
أنظر بالأخصّ للعابرين من ذوي القبّعات، وأراهم على قلّتهم كثيرين.
أنظر حتى للصبايا ذوات الشورتات الفاتنة،
للعجائز الخارجين من البارات،
وكلهم أرى فيهم شبح بيسّوا النحيف، بمشيته الكاريكاتير.
نصل الفندق، ونضطر غير مرة للسؤال.
تدعوني كارما للراحة قليلاً ثم النزول للشارع القريب، لتناول السمك البرتغالي الطازج في مطعم على الرصيف.
كلا يا كارما. ثمة شيء في رأسي أريد التحقّق منه.
معذرةً، أحتاج للاختلاء بنفسي.
أصعد للطابق الثاني غرفة 206.
أقلع ملابسي وآخذ حماماً في أكبر وأبذخ بانيو رأيته.
ألبس المبذل الأبيض الفاخر بخفّيه الأبيضين، وألوبُ في غرفة كل ما فيها أبيض عدا شاشة التلفزيون المطفأة.
أجلس على الشرفة المطلّة مباشرة على الشارع.
هناك أدخّن، من وراء التحذيرات، وأرقب المارّة.
في لحظة ما، أرتعش:
لِسْبُوّا كلّها امتلأت بأشباح بِسوّا ...
النجدة!