عُرفت حضارة (وادي الرافدين) او (ميزوبوتاميا) كواحدة من أعظم الحضارات في التأريخ القديم. كما عُرف سكان ذلك الوادي الخصيب بحبهم وأهتمامهم الشديدين بالمعارف والعلوم النظرية والتطبيقية وألإنسانية. فقد برعوا في مجالات كثيرة منها الفلسفة والعقائد والمنطق والرياضيات والفلك والتنجيم والجغرافيا والحساب التجاري. وتميزوا كذلك في ميادين الكيمياء والزراعة والبناء وصناعة الآلات والمعدات التي يستخدمها ألأنسان يوميا كألعجلة والعربات المتنوعة؛ عسكرية ومدنية. كما شغفوا بالموسيقى وآلاتها وبالترانيم والتراتيل الدينية.
ولقد اولى سكان العراق القديم إهتمامهم الخاص بالطب والجراحة وبألأدوية والعقاقير؛ نباتية ومعدنية. فقد إستخدوا الكثير من النباتات وألأحجار وألأملاح الطبيعية والسوائل في العلاج من الأمراض الحادة والمزمنة. كما مارسوا العديد من العمليات الجراحية المختلفة. ثم إنتقلت تلك المعارف الى ألأقطار القريبة والبعيدة لتعم فوائدها أرجاء واسعة من العالم القديم. ثم رافقها الزمن؛ وهو يسجل تأريخ هذه ألآرض الطيبة؛ حتى وصلت مشارف الحضارة العربية - الإسلامية لتستكمل المسيرة.
فالحضارة العربية - ألإسلامية؛ وكما عرفها العالم؛ قد أولت عناية قصوى بمختلف المعارف. فبلغت الذروة في القرن الرابع للهجرة. فنبغ رجال عظام في الفلسفة والمنطق والرياضيات والحساب التجاري والعلوم الطبيعية والجغرافيا وألأنسانيات والفن والأدب واللغة. وكذلك تميزوا في ألإبتكارات الفنية التقنية المختلفة. فصنعوا الإسطرلابات والساعات والمضخات والمطاحن المائية وما شاكلها. وقد نذكر هنا ما عمل عليه (إخوان الصفا) في مجال فلسفة العلوم والطبيعة وما وراءها؛ والفلك وألأحياء وأصولها. كما نذكر بفخر العالم الجليل (جابر بن حيان) وما نبغ به في مجال الكيمياء او علم الصنعة. فتعمق في إستجلاء كنه التحولات الكيميائية العجيبة. فأخذه البحث الدائب بعيدا في الإعتقاد بتحول المعادن فيما بينها. حتى ركبه هاجس تحويل المعادن الرخيصة الى الذهب !. وكذلك أشتهر (البيروني) في دراساته ألأصيلة في طبيعة وصفات الأحجارالكريمة والمعادن الثمينة.
أما الطب فقد حظي بإهتمام خاص من قبل أطباء حاذقين تمكنوا من إيجاد وسائل جديدة ومبتكرة في التشخيص وفي العلاج؛ يأتي في مقدمتها الجراحة التي برعوا فيها وفي إبتكار أدواتها المختلفة.
كما كان لهم باع طويل في مفردات الأدوية والعقاقير وتحضيرها ودراسة خواصها وفوائدها العلاجية وآثارها الجانبية السلبية. فتكاتف على النهوض بها أطباء حاذقون وعطارون وعشابون وغيرهم. ولم يغفلوا عن ألأمراض النفسية والعقلية فدرسوا أعراضها وتمكنوا من شفاء بعضها أوالتخفيف من آلام البعض ألآخر. فوصفوا مهدئات ألأعصاب ومسكنات ألألم والمخدرات. كما تدخل هنا (المشايخ والسادة والملالي) فإتخذوا من كتابة التمائم والتعاويذ وألأدعية علاجات لتلك ألأمراض. فإنتشرت بين عموم الناس سعيا وراء الشفاء الذي هو غاية كل أنسان. لكن البعض منهم إستخدم وسائل قاسية لطرد (ألأرواح الخبيثة) ! من أجساد المرضى معتقدين بأنها السبب وراء ألأمراض العقلية.
ولقد أشتهر من ألأطباء المهرة أبان نهوض الحضارة العربية الإسلامية (الرازي) صاحب كتاب (الحاوي) و(أبن سيناء) مؤلف كتاب (القانون في الطب) و(الزهراوي) أبو الجراحة الحديثة و(إبن النفيس) مكتشف الدورة الدموية الصغرى و(إبن الهيثم) صاحب كتاب (المناظر). وهو الذي فسر طبيعة ألإبصار وفق ألأسس العلمية المعروفة اليوم بعد ان تمكن من تشريح العين ومعرفة أسراها.
ولم تكن نظرة هؤلاء العلماء الى الطب نظرة مهنية بحت؛ بل نظروا اليه بمنظار فلسفي وإنساني بعيد المدى. فقد كان بعض ألأطباء حكماء وفلاسفة ومفكرين. فغاصوا في دهاليز الروح والجسد بهدف الوقوف على بعض أسرار هذا الكون الغامض وإستجلاء كنه اللغز الأعظم وهو الروح وعلاقتها بالجسد. وقد مكنتهم هذه النظرة الحكيمة الشاملة من ألإقتراب والتعاطف مع المرضى الذين هم بمسيس الحاجة الى اليد الرحيمة وإلى الكلمة الطيبة المشجعة. ومن هنا جاءت مؤلفاتهم شاملة العناوين ومتداخلة السياقات. فلم تقتصر على الجانب الطبي - المهني البحت. وما يزال العامة من الناس يسمون الطبيب بـ (الحكيم) حتى يومنا هذا.
أما فيما يتعلق بمفردات ألأدوية والعقاقير وصفاتها العلاجية وآثارها الجانبية الضارة فقد أشتهر العقاقيري المعروف (إبن البيطار) صاحب كتاب (الجامع لمفردات ألأدوية وألأغذية). فقد ولد في (ألأندلس) في القرن االثاني عشر الميلادي ثم إستقر به المقام في الشام حتى وفاته. وهو من بين ألأوائل الذين جمعوا ما بين الدواء والغذاء معتبرا أن التغذية الجيدة مفتاح الصحة. وكان كتابه المرجع الأول للأطباء والعشابين والعطارين العراقيين حتى وقت متأخر. ثم ظهر في بدايات القرن العشرين الدكتور (أمين رويحة) صاحب الكتاب الذائع الصيت ( التداوي بالأعشاب). فقد إحتل هذا المؤلف الثمين الرفوف وأدراج محلات العطارة والأعشاب وفي خزانات المنازل؛ حيث ساهم في إنتشار المنتوجات النباتية بين الجمهور الواسع من العراقيين فإتخذوا منها مشروبات ومرطبات لذيذة او أدوية فعالة للكثير من ألأمراض والعلل.
فقد شاع إستعمال (الشاي ألأسود) مثلا بين الناس كغذاء رئيس او كمشروب يجمع شمل ألأهل وألأصدقاء في المناسبات السعيدة وفي الأفراح. كما إنتشرت (القهوة) فأصبحت عنوانا للوجاهة في كل من المدينة والريف. والمادتان من الأشربة المنبهة لوجود (الكافيين) فيهما. كما عرف العراقيون وبخاصة البغادة مشروب (الدارسين او القرفة) بعد ألإستمتاع بحمام ساخن او عند الإصابة بنزلات البرد. اما (الورد ماوي او ورد لسان الثور) فهو المشروب الذي كان الناس يلجأون إليه؛ وخصوصا النسوة؛ بعد تعرضهن الى مكروه او صدمة عصبية. فهو مهدئ للأعصاب وللنفوس الحزينة. ويستعمل كذلك كمخفض للحمى.
ولعل من أكثر المنتوجات النباتية شيوعا بين الناس (حبة البركة) او (الحبة السوداء) او (الكمون ألأسود)؛ وأسمها العلمي (نِايجيللا ساتيفا). فقد قال عنها (سيدنا محمد): إنها شفاء من كل داء إلا السام. ويريد به (الموت). ويصفها العشابون كطارد للأرياح ولتلطيف المزاج وتنشيط الهمة ومدرر للبول وللطمث؛ وعلاج للربو ومسكنة للأوجاع. وكانت النسوة البغداديات ينثرنها على سطح (الكليچة) والمعجنات الأخرى. ولعل كان في هذه الحبة الكريمة الخير والبركة والطالع الحسن الذي مهد لإفتتاح (كلية الطب) و(كلية الصيدلة والكيمياء الملكية).
ووصف العطارون؛ كذلك؛ وعلى نطاق واسع؛ (البابونگ) لنزلات البرد والسعال ومهدئا للأعصاب ، و(عرگ السوس) للسعال والحساسية وكمساعد على الهضم. و(الينسون) كمشروب منعش وكمهدئ وطارد للأرياح ، و(الحلبة) لإدرار البول ولعسر التنفس وللبواسير. و(السنا مكي) كملين ومسهل فعال. و(ورد الختمة ndash; الخطمي) كمضاد للحموضة وملين ولأوجاع القولون. وأستعملوا مزيج (التيهان) و(حب السفرجل) للسعال ونزلات البرد. ام الدمامل والخراجات فقد التجأوا الى عجينة (الحب دِبج ) و(البلنگو) لفتحها وتنظيفها. ووصف العشابون وبحذر شديد (صمغة الريح)؛ وهي خلطة أساسها ألأفيون؛ لمساعدة الأطفال على النوم وكمسكن للأوجاع. ووصف العطارون أيضا ( العِشبة) و(الچوب چيني) للأمراض النفسية والحساسية والنسائية مع بعض الإحتياطات والمحاذير. أما (الخمر) المركز فقد إستعملوه لتسكين آلآم الأسنان او كمخدر عام قبيل القيام بالجراحات المختلفة كقلع الأسنان اوفتح الدمامل والخراجات.
وهناك مواد نباتية يجدها المرء متوفرة في محلات الخضراوات مثل (النعناع) الذي يستعمل لطرد ألأرياح ولضيق التنفس. اما اوراق (اليوكالبتوس - القلم طوز) فيحصل عليها الناس عادة من ألأشجار المنتشرة في الشوارع او الحدائق العامة. فهم يغلونها ويستنشقون البخار للتخفيف من ازمات البرد وضيق التنفس.
وقد وجد العطارون ان خليطا من أعشاب معينة له أثر دوائي أكثر فاعلية من ألأدوية المفردة؛ بشرط مراعاة عدم تضاد بعضها للبعض ألآخر. فقد صنعوا (السفوف) مثلا من عدد من المواد المطيبة والمسكنة والمهدئة كدواء طارد للريح وكعلاج لأوجاع ألأطفال الرضع ومساعدتهم على النوم المريح. كما إستعملوا (المي غريب) لنفس الغرض.
ولم تقتصر ألأدوية والعقاقير الطبية القديمة على المواد النباتية وحسب بل تضمنت أيضا المواد غير العضوية. فقد إستعملوا (الكحل - الإثمد) لتقوية نظر العين وللزينة وكذلك (الزرقيون - الزرگون ألأحمر) و(الكپلي) لعلاج أمراضها. وإستعمل (الطين خاوة) على نطاق واسع لغسل الشعر وتقوية جذوره وتنعيم ملمسه. وعُرف (الكبريت) ومشتقاته مثل (كبريتيد الهدروجين) المتوفر في (حمام العليل) كدواء فعال للأمراض الجلدية وفي مقدمتها الدمامل والبثور.
وكان العراق؛ كبقية اقطار العالم؛ يعج بدكاكين العطارين والعشابين الى جانب عيادات الأطباء؛ حيث يهرع الناس اليهم طلبا للشفاء. ولم يقتصر عمل العطار او العشاب على تحضير وإعداد الدواء وحسب؛ بل كان أيضا يقوم بنفسه بتفحص المريض من خلال النظر اليه بإمعان والإستفسار منه عما يشكو من أعرض وأوجاع لتشخيص مرضه ووصف الدواء المناسب له. وبذلك يوفر الناس أجرة الطبيب. وقد إشتهر في بغداد في القرن الماضي عدد من العطارين المقتدرين في سوق الشورجة وفي الكاظمية وفي غيرها من ألأسواق والمحلات يتعذر إحصاؤها.
وفي هذا الجو التراثي الأصيل؛ وإستكمالا لمسيرة الطب وألأدوية والعقاقير الشعبية؛ كان أمرأ طبيعيا ان تولي الدولة العراقية الفتية بعد ولادتها عام 1921 م؛ العناية القصوى بالتعليم وبكافة اشكاله؛ وبخاصة الطب والصيدلة والكيمياء. وخصوصا وأن جذورها مغروسة في بيئة المجتمع العراقي منذ زمن بعيد. لكن المحاولات ألأولى سبقت هذا الزمن. فبعد سقوط بغداد وتولي السلطات البريطانية حكم البلاد عام 1918 تم إنشاء عدد من مذاخر ألأدوية في بغداد. كما اقيمت دورات خاصة لتدريب الصيادلة. فكان منهم (سامي سعد الدين) صاحب (الصيدلية الإسلامية) فيما بعد والواقعة في (عگد الصخر- شارع المأمون). وبمرور الزمن تكاثر عدد الصيدليات فكانت (صيدلية ربيع) و(صيدلية الشفاء) وغيرهما. وفي عام 1925م تأسست اول جمعية للصيادلة والعقاقيريين في بغداد. وكانت هيئتها الإدارية مؤلفة من (عبد الكريم عيسى) و( إلياس أفندي) و(إلياهو حكيم) و(فرج صباغ) و(داود گريگوريان) و(روبين كباي و(إسحق سحيق). وكان العام 1927م عاما بارزا حيث افتتحت (الكلية الطبية العراقية). وبعد تسع سنوات؛ اي في عام 1936م تم إفتتاح (كلية الصيدلة الملكية) إستكمالا لترسيخ قاعدة القطاع الصحي الذي يعتمد أساسا على مخرجات كليات الطب والصيدلة والتمريض والعلوم. وكان عدد طلاب الدورة الأولى 14 طالبا. وأختير اول عميد لها هو ألأستاذ (محمود القيعي) المصري الجنسية. وفي العام 1948م؛ وهو العام الذي التحق فيه (ألكاتب) بالكلية؛ فرع الكيمياء؛ كانت بنايتها تقع بالقرب من (وحدة الغسيل والتعقيم) في (المستشفى الملكي - المجيدية). وهو العام الذي أعقب إفتتاح (فرع الكيمياء) في الكلية. وكانت مدة الدراسة في فرع الصيدلة خمس سنوات بضمنها فترة التطبيق؛ والشهادة التي يحصل عليها الطالب هي البكلوريوس في الكيمياء الصيدلانية. بينما كانت المدة في (فرع الكيمياء) اربع سنوات والشهادة هي البكلوريوس في الكيمياء. وكانت اهم المواضيع الدراسية في فرع (الصيدلة) هي العلوم الأساسية: ألحيوان ، النبات ، الكيمياء ، الفيزياء ، الرياضيات؛ ومواضيع الإختصاص: الصيدلة ، النباتات الطبية ، الكيمياء الصيدلانية ، العقاقير، الكيمياء الحيوية. والمواضيع المساعدة: الفسيولوجي ، البكتريولوجي ، السموم ، الصحة العامة ، الصيدلة الشرعية ، الصيدلة الصناعية ، التجارة الصيدلانية ، التحاليل الدوائية؛ التحليل السريري ، المنتجات الطبية الحيوية.
اما المنهاج الدراسي في (فرع الكيمياء) فبالإضافة الى العلوم الأساسية؛ وهي مشتركة مع (فرع الصيدلة) ، فهناك دروس الإختصاص وهي: الكيمياء الفيزيائية ، الكيمياء غير العضوية ، الكيمياء العضوية ، الكيمياء التحليلية؛ الكيمياء الحيوية ، الكيمياء الصناعية ، الكيمياء الغذائية ، التحليل الكيميائي الغذائي ، تشخيص المركبات العضوية ، الجيولوجيا وعلم المعادن ، اما الدروس المساعدة فهي: اللغة الألمانية وعلم الإجتماع. وقد تم تكييف المناهج والسياقات التدريسية نحو الإتجاه الصحي والصناعي.
وفي عام 1958م تقرر إغلاق (فرع الكيمياء) والإكتفاء بقسم الكيمياء التابع الى كلية العلوم - جامعة بغداد منعا للتكرار؛ كما قيل في حينه.
لقد كان الدافع الى إستحداث (فرع الكيمياء) في (كلية الصيدلة الملكية) هو الحاجة الماسة إلى تهيئة ملاكات كيميائية متخصصة ومؤهلة ومدربة تدريبا مهنيا عاليا لسد إحتياجات سوق العمل المتعاظم؛ بعد أن إنطلق العراق نحو تأسيس بنية تحتية راسخة في كافة القطاعات الصناعية وألإنشائية؛ وفي المجالات الخدمية الواسعة؛ وخصوصا قطاع النفط والصحة. لذلك رأينا كيف تمت صياغة وهندسة مناهج (فرع الكيمياء) لتفي بمتطلباتها جميعا؛ كما بينا. وكان أحد عناوين تلك الإنطلاقة العظيمة إنشاء (مجلس الإعمار) الذي ضم افضل الكفاأت العلمية والهندسية وألإقتصادية العراقية على مستوى المنطقة بأسرها؛ والذي سوف يذكر العراقيون إنجازاته الكثيرة في بناء السدود المائية والطرق والجسور والموانئ والمصانع والمستشفيات والدور السكنية والكليات والمدارس؛ ومرافق الخدمات العامة وغيرها. فقد إعتمدوا في تمويلها على ميزانية متواضعة؛ أساسها عائدات النفط المحدودة. وكان السبب ألرئيس في إرتفاع المردود منها هو الإعتماد على كفاآت وملاكات وطنية مقتدرة من التكنوقراط ومن ذوي ألإرادة القوية في العمل والإنتاج وإلإبتكار؛ وفي الإستقامة في الخلق وطهارة الذيل. وقد كان من بشائر تشجيع الدولة لكلية (الصيدلة والكيمياء الملكية) أن رعى جلالة الملك فيصل الثاني حفل تخرج دورة عام 1953 \ 1954 م. فقد تفضل جلالته بتكريم الطالب ألأول على فرع الكيماء الصديق العزيز ألأستاذ الدكتور (كنعان محمد جميل)؛ مساعد رئيس جامعة بغداد ونائب رئيس جامعة النهرين؛ ألأسبق. وكذلك الطالب ألأول على فرع الصيدلة الزميلة الفاضلة (أگنس هايكْ).
لقد شغلت (كلية الصيدلة والكيمياء الملكية) بناء متواضعا يحتوي على عدد من القاعات والغرف التي تم تحويلها الى مرافق دراسية. وكان يتوسط البناء حديقة صغيرة جميلة مزدانة بالورود الملونة. وكان الطلبة يهرعون اليها في الفرص لقضاء دقائق جميلة يستمتعون خلالها بالراحة بعد حصة دراسية مكثفة؛ حيث يلتقي الطلبة؛ وعددهم محدود؛ فيما بينهم ومع أساتذتهم في جو أسري حميم وهم يتبادلون الأحاديث الشائقة والطرائف اللطيفة.
ولعل أجمل ما كان يميز الكلية هو ملاكها التدريسي المتمكن. فقد كانوا من ذوي التخصص العالي والمهارات التدريسية المتميزة والخلق الأكاديمي الرفيع والتواضع الجم. فقد عرفوا بالجد والإلتزام في العمل؛ الى جانب اللين وألإحترام في التعامل مع الطلبة. وكانوا من جنسيات مختلفة: عراقيين ولبنانيين وفلسطينيين وأميركان وإنكليز وألمان.
وبعض الأساتذة كانوا على الملاك الثابت والبعض الآخر محاضرين. وكان على رأس أساتذة (فرع الصيدلة): يحي عوني الصافي (العميد) (الكيمياء الصيدلانية) وفخري توفيق (الصيدلة) وفريد بني (النباتات الطبية واللغة اللاتينية) وأنور عبد العزيز البغدادي (الكيمياء الصيدلانية) وستارتب (الفسلجة) وبوزول (؟). أما الأساتذة المشتركون بين فرعي (الصيدلة) و(الكيمياء) فهم: عبد الله قصاب باشي (الكيمياء العامة والتحليلية واللاعضوية) وعبد الفتاح الملاح (الكيمياء العضوية) وزكي بدر الدين العاملي (ألأحياء) وبهجت نقاش (الكيمياء الحيوية) ونسرين أديب (ألأحياء) وفوآد إصطفان (الكيمياء الفيزيائية). وعبد الله عوبيديا (الرياضيات).
وأما ألأساتذة الذين أختصوا بتدريس طلبة (فرع الكيمياء) فهم: شيث نعمان (الكيمياء الصناعية) والبروفيسور كنوتز (الكيمياء العضوية) والبروفيسور بومان (الكيمياء الحيوية) والمستر دوبني ( الكيمياء التحليلية) ورشيد الدجاني (تشخيص المركبات العضوية) وفرج الله ويردي (اللغة الألمانية) وإحسان بهجت (الجيولوجيا وعلم المعادن) ، وفوآد جميل (علم الإجتماع).
اما المعيدون والمدرسون المساعدون فأذكر منهم: فضيلة جرجيس ويعقوب مشعل وبكر حازم الخضيري وعبد الأمير جميل.
لقد كانت الكلية في فلسفتها ومناهجها التعليمية وأساليب التربية والتعليم وطرق التدريب والمناقشات تتبع مدرستيين علميتين متعاونتين ومتناغمتين هما المدرسة البريطانية والمدرسة ألأميركية. فمعظم أساتذتها الغربيين هم من الجامعات او المؤسسات البريطانية او ألأميركية الشهيرة ، او من الجامعة الأميركية في بيروت. لذلك تجد الجو العلمي \ التربوي الغالب عليها له تلك الخصوصية المتميزة. وكانت اللغة ألأنكليزية هي لغة التدريس والمناقشات والتحاور.
ومثلما ذكرنا؛ فأن الدراسة كان يغلب عليها الجد وألإلتزام للحفاظ على مستوى عال من المخرجات. فكان الحد ألأدنى لدرجة النجاح 60 %. لكنه في مقابل ذلك كان هناك جو من التسامح وألإحترام بين الطلاب وألأساتذة. وقد تباين سلوك ألأساتذة العراقيين بين التحفظ والجدية وبين ألإنفتاح والشفافية والظرف؛ وما بينهما. فقد كان ألأستاذ يحي عوني الصافي مثلا وفخري توفيق وعبد الفتاح الملاح وعبد الله قصاب باشي وشيث نعمان وعبد الله عوبيديا وإحسان رفعت ورشيد الدجاني من المحافظين نسبيا. لكنهم كانوا يتمتعون بالهيبة والوقار والحنو على الطلبة ومساعدتهم على حل مشاكلهم ألأكاديمية. ولم يخل سلوك بعضهم من المحطات المتميزة. فكان ألأستاذ (الملاح) ثاقب البصر. فحين يرى الطلبة وقد اصابهم بعض التعب أثناء المحاضرة فانه يهرع الى كراسته لينتقي منها طرفة جميلة. اما ألأستاذ (قصاب باشي) فهو عنوان بارز للصبر (ألأيوبي) المعروف. وكان على إستعداد لأعادة (المسألة) اكثر من مرة وبهدوء شديد ليفهم الطالب. وقد سارت عباراته المتكررة مسرى ألأمثال. وكان طموحه ألأكاديمي لاحدود له؛ بحيث دخل كلية الحقوق ودرس القانون مساء. وقد رسم (الكاتب) يومها عددا من الكريكتيرات تظهره فيها وهو يهم بدخول كلية (ألإدارة وألإقتصاد) للإلتحاق بها !. او تتزاحم وتتداخل في محاضرته (تصورا طبعا) عبارات من (قانون العقوبات البغدادي) ومن ( قوانين التفاعل الكيميائي) !.
اما الأساتذة فريد بني وفوآد إصطفان وبهجت نقاش وأنور عبد العزيز البغدادي وزكي بدر الدين العاملي ونسرين أديب فقد كانوا مثالا للتواضع والوقار ولين السريرة. فقد أحبهم الطلبة؛ وقابلوهم بحب مثله. فكان الطلبة يهرعون اليهم لعرض مشاكلهم؛ وحتى الشخصية منها. ولم تخل حياة الأساتذة ألإنكليز من الطرائف البريئة. فقد لقب الطلبة ألأستاذ ستارتب بـ (ابو الريش) من باب الغمز واللمز. وفي أحد المرات مر ببعض الطلبة فسمعهم يهمسون: ( وصلْ ألأستاذ ابو الريش). فما كان منه إلا ان يبتسم ويقول: ( يسْ؛ آيْ آمْ ابو الريشْ)...!؟.
لكن الأساتذة الأفاضل المتقدمين كانوا في كفة وألأستاذ فوآد جميل وألأستاذ فرج الله ويردي في كفة أخرى.... فكانوا كالمطيبات العطرة التي تضاف الى الطعام ليقبل الناس عليه بلهفة شديدة. فقد تميز ألأستاذ فوآد جميل بألأناقة الظاهرة وبقوة الشخصية والوجه الصبوح الباسم. وكانت وردة القرنفل الحمراء لاتفارق سترته الفاقعة اللون وألأنيقة. وقد كان قريبا بقلبه ومشاعره من الطلبة. فما أن تنتهي الحصة الدراسية حتى تجدهم وقد تحلقوا حوله في الحديقة الصغيرة (البقچة) للأستماع إلى حديثه الأدبي الشائق؛ وبخاصة عن علاقته الحميمة بالعلامتين مصطفى جواد وألأب أنستاس الكرملي وبالرحالة الأجانب. فألأستاذ (جميل) أديب متمكن من لغته العربية وإسلوبه الجميل. هذا فضلا عن إجادته أللغة ألإنكليزية. وكان كثير الظرف والطرافة. وله اسلوب جذاب في رواية النكتة. وكانت مهارته واضحة حين يبدأ بإثارة حمية بعض الطلاب والطالبات لإشاعة جو من النقاش المرح المحبب.
أما الأستاذ فرج الله ويردي فهو بحد ذاته كنز من النشاط والمشاعر الإنسانية الوطنية الجياشة. فهو شخصية وسيمة وجميلة المحيا. وبعيون ملونة أهلته أكثر ليدرِّس ألألمانية !. وقد عرف عنه تضلعه بهذه اللغة العريقة الجذابة كأصحابها وربما أكثر !. فهو مكتبة لغوية وأدبية غنية. فقد مكننا من تعلم الألمانية نطقا مفهوما الى حد ما؛ وكتابة ألأبحاث العلمية وترجمتها ما بين ألألمانية وألإنكليزية. وقد حفظنا عنه ألأشعار والأمثال الألمانية. من ذلك مثلا أبيات من قصيدة للشاعر ألألماني الكبير (هاينرش هاينه) عنوانها (لورالاىْ) ومطلعها بالإلمانية:Ich weiss nicht, was soll es bedeuten, Dass ich so trauring bin.وترجمتها العربية المقاربة: (لست أدري إن كان هناك سبب؛ لِمَ أنا حزين جدا).
ولابد ان يتذكر الطلاب كيف قاد حملة كبيرة ضد مشروب الكوكا كولا عام 48 م ، معتمدا عل التحاليل الكيميائية التي قام بها في مختبره الخاص والواقع في شارع الرشيد لإثبات كونها تحتوي على مواد كيميائية ضارة بصحة ألإنسان. فكان يحثنا على تناول المشروبات الوطنية. وقد عرف ألأستاذ المحبوب ( ويردي) بجده البالغ وبظرفه البغدادي ألأصيل معا. وكان لا يدخل الكلية صباحا من غير ان يحمل ألأوراد الجميلة ليقدمها إلى الطالبات ألمتميزات اللواتي يتقبلن تلك الإلتفاتة الجميلة من إستاذ قريب الى قلوب الطلبة؛ بالضحكات والشكر؛ وقد توردت خدودهن حياء. ولعلي اذكر هنا طرفة فريدة كان بطلها زميل ظريف من محلة الكرخ. فقد قرر ان (يتستفز !) ألأستاذ (ويردي). فطلب مرة منه وردة لنفسه؛ إسوة بالزميلات !. فما كان من الأستاذ (ويردي) إلا أن ينهره بلكنته الخاصة المحببة قائلا : (إمشِ ...إمشِ؛ يِريدْ وردة....أفندي) !؟. فإنفجر الطلبة في الضحك.
وينبغي ان لاننسى العمل الباهر الذي كان يقوم به الملاك الإداري والفني. ويتذكر الطلبة شخصية السيد عبد القادر عبد اللطيف مدير الإدارة وإحترام الأساتذة والطلاب له. فكان يدير مرافق الكلية بكفاءة نادرة؛ يعاونه فيها الشخصية المحبوبة أنور خوشناو سكرتير ألإدارة. وإبراهيم حنظل (ابو أسامة) مدير المخازن. أما فنيو المختبرات فهم صالح مهدي (ابو مهيدي) والملقب بـ ( موف ndash; اي تحركْ) !؛ وسلمان الراوي.
وكان موقع الكلية الملاصق الى مستشفى ألأمراض العقلية لا يخلو من مفاجآت. فكثيرا ما حدثت مفارقات طريفة ونحن نستمع الى المحاضرة بسكون تام؛ حين يداهمنا صوت عال آت من المستشفى. وإذا به صوت المريض (حمندوش) وهو يغني المقام والعتابات !. فينفجر الطلبة في الضحك. او قد نشاهد المريض (نجم) وهو يجمع ألأوراق والنفايات من ارض الكلية. وقد إعتاد ان يختار أعقاب السجاير ليمضغها..!؟. وقد روى الدكتور جاك عبودي مسؤول المستشفى كثيرا من المقالب والطرائف عن المرضى. فقد إصطحب مرة احد المسؤولين الكبار لتفقد احوال المستشفى. فوجدا مريضا يجلس وبيده خيط ودبوس وقد وضعهما في سطل ملئ بالماء. فسأله المسؤول: (چمْ سِمچة صِدتْ إلى هسة ) !؟. فأجابه المجنون: (هوَّ اكو واحد يصيد سمچ من السطلة)...!؟. لو آني سائل هل السؤال چان گلتوا علىَّ مخبل)...!؟.
ختاما نقول: إنها بانوراما ملونة ومثيرة لمشاعر الحنين الى وطن عريق لم نحسن الحفاظ عليه وعلى مؤسساته العلمية والثقافية وألإجتماعية والسياسية. لكن العراقي الأبي لن يفقد ألأمل أبدا بمستقبل زاه. فمثلما واكبت مسيرة (كلية الصيدلة والكيمياء الملكية) (حبة البركة) التي باركها سيدنا ( محمد)؛ فإن أملنا بمؤسساتنا العلمية والتقنية بأن تسعى للحصول على (الحبة السحرية) التي عرَّفها أحد العلماء بكونها تمثل إرادة العمل والإنتاج وألإبداع وألإبتكار لدى ألإنسان. فلولاها لما تقدمت الحضارة ألإنسانية الى المستوى المتقدم الذي نشاهده اليوم. والعراق الحبيب ليس إستثناء من هذه القاعدة الذهبية.
* أكاديمي مغترب من العراق
ملاحظة 1: هناك في المقالة 11 صورة متداخلة يمكن مشاهدتها من النقر على ألأرقام.
ملاحظة 2: لمن أراد المزيد من المعلومات ألإضافية عن كلية الطب وكلية الصيدلة فعليه الرجوع الى البحث القيم للأستاذ الدكتور (سعد الفتال) على (النت).