رسائل لا تصل

السنيور فرنانديث، هو صانع فقّاعات الصابون يوم الأحد. تراه في بلاسا إسبانيا أو متنزّه سيوتادِيّا.
بحبلين ووقفة صحيحة في الريح، تخرج
فقاعاته الملوّنة: صغيرةً وكبيرةً. جمالُها يلفت الكبارَ قبل الصغار. بعضهم يبتسم، والآخر يُشغّل كاميرا الجوّال.
أما فرنانديث، هاوي هذه الشغلة التي تعلّمها عن روماني مشرّد، فلا يعنيه إن إمتلأ الكوبُ الفارغ بجانبه، أو حتى ظلّ فارغاً. لو تحصّل، نهاية النهار، على ثمن وجبة بمشروبها، فهذا يكفي.
إنه يتعامل مع شغلته بأعمق ما في روحه. يقول: لا يحتاج صانع الفقاعات لسفسطة الهير هيغل، أو المسيو كانط.
فقط يحتاج إلى استبطان الحياة.
كيف يا فرنانديث؟
ألا ترى حقيقة الحياة يا أميغو؟
مالها؟
أليست مجرّد فقاعة صابون سرعان ما تنفثىء؟
ربما.
أنا فقط أحب أن أُذكّر الناس بحقيقة حياتهم.
ثم يزفر ملوّحاً بيديه في الهواء:
أتدري؟ إنّ أتعس ما في هذه الشغلة، أنّ رسائلك لا تصل.
ويمضي وقد حلّ المساء، بشعره المضفّر المستعار، وبنطاله الممزق عن ركبتيه، وشقرته الداوية، حاملاً نصف الوعاء الفارغ والحبلين وسائل التنظيف في الحقيبة، ليبحث عن بار أو مقهى.
ألحقه ..
دقيقة يا أميغو ..
يسرع ثم يلوي رقبته بغضب:
لن تصل أبداً!

نسيان
بيدرو تقاعد اليوم، بعدما أتمّ الخامسة والستين. عمرٌ أمضى أكثر من ثلثيه، في مصنع الموادّ الحافظة، بجوار جيرونا.
بيدرو غير راض عن عمله بالمرة، ولا عن حياته.
وما الفائدة؟
جسدي يفسد، والحمقى صنعوا موادّ حافظة لكل شيء، ونسوا بيدرو.

ديالوغ
أنت في إبريل، غيرُك في مايو. في الصباح، غيرُك في المساء. قبل السيروم، غيرُك بعده. فكيف تكون quot;أبديتكquot; يا باسكوال؟ تلك الباتت على مقربة .. على مرأى، أيها الأرمل.
الغامضة.
كم يُذكّرك بياضُ الحكيمات في مشفى دل مار بها! وكيف ستكون يعني؟ جديدة تماماً على أمثالك، ممّن يبجّلون الكتب؟ شدّ ما قرأتَ عنها وشدّ ما أحسست بالمكتوب. كلا، هؤلاء الشعراء لا يكذّبون ولا يلفّقون. كلا نيرودا لا يُلفّق، ولا بيثنتي ألكسندري يكذب. أنت أيضاً، تيسّر لك عيش هذه اللحظات الخاطفة كبرق. مرة شعرت بها وأنت داخل أدريانا، عندما قذفت واسترخيت فوقها بطلبها. مرة وأنت في ترين الأنفاق، من برشلونة لجيرونا. كنت واقفاً متكئاً على العامود، وحولك عمال تشيليّون وطفلان بديعان. مرة وأنت تتبرّز في الحمّام نهاراً وقد أرخيت الستائر.
لكن هناك .. مَن يعرف ما يدور هناك؟
لا غرو أنها ستكون أبدية غير المتاح لنا من أبدية الأرض. ربما ستكون أطول وقتاً وأغور نشوة. فحامل الصليب سيعوّضنا عن كل ألمنا الذي ألحقته بنا حكوماتُ البيبي. مع ذلك، ما زال غموضها، يعذّبك يا باسكوال. صحيح أنه بعد السيروم خفّ، إنما خفّ مؤقتاً بفعل الفيتامينات الجيدة. خفّ وسيعود ليلاً حالَ عودتك ل 18 كارّيه نابولس.
لو يعطونك في السيروم بعض نبيذ جيرونا؟ لو يعطونك الآن؟ لكنت تستلذّ. كنت تغفو غفوة حيٍّ لا ميّت. لكانت الطبيبات أجمل وأكثر فتنة مما هنّ عليه، في لحظة المغرب هذه .. والعائدون من نزهة البحر، ينفضون التراب عن ملابسهم وصنادلهم، فيما سيارات الإسعاف تطلق جئيرَها المنفّر، فاغرةً حنَكَها عن ضيوف الأبدية الجدد.
إنها الحياة يا عزيزي: جيل يسلّم الراية لمن بعده ويرحل. جيل وراء جيل وراء جيل. لكنك لم تسلّم الراية لأحد، لعطلٍ ما في أدريانا الطيبة. أدريانا التي كانت تنتظرك كعادتها حين كنت ترجع من مصنع السيارات: متألقة، مستبشرة، كاملة الأوصاف.
هل ستنتظرك هناك أيضاً يا باسكوال؟
هل ستنتظرك متألقة مستبشرة كاملة الأوصاف؟ كلما زرت قبرها، فقدت الأمل في حلمٍ كهذا. لأن شمس برشلونة في آب كفيلة _ بتعامدها على رخامة القبر ndash; أن تمتصّ كل نُسغٍ فيك يا عزيزتي أدريانا.
كل نسغ! فكيف ستتألّقين وتستبشرين بعد ملايين الآبات؟ يبدو أن مفعول الفيتامين انتهى يا باسكوال، وإلا بحق المسيح، ماهذه الهلاوس؟ يا باتريشيا، أين أنت أيتها الممرضة؟ باتريشيا، أنتِ أين؟ هذه الكهلة المدريدية لا شك تسحّبت لتدخن. تعرف لكنك تريد المزيد من السيروم، فقط كيلا تدخل في الهلاوس. كيلا تفقد الأمل بانتظار أدريانا لك هناك. وكيما تعيش أبديات نيرودا وبيثنتي الوجيزة على نحو أوسع وأمتع. أنت يا من تكون في إبريل، غيرك في مايو. في الصباح، غيرك في المساء، قبل السيروم .. إلخ إلخ.

بيرة ألمانية
أخرج للفضاء، تدخل جوانا في أنفي. أعطس، لا تخرج. أعود للبيت، وأحكي لها، فتصرخ: مُهرطق! أتوسّل الشرح، فتحرف الموضوع، وتهجو البيرة الألمانية.
ما دخل البيرة يا جوانا؟
بلى، لها دخل. ألم تشرب ثلاث عُلب قبل الخروج؟
ثلاث عُلب!
تنسى أيها المهرطق؟
جوانا هكذا. لا تكفّ عن تأنيبي وتعذيبي. وأقسى ما فيها، أنها دائماً ما تحرف الموضوع: دائماً ما تذهب إلى فجاجة لغتها الشعبية، دون أدنى اهتمام بالاشتغال عليها كي تكون لبقة.
لقد عييت مع جوانا. كل وقتها تنصاع لإغراء الفجاجة. صحيح هو إغراء له لذة، إنما تنبغي مقاومته حتى نكون جديرين بتحضّرنا.
ثم متى تناولت أنا ثلاث علب؟ هل وصل بها الانحدار حدَّ التلفيق؟ تنعطف من موضوع لموضوع دون رابط، وقلنا نصبر. أما أن تسقينا من عنديّاتها فلا. إلا هذا يا جوانا.
جوانا!
نعم يا حضرة الزوج؟
ينبغي أن تفكّري قليلاً قبل أن تطلقي صواريخك.
نعم! ماذا تقصد؟
أقصد آن الأوان كي تتكلمي لغة مختلفة.
عمّا تتكلم أيها المسطول؟
عن لغة أخرى أودّ سماعها منك بعد أربعين سنة زواج.
لم أفهمك.
وانتهى حوارنا بخناقة.
ما يغيظني أنّ جوانا متخصصة في الأدب الإسباني، لكنها لم تتورّط فيه، بالمفهوم الجمالي للتورّط. ظلت مخلصة لمنابتها الأولى، وظل التخصص مجرد ورقة للوظيفة.
أخرج مرة أخرى للفضاء، فتدخل جوانا في أنفي. أعطس، فتخرج. أشعر هذه المرة بروعة الحرية وخفتّها. حقاً: الحرية تحليق أجنحة!
أكافىء نفسي فأنعطف إلى حانة خوليو، وأطلب بيرتي الألمانية.
جوانا خلفي، ويومي أمامي.
يا للسعادة: يوم رائق.
يا للسعادة: يوم تحليق أجنحة!

لقاء
هذه ليست حياة. ويصمت. هذه ليست حياة. ويحدّق في رغوة البيرة. هذه ليست ..
.. طريقةً في الكلام! هل صرت أسطوانة؟ أُذكر الأسباب، أو اسكت! وينظر أنتونيو في بؤبؤ مانويل، ثم يرين الفتورُ بينهما. يمرُّ وقت، وتخلو الساحة أمام المقهى. فيزفر أنتونيو: لستُ مدرّس رياضيات لأعلّل يا مانويل. هذه أمور تُحس وتُعاش.
تُحس وتُعاش صحيح، لكن لا بد من التوضيح والتفصيل. لا بد من لغة.
لغة؟
أجل. بلا لغة لن يُفهم المرء.
وهذا الكلام بيننا على التربيزة، ما هو؟
لا. هو كلام فقط.
أنت غريب يا مانويل.
غريب؟ أنا غريب يا أنتونيو؟ ثم يرين الفتور بينهما. يمرّ وقت، وتمتلىء الساحة أمام المقهى.
يزفر أنتونيو: لستُ مدرّس رياضيات لأعلّل يا مانويل. هذه أمور تُحس وتُعا...
كلا. بلا لغة، لن تُحس ولن تُعاش!
لقد تغيّرت يا مانويل!
أنا؟ أنا تغيّرت؟
أجل. صرت مثلهم. مثل هؤلاء الذين يشربون ويضحكون.
كلامك غامض ومبهم. وأنا بطبعي لا أحب الإبهام.
إبهام يا مانويل؟
هل نسيت عندما كنا هناك.
كنا نفهم بعضاً ونحس ببعض من خلال نظرة واحدة.
الآن جلسة طويلة ولا نلتقي!
عمَّ تتحدث يا رجل؟
عم أتحدّث؟ لقد اختلفت بنا السبلُ يا مانويل.
اختلفت السبل؟
آه .. أسلوب العيش البرشلوني أثّر عليك.
كل هذا لأني أقول لك وضّح؟
وماذا أوضّح؟
قل مما تشكو.
مم؟ وهل ما نعيشه هذا هو ..
هذه ليست حياة. ويصمت. هذه ليست حياة. ويحدّق في الكأس الفارغ.