أعرفه... حين امرّ خلل هذا الزقاق تجاه سوق الحدادة والسمكرية أراه لصق جدار ثاوياً في مكانه واقفاً أو مستريحاً على الأرض. ودونه العلفُ. لم اره يبرح مكانه الا ليلاً، شدّني اليه لونه الأحمر وقرناه العاجيان والعينان الوسيعتان وهما ترنوان بحميمية الى المارين جواره. كان وادعاً يُمضي الوقت بين تناول العلف والركود الوقور. كلُّ الثيران التي رأيتُ ذات الوان كالحة عاتمة مغبرة. لكنّ جسدَ هذا الكائن مختلف مغطىً بشعر حرير احمر فيه بقايا صفرة خفيفة. كدتُ أنساه بسبب غيابي عن مدينتي زهاء ستة اشهر. وكنتُ افضل هذا الزقاق الموصل الى السوق على الطرق الاخرى التي تُفضي اليه، المترب صيفاً والموحل شتاءً. طريق مختصر يضعك وسط السوق المكتظ بضجيج المطارق واجهزة اللحام النارية. ومنه يُمكنني دخول سوق الخضار والأقمشة والبقالة... وما أن وطئت قدماي مدخل الزقاق حتى سمعتُ هياجه ، يضرب الفراغ بقوائمه الخلفية مثل بغل هائج. وينطحُ الجدران بقرنيه كما لو كان يُريد ازاحتها. وقفتُ هُنيهة اوازنُ موقفي. كان الدربُ خالياً الّا منه ومني، حين لمحني خفّ تجاهي مسرعاً بعدوانية وعشوائية ومنخراه يزفران ما يُشبهُ الدخان. الا اني ارتقيتُ درجاً خشبياً يستند الى جدار يتصل اعلاه بالسياج العالي لأحد البيوت. وما ان قبضت كفاي اعلى الجدار حتى نطحه بقرنيه واوقعه ارضاً مثيراً دمدمة عالية وغباراً. كنتُ ابانئذ اتشبثُ بحافة سياج سطح ذلك البيت. كان بابه مُغلقاً. لذلك استعنتُ بالدرج الذي تهاوى على منتصف الزقاق. حين نظرته من عل ٍ بعد ان صرتُ على السطح رأيته يتملّاني شزراً محتدّاً رافعاً رأسه بعدائية. اخذ يضرب باحدى قوائمه الأرض وكأنّي به يُخاطبني: / أينما تذهب فأنا وراءك /
كانت اسيجة السطوح واطئة تتصل ببعضها، وبوسعي أن انتقل خلال عشرين او ثلاثين سطحاً وانزل الى باحة آخر بيت واجد عذراً مقبولاً لتطفلي واقتحام البيت. ومن فوق سياج البيت الأخير رنوتُ الى الزقاق المُتصلة نهايته بالسوق. هبطتُ عبر ست عشرة درجة الى الفناء. وعنّت لي امرأة ٌ عجوز كانت تقوم بنشر الثياب على حبل الغسيل تحت شمس الضحى. وقبل أن اعتذر عن تطفلي بادرتني: / اتهرب من الوحش الأحمر ؟ كن حذراً حين تخرج من فتحة الباب، وربّما ينتظرك / كيف يعرف اني في بيتكم ؟ / اوه، لديه حدسٌ عدواني ماكر تُجاه الغرباء، فلا يتحرّش ابداً بساكني الزقاق / لكني كنتُ اراه سابقاً وادعاً هادئاً لا يعتدي على احد / لقد تغيّر، غشيه جنونٌ عدواني، هكذا يقول عنه صاحبه، وانّه يُفكر في التخلص منه، فلا احد يقتربُ منه الا امرأته، فتُطعمه وتسقيه، لقد رأيتُه يشمّ ثيابها، بل يهمُّ بتقبيلها وهي راضية مرضية، اذن مع السلامة وخذ حذرك /.. فتحتُ الباب ورأيتُه في منتصف الزقاق، وما أن لمحني حتى اسرع تُجاهي، بيد أني ولجتُ السوق وتوغلتُ في الزحام، لكنّه تبعني تحت انظار الناس واهل السوق، واضطررتُ الى ولوج بوابة احد المباني وارتقيتُ درجاً حلزونياً ضيقاً، وما ان وصلتُ منتصفه حتى كاد بوزُه يلامس قدميّ. انحصر في مكانه فلم يقو على ارتقاء بقية الدرجات اللولبية ولا على التراجع. كان يلهثُ ومنخراه ينفثان بخاراً ساخناً. اقعيتُ على احدى الدرجات ارنو اليه بعد ان عجز عن الصعود. انحنيتُ المسُ جبهته وجعلتُ اخاطبه: / لمَ تكرهني وتُطارني فأنا لم اوذِك، بل احببتك واعجبتُ بك. انت كائنٌ عجائبي نادر. لونك يخلبُ لبّي، اسمح لي ان المس جبهتك / وداعبت اصابعي قرنيه الأبيضين وجبهته الناعمة. غضّ طرفيه واغمضهما كما لو اراد ان ينام. لم اقترب منه بهذا القدرقبلاً، غبئذ ٍ ترامت اليّ جلبة ٌ امام البوابة وقبل ان يروني ارتقيت بقية الدرجات وجريتُ داخل ممرات المبنى، وانتقلتُ من رواق الى سواه ثم نزلت من درج آخر الى السوق. بيد ان مرأى الثور الأحمر أدهشني، كان صاحبه يجره وراءه من زمامه هادئاً رصيناً. وقفتُ على حافة الشارع ومرّ الى جواري ناظراً اليّ بحنان صادق.... بعد أيام ولجتُ الزقاق اروم غشيان السوق فاستغربتُ فراغ مكانه الذي ما زال ينطوي على بقايا القش والروث. احتقن صدري بالحزن، وقبل ان اترك الزقاق رأيت المرأة العجوز على ميمنتي / لقد ذبحوه اول امس، قيل أنه جُنّ، ووزعوا لحمه على الجيران، تعالَ تغدّ معي سأطعمك لحمه / شكراً، لا استطيع فلديّ موعد مهم / صاحت مستاءة: / اوه ؛؛ ما احمقك، سيفوتُك تذوّق لحمه الطازج، انت مثالي /
أذن، ذُبِحَ الثورُالأحمر، فقد خرج عن طوره وتمادى في الحمق، وغدا ضحية تهوره العدواني، وحين يستفحلُ شأنُ كائنٌ بسبب حماقته تتكاثرُ عليه السكاكين.....


طائرةُ الورق

في الصبح قبل بزوغ الشمس اتمشى في الدرب، زهاء نصف ساعة. حضنُ النهار الجديد دافيءٌ، والهواءُ بليل نقيّ، تركتُ صدري يستاف ما عنّ له من الهواء، اعبئه بالاوكسجين، اضحكتني ذي الكلمة. ومضيت شاقاً طريقي، اعبرالشارع َ فالشارع. اجتابُ افضية المدينة شبه الخالية. ما ابدعَ سكونَ النهار وسطوعه، وخلل المسير التقيتُ فتيين مراهقين يمسك كلٌّ منهما خيطاً. اذن ثمة طائرتين ورقيتين، رفعتُ ذقني الى السماء لأراهما حمراء وخضراء، تسيحان تحت زرقتها هادءتين وادعتين لا تجرحان احداً، استغربتُ وضع الفتيين. وقبل أن ارمي عليهما سؤالاً بادرني الفتي الطويل: / من منتصف الليل اطلقناهما، كان ضوءُ القمر يُسعفنا على متعتنا والنظر اليهما، لقد تعبنا وجعنا فهل بمقدورك ان تُمسك بالخيطين وتُتيح لنا تناول فطورنا ؟ سكت هنيهة ثمّ تابع القول: وان تأخرنا اكثر من نصف ساعة فبوسعك اطلاقهما لتهيما في عمق السماء / مددتُ يديّ، تناولتُ منهما رأسي الخيطين، ومضيا. ما اسعدني، لقد اعادني الوضعُ الى أيام طفولتي حين كنتُ اصنع بنفسي طائرة الورق وقد اكتسبتُ خبرة ممّن يكبرونني سنّاً. ولأن محلتنا على حاشية المدينة فما اكثر الأفضية والفرص لممارسة تلك الرغبة المبرّءة من الشرّ والعدوان. ذي الطائرات لا تُثير هلعاً ولا تُمارسُ عدواناً ولا تُزهقُ روحاً. احياناً اظلّ ساعتين وأنا ارى طائرتي تسبح في الفضاء الأعلى يتحرّك ذيلها الورقي الطويلُ المضفور مع هبات الريح. احياناً ينقطعُ الخيط وتهيم بعيداً حتى تختفي. ولا يعروني الندمُ أبداً، فأهمسُ مع نفسي: سوف اصنعُ واحدة ً اخرى. لكنّ خيطَيْ هاتين الطائرتين اللتين امسك بهما ثقيلتان بشكل لا معقول. شعرتُ انّ يدّيَ تخونانني. الهي لا تخذلني. بيد انّ اغربَ ما في الأمر اني كنتُ مُثار استهجان بعض المارّة. ممّن يتريّضون مثلي او يمضون مُبكّرين الى أعمالهم. غضضتُ بصري خجلاً. أحياناً كنتُ ارفعُ بصري وارى الطائرتين تتهاديان في الأعالي.
فجأة ً تنبهتُ على صوت امرأة وقفت لاهثة الى جواري. كانت مثلي تمارسُ رياضة الصبح: / منذ متى وانت واقفٌ تُمارسُ رياضتك ؟ / استغرقتُ في الضحك، كيف عبّرتُ عن موقفي على أنّه رياضة، لم اجبها بل ابتسمتُ لها / فهمتُ، قالت: غداً سآتي بواحدة واقف الى جوارك لنكون ثنائيين / كلفني صبيّان بهذه المُهمة، ذهبا يفطران وسيعودان بعد قليل أنا مثلكِ كنتُ اتريضُ حتى استوقفاني ورجوا مني ان امسك بالخيطين. قلتُ بخجل / فجأة ً ظهر الفتيان وتناول كلّ واحد من يديّ خيط طائرته واثنيا عليّ شاكرين. ودعناهما ومضينا انا والمرأة نواصل رياضتنا.
..................
في مكان آخر، ربّما كان محلاً لبيع الخردوات والأثاث القديم. الجو معتمٌ والأبواب مُغلقة فكيف دخلتُ الى هنا ؟ سألتُ نفسي، انزلني السلمُ الكهرائي الى السرداب الكبير المكتظ بالموبيليات القديمة والراديوات والمسجلات والثياب المستهلكة المستغرقة مساحة واسعة. وفي الطرف الأقصى كانت الكتب، كتبُ الفن تستهويني ولا بدّ أن امرّ كلّ يوم عليها، اتصفح جديدها واقتني ما يحظى باعجابي. رائحة الخشب القديم والملابس والكتب واشرطة الفديو وأصباغ الأحذية المُرمّمة تزكم الأنف. عدتُ الى جناح اللوحات، كان ضوءُ الصبح ينسرب من احدى النوافذ فيُتيحُ لي رؤيتها. وراقت لنظري لوحة نساء الحقل لفان كوخ مرسومة نسجاً بخيوط ملوّنة. سعرها خمسون كرونة سويدية. حملتها معي بغية شرائها حين يُفتح الباب ويبدأ العمل. اعادني المصعد الى ذات الزاوية التي ثويتُ فيها. تكوّمت على كرسي انتظر فتح الأبواب وحضور العمال. لكن مَنْ سيُصدقني اني وجدتُني هنا بمحض المصادفة، فلم احطّمْ باباً ولا نافذة ولا جداراً. وإذْ اجترّ مخاوفي وهواجسي. صرّ باب وبابٌ وثالثُ واشعل احدُهم المصابيح. دخلوا غير مُبالين كما لو لم يروني ابداً. غير ان المرأة التي التقيتها في المشهد الأول لمحتني، هرعت نحوي مستغربةً: / ما الذي تفعلُ هنا وكيف دخلت والمكان مُغلق ؟ / هززتُ رأسي مبتسماً: / لا أدري، حين تركتكِ هناك، اشرتُ بيدي الى جهة ما، وجدتُني هنا، اعجبُ من وضعي، لم اتسربْ من باب ولا من فتحة في الجدار / يبدو انك تحبُّ هذا المكان، لذلك يحملك الحلمُ دوماً اليه، حتماً انت وأنا يجمعنا احدُ احلامك / حين نظرت الى لوحة كوخ سحبت حسرة: وتابعت: ما أرهفَ ذوقك، كنت اقف امامها كلّ يوم وانا اقوم بالتفتيش اليومي. تستطيع أن تأخذها هدية من المحل / شكراً، لكن ينبغي أن ادفع ثمنها / انّها لك، وانا المسؤولة عن هذا المحل، هلمّ معي اضعْها في كيس لئلا تتوسخ / تناولتها مني وادخلتها في كيس بلاستك ابيض، واعادتها اليّ. ثمّ امسكت بيدي: / هيا ارِك شيئا يفتحْ شهيتك / أنزلنا السلم الكهربائي الى الأسفل ومضينا تُجاه باب حديد، اخرجت من جيبها مفتاحاً، ادخلته في ثقب وانفرج عن فضاء مربع اشبه بالخميلة. احتوانا ممرٌّ حجريّ تحف به شجيراتُ العنب: عناقيدُ بالعشرات تتهدل فوق رأسينا: / انها لم تنضجْ بعد، لكن ثمة َشجيرة في مؤخرة الحديقة،حبات ُ عناقيدها صغيرة وناضجة بشكل استثنائي، سألتقطُ بضع حبات نتذوّقها وحسب / كانت اقصرَ من صاحباتها وعناقيدها اقل، وقفنا تحتها، رفعتْ يدها، تناولتْ بضعَ حبات، كانت صفراء بلون الكهرب، وضعتْ حبتين في فمي وحبتين في فمها وجعلنا نمضغهما، صحتُ بشكل لا ارادي: / الهي ما احلاها وما الذها، لم اذقْ في حياتي مثلها / نعم، يقولُ ابي إنها من اعناب الجنة / واين هي الجنة ُ حتى ياتي ابوك منها بهذ الشجيرة ؟ / انا مثلك سألته ذا السؤال، الّا أنّه صرخ فيّ: لا ينبغي لك ان تطرحي مثل هذا السؤال، ثمّ تركني مستاءً وغادرني، منذئذ لم اره ولم نلتق ابداً، لكنّه ترك لي هذه الجنينة وذلك البيت الذي يتمرأى لعينيك، يُمكنك ان ترى قرميدَ سطحه الأحمر ونوافذه العلوية، بودّي لو آخذك اليه، ونحسو فنجان قهوة تُهيئُها لنا امي. لكني ينبغي أن اكون بعد قليل مع العمال / ارفع يدك والتقط بضع حبات / رفعتُ يدي اروم قطفها الّا انّ المشهد اختفى برمته، غبئذ ٍ وجدتُني جالساً على حافة سريري افرّك عينيّ امسحُ عنهما بقايا الوسن. لكنْ، اين لوحة ُ كوخ ؟ مددتُ يدي بعشوائية ابحثُ عنها طيّ الفراش، ثم فطنتُ الى سخف تصرفي، سأذهبُ منتصفَ النهار الى ذلك المحل، لأقتني تلك اللوحة والتقي المرأة التي اطعمتني حبات العنب.
ظهراً غشيتُ المكان، ثمة اشخاص يتحركون بين اواني الزجاج والكتب المعروضة. بيد أن قدميّ حملتاني تُجاه السلم الكهربائي نازلاً الى السرداب، توغلتُ بين الأرائك والمقاعد والمناضد، اجلت بصري بين اللوحات المعروضة فلم اجد بُغيتي، حتماً اشتراها احدهم كونها اجمل ما عرض على الجدار الطويل. عدتُ مُحبطاً، حين سألتُ عن صاحبة المحل اشار العامل نحو امرأة طويلة بدينة شرسة الملمح تمسح الداخلين والخارجين بنظرات لاودّية. مررتُ أمامها رفعت يدها وحيّتني، اقتربتُ منها باسماً، سألتني: / ألم نلتقِ انا وانت في مكان ما ؟ / ربّما في الحديقة الخلفية القريبة من منزلك / شزرتني بقسوة ورددت مع نفسها: / مجنونٌ آخر، يا لحظي السيء / جمعت قبضتها ولكمتِ الفراغ امامها بعصبية،و قبل أنْ يتأزمَ الموقفُ غادرتُها، هامساً مع ذاتي: ينبغي لي أنْ لا اعود الى هنا مرّة أخرى.....