.. طالما نحن نتحدث عن عمارة باريس، من وجة نظر معمارية quot;خاصةquot;، علينا، إذاً، زيارة بعض من تلك الشواهد، التى جعلت من باريس مدينة معمارية بامتياز. لنبدأ، إذاً، جولتنا من quot;شارع سوفلوquot; Rue Soufflot، الشارع الباريسي، بالحي اللاتيني، هو المسمى باسم أحد المعماريين الفرنسيين: quot;جاك جيرمان سوفلوquot; (1713- 1780). يثير لدي، هذا الشارع إهتماما خاصاً. وأجد في واقعة تسميته نوعاً من التكريم النادر للعمارة (للمعماريين، على وجه الخصوص!)، هم الذين quot;ظلواquot; دوماً محرومين ومبعدين عن التقدير والاعتبار، رغم دورهم الحضاري المرموق، وعملهم المشهود له بالابداع والمهنية العالية. فالاشتغال على تحسين البيئة المبنية، مرة، وquot;خلقهاquot; في مرات آخرى، كان على الدوام يعتبر عملاً تجديديا وبارعاً يتطلب، بالضرورة، توافر مهارات ومعارف عديدة. إذ أن التحري عن قرارات صائبة وسديدة، وملائمة في الوقت ذاته، في رسم quot;مساراتquot; الناس، وتنظيم حركتهم في فضاءات مفترضة (تضحى، لاحقاً، واقعا معاشاً)، وابداع مأوى لهم، وخلق أحياز متنوعة لعملهم ولراحتهم، لهو قرار ليس بالهين. بيد ان التساؤل يبقى قائما: كم من quot;شوارعناquot; العربية، يحمل اسم معمار، بجانب فيض من اسماء مدعيي زعامات سياسية، سرعان ما يتبين خواءها وبلاهتها؟. لا اعرف مدينة عربية فيها شارع يحمل اسم معمار. quot;دلونيquot;، رجاءاً، ان كنتم تعرفون!... لكن هذه قصة آخرى.

وquot;جاك جيرمان سوفلوquot;، هو مصمم مبنى quot;البانتيونquot; الذي منه يبدأ الشارع مساره، ليصب في بولفار quot;سان ميشيلquot; بالدائرة السادسة. معلوم ان البانتيون Panthe`on، هو مكان دفن عظماء فرنسا، وتعود الكلمة بجذرها الى اللغة الاغريقية، ومعناها: quot;مكان الالههquot;. لكن البانتيون، في حالات عديدة، لم يحفظ جثامين رجالات فرنسا بعد مماتهم مباشرة؛ فالكثير من quot;المدفونيينquot; به، تم نقل أجسادهم بعد مماتهم بسنين، بل وبعد مضي عقود من السنين! فعلي سبيل المثال، ان quot;بيار كوريquot;، عالم الذرة الفرنسي المعروف، الحائز على جائزة نوبل للفيزياء مع زوجته quot;ماري كوريquot; عام 1903، (المتوفي اثر حادثة غريبة وفاجعة، ففي يوم 19 نيسان من سنة 1906، خرج الى شوارع باريس الماطرة، وquot;انزلقquot;، امام عربة خيل، ما لبثت ان سحقت راسه بعجلتها، ما ادى الى موته في الحال!)، تم نقل جثمانه وجثمان زوجتة (المتوفية سنة 1936)، الى البانتيون، فقط، سنة 1995! والحال ذاته، ينطبق على quot;اندريه مالروquot; الشخصية المتنورة، ووزير ثقافة فرنسا في عهد ديغول، اذ، تم دفن رفاته في البانتيون سنة 1996، بعد عشرين سنة على وفاته سنة 1976. بيد ان المثير في quot;حكايةquot; مدفوني البانتيون، يكمن، ايضاً، في ابعاد رفاتهم منه، بعد دفنهم فيه. كما حدث quot;لخطيبquot; الثورة الفرنسية lt;ميرابوgt; (1749- 1791)، الذي يعتبر quot;اولquot; من دفن بالبانتيون سنة 1791، لكن جثمانه سرعان ما استخرج، وابعد عنه سنة 1794. اما quot;حكايةquot; احد جنرلات الثورة الفرنسية: quot;اوغسطين - ماري بيكوquot;، فهي الآخرى تبدو مثيرة ايضاً؛ فقد اختفي جثمانه من البانتيون، بعيد وفاته ودفنه فيه في سنة 1793، ولا احد يعرف لحين الوقت الحاضر مآل تلك quot;الجثةquot;!
بالطبع، ما يهمنا أكثر، هنا، هي quot;عمارةquot; البانتيون. انها احدى quot;ايقوناتquot; باريس المعمارية، التى أُريد لها (او بالاحرى اراد معمارها)، ان تضاهي بعمارتها كنيسة القديس بطرس في روما، وكنيسة سان بول في لندن. فعندما كلف المعمار quot;جاك جيرمان سوفلوquot; الشهير في زمانه، وقتذاك، واحد اساطين طراز quot;العمارة الكلاسيكيةquot; بتصميمها، كانت النية متجة لتشييد كنيسة، للقديسة quot;جنفيفquot;، لايفاء نذر، أوجب على نفسه الملك لويس الخامس عشر، بعد ان تعافى من مرض خطير ألم به. وقد جاءت عمارة الكنيسة اياها مزيجا ما بين الكلاسيكية وطراز quot;الباروكquot; الصاعد. ففي حين، يعطي الرواق المعمد quot;البورتكوquot;، في واجهة الكنيسة احساسا بالكلاسيكية الرصينة، تبدو quot;قبةquot; الكنيسة الضخمة تواقه لعكس التطلعات quot;الباروكيةquot; الجديدة. ومن اجل تحقيق طموحات المعمار الجريئة، فقد استلزم بناء الكنيسة فترة طويلة من الزمن، بحيث ان سوفلو لم يتسنَ رؤية منجزه التصميمي كاملاً، اذ ان مدة تشييدها، التى بدأت في سنة 1758، استمرت بعد وفاة معمارها بحوالي عشر سنوات، واشرف تلامذته من بعده على عمليات البناء. لكن تغييرا هاما ورديكاليا طرأ على طبيعة الزمن الذي به تم افتتاحها سنة 1789. وهذا التغيير اقترن بنشوب الثورة الفرنسية، واعلانها سقوط الملكية، وتأسيس الجمهورية، ما حدا quot;بالحكام الجددquot; الى quot;تبديلquot; غاية المبنى الاصلية، وتغيير هدفه، مقترحين ان تكون مكانا لدفن quot;الرجال العظماء من عصر الحرية الفرنسيةquot;. وقد انجز quot;ديفيد انجرquot; مابين 1831 و 1837، منحوتات quot;قوصرةquot; اعلى الواجهة Pediment، يسندها شريط لكلمات مقولة، تنص على مايلي: quot;الى الرجال العظماء، الممتن لهم الوطنquot; Aux grands Hommes, la Patrie reconnaissant. لكن مع هذا، فقد ظل مبنى البانتيون وفكرته، طوال القرن التاسع عشر رهينة لصراع عنيف بين lt;الكنيسةgt;، وlt;الملكيةgt;، وlt;الجمهوريةgt;. وقد quot;تحولquot; على سبيل المثال، مرتين الى كنيسة (في عامي 1823و 1852). وبعد وفاة quot;فكتور هوغوquot; ودفنه هناك سنة 1885، سلمّ الجميع، بصورة قاطعة ونهائية، بوجوب ارجاع البانتيون الى quot;مهامهquot; الجمهورية. بالمناسبة، المعمار سوفلو مدفون في البانتيون ايضاً. دفن سنة 1829، في حين انه توفى في سنة 1780.
quot;يصبquot; شارع سوفلو، كما اشرنا في بولفار quot;السان ميشيلquot;، الذي يحاذي quot;حدائق اللكسمبورغquot;. والاخيرة، احدى فضاءات باريس المفتوحة وحدائقها المميزة، هي التى امرت quot;ماريا مديجيquot; بتخطيطها عام 1612، حول قصر ملكي، شيد هناك، في الوقت الذي كان ذلك المكان خارج حدود المدينة. وquot;ماريا مديجيquot;، ارملة الملك هنري الرابع، اتينا على سيرتها في الجزء الاول المنشور من هذه quot;الانطباعاتquot;. تعتير حدائق اللكسمبورغ quot;رئةquot; الحي اللاتيني وما يجاوره، والمكان المفضل لاستراحة واسترخاء طلبة المؤسسات التعليمية العديدة المجاورة. وكان في القرن الثامن عشر، المكان الاثير لتمشي ونزهة المثقفين الفرنسين؛ بضمنهم quot;جان جاك روسوquot; والكاتب المتنور quot;دني ديدروquot; وغيرهما من مثقفي باريس. عندما زرت العاصمة الفرنسية ، لاول مرة، وكان ذلك قبل حوالي نصف قرن (سنة 1964)، كنت حريصاً ان ارى اللكسمبورغ، واتمشى في فضاءآته، وأجلس بجنب quot;نوافيرهquot; الرائعة الفريدة في اشكالها وحجومها. كان ذلك الحرص، يعود لاسباب عديدة (في الاقل لثلاثة اسباب!). اولهما، شغفي لمشاهدة quot;ريو سوفلوquot; lt;شارعيgt; المفضل، الذي قرأت عنه الكثير، وقتذاك، وأنا طالب عمارة، وكذلك مبنى البانتيون المجاور، ورؤيتهما بتأنٍ وابتهاج، وأنا مسترخي، جالساً، في حدائق اللكمسبورغ. والامر الثاني، يتعلق بتعقبي quot;مساراتquot; ارنست همنغواي، الكاتب الامريكي المعروف، الذي كنت من المعجبين به جداً، وبكل ما يتعلق به. ففي ذلك الوقت، (في سنة 1964)، صدر له كتاباً بعد وفاته التراجيدية (انتحر في سنة 1961)، بعنوان lt;عيد متنقلgt; Moveable Feast A (نقله، بنفس العنوان، الى العربية عطا عبد الوهاب سنة 1985). هذا الكتاب ترجمه الروس، وقتذاك، بعنوان آخر: quot;العيد، الذي دوما معكquot;؛ وقرأته بالروسية، حالما صدر هناك، في وقت كان مثقفو الاتحاد السوفياتي، حينها، مهوسون بهمنغواي، وبهوس، لا يقل عنه ..بباريس! وبالطبع انتقل ذلك quot;البلاءquot; lt;اللذيذgt; كله اليّ. كان فحوى الكتاب حياة ارنست الشاب في باريس بالعشرينات مع زوجته الاولىquot; اليزابيث هادليquot;. وثمة اشارات كثيرة في ذلك الكتاب quot;التوثيقيquot;، عن حدائق اللكسمبورغ، وكيف كان همنغواي، يتصيد الفرص، quot;لقنصquot; حمام الحديقة، ليطعم به زوجته وابنه الوليد حديثا. كان يقوم بفعلته تلك، عند سانحة، ظل يحفظ توقيتها، وتصادف quot;إختفاءquot; الشرطي الموكل له بمراعاة النظام، مرتاداً مقهى مجاور لاحتساء قدح من النبيذ! كان همنغواي يفعل ذلك، لانه، وكما كتب، لا يملك كثير مال، وعاش في تلك الفترة جائعا وفقيراً. كان يتحدث عن quot;الجوعquot; بمفهوم آخر، ويشير اليه، احياناً، بكونه حافزاً للعبقرية والابداع! وكانت تلك الكلمات، تنزل quot;ماءاً بارداًquot; على قلبي، انا الذي، عانيت كثيرا quot;منهquot; (من الجوع!)، واجداً فيها، تبريرا وتسويغاً لوضعي، كطالب معوز وجائع دائما! ولهذا فقد كانت بهجة لا تضاهي، وأنا اتنقل في اللكسمبورغ، مابين تلك الامكنة، التى ذكرها الكاتب الاثير لدي، في كتابه الممتع. اما الباعث الثالث لزيارتي للكسمبورغ، فساتحدث عنها لاحقا، عندما يأتي الحديث عن عمارة quot;مسجد باريسquot; القريب من الحدائق نسبياً.
في باريس، ثمة شارع لمعمار آخر، اسمه شارع quot;اوغست بيريهquot;. انه في الدائرة الثالثة عشر. سوف لا نذهب اليه، لكننا بالتأكيد سنزور احدى اهم quot;روائعquot; هذا المعمار المجّد، هي التى اعتبر تصميمها وتنفيذها، حدثا مؤثراً في مسار عمارة الحداثة، بحيث باتت واقعتها تذكر كمادة اساسية، واجبة الحضور في منظومة التعليم المعماري لدى غالبية المدارس المعمارية العالمية. نحن نتحدث، بالطبع، عن مبنى quot;شقق شارع فرنكلينquot;، الذي يصادف هذا العام، مرور 110 سنة على تصميمه (1903). لكني، قبل ان احدثكم عنه، أود ان اتكلم عن quot;بيريهquot;، او بالاحرى عن quot;الاخوةquot; بيريه. وهم مجموعة من المعماريين، ابناء عامل حجر، اشتغل لاحقا كمقاول بناء هام. واوغست بيريه، الابن الاكبر لهذه العائلة، سيضحى اهم معماري فرنسا، وربما العالم، هو المولود في مدينة quot;أكسلquot; في بلجيكا سنة 1874، درس العمارة في البوزار بباريس، لكنه لم يكمل تعليمه فيه، مفضلاً الالتحاق بمكتب والده. لكنه سيعود، في فترة قادمة، الى المدرسة الباريسية الشهيرة كاحد اساتذتها المهمين في قسم العمارة. صمم عدة مبان هامة في فرنسا، بضمنها مسرح quot;الشانزاليزيهquot; (1913)، وكنيسة نوتردام في quot;لو رينسي، (1923)، وطبعا quot;دارة الفنان جورج براكquot; الباريسية (1927). كما عمل في الكثير من البلدان العربية، خصوصا في مصر والجزائر والمغرب، وصمم عدة ابنية مختلفة الوظائف هناك. فصمم مخازن وارصف ميناء الدار البيضاء بالمغرب (1915)، وفندق quot;قصر أغيونquot; بالاسكندرية بمصر (1927، تعرض الى محاولة هدم في سنة 2009)، ودارة quot;الياس عواد بكquot; في القاهرة (1926-28). صمم quot;برج بيريهquot; (1942- 1951) في مدينة quot;اميانquot; Amiens، في الشمال الفرنسي. وهو عبارة عن ناطحة سحاب بارتفاع 27 طابقا، وبعلو quot;قياسيquot; وقتذاك قدر بـ 104م، وكان لفترة طويلة يعد اعلي مبنى في غرب اوربا كلها! كانت غالبية تلك المباني، ان لم تكن جميعها، مشغوله بمادة الخرسانة المسلحة، المادة الانشائية الجديدة، المفضلة لديه، هو الذي اسس مع شقيقيه المعماريين: quot;غوستافquot; وquot;كلودquot; مكتبا استشاريا سنة 1905، مركزا فيه على هذه المادة الجديدة، وتبيان مزاياها المعمارية والانشائية. وقدعمل quot;لو كوبوزيهquot; في ذلك المكتب عدة اشهر مابين عامي 1908 و 1909. ومعلوم ان المعمار الحداثي العالمي، هو الآخر انجز معظم تصاميمه، موظفا مادة الخرسانة المسلحة فيها، معترفا باحدى كتاباته بانه تعلم، في المكتب اياه، معنى quot;الخرسانة quot; معمارياً. اشتغل بيريه لسنوات طويلة على تخطيط واعادة بناء quot;لو هافرquot; المرفأ الفرنسي في النورماندي (شمال غرب فرنسا)، الذي دمر اثناء الحرب العالمية الثانية. حظى بيريه على شهرة كبيرة في الاوساط الثقافية والاجتماعية الفرنسية والاوربية، ودائما كان يعده النقاد بمنزلة لو كربوزيه. توفي سنة 1954. لكن سرعان ما طواه ...النسيان. وعندما نشر احد المختصين كتابا عنه وعن نتاجه المعماري سنة 1985، تذكرت فرنسا ابنها البار، وأُعيد quot;اكتشافquot; بيريه مرة آخرى. وقيمّ مجددا نتاجه التصميمي عاليا، ونشرت عدة كتب عنه وعن أعماله، كما نُظم معرض استعادي، بعنوان quot; بيريه: شاعرية الخرسانه المسلحةquot;، جاب معظم مدن البلاد، مذكرا باهمية هذا المعمار المبدع. وقد اطلقت بلدية باريس، سنة 1971، اسمه على احد شوارع المدينة. كما ادخلت quot;اليونسكوquot; سنة 2005، اعماله في quot;هافرquot;، ضمن لائحة التراث العالمي الواجبة الحفاظ. واوغست بيريه، هو ايضاً، quot;استاذquot; وملهم احد المعماريين العرب المهميين والشخصية الاجتماعية المتنورة: quot;إنطوان تابتquot; (1905-1963)، اثناء دراسته العمارة في البوزار بالثلاثينات، ومعروف ان انطوان ثابت مصمم فندق أوريان بالاس (قصر الشرق)، الشهير في العاصمة السورية، في اواخر الثلاثينات، عمارته التى يمكن بها ملاحظة تأثيرات اطروحة quot;بيريه الخرسانيةquot; كما يمكن رؤية تلك التأثيرات، أيضاً، عند فندق آخر، صممه تابت في بيروت، وهو فندق quot; السان جورجquot;، وكذلك في احد اعمال المعمار الاخيرة، وهو مبنى وزارة العدلية ببيروت.
احس بابتهاج كبير، وأنا الاقي في زيارتي الاخيرة لباريس quot;مبنى شارع فرنكلينquot;. أقف امامه، هو الذي وصلنا اليه، انا ومن يرافقاني، بعد جهد كبير، وقطع مسافات غير قليلة. كان المبنى معروفاً لديّ من زيارتي السابقة الباريسية، كما انه هيئته مألوفة ايضاً، جراء مطالعاتي الكثيرة عنه، وتدريس طلبتي لعمارته سنوات عديدة. ها هو، إذاً، أمامي، مختلف عن سياق البيئة المبنية المحيطة، وفخوراً بما يملك من واجهة معبرة، تميزه عن مجاوراته. اراه، بالاضافة الى ذلك، quot;ينشرquot; حداثته، التى quot;اشمهاquot; عابقة في المكان! عندما دلفنا سريعا، عبر المدخل الى فضاء الطابق الارضي، المخصص لعرض تجاري، راودتني شكوكا، ماذا لو ان المبنى العتيد، الذي بذلنا الكثير لمشاهدته، ليس هو المقصود: ليس هو مبنى بيريه، وإنما مبنى آخر. قد تكون عمارته متأثرة باسلوب المصمم المعروف. لكن السيدة الفرنسية الجالسة وراء منضدة العمل، بددت سريعا تلك الشكوك، مؤكدة، بعد سؤالنا عن اسم المبنى ومعماره، بانه ذاته: مبنى quot;اوغست بيريهquot;، واشارت الى كتب ونشرات خاصة بعمارة المبنى وتاريخه موجودة على احد الرفوف. الآن، يمكنني إستحضار قراءات مسبقة عديدة، وانا أتأمل عمارته، العمارة التى عدت من قبل كثر quot;بشيراًquot; للحداثة، ونموذجاً سابقاً لها؛ هي التى وجد فيها ناقد العمارة الحداثة العالمي quot;سيغفريد غيديونquot; S. Giedionquot; lt;المثال الاول للمخطط المرن أو quot;الحرquot;gt;. وهي ملاحظة، اراها جد هامة ، اذا اخذنا في نظر الاعتبار بان لو كوربوزيه، سيجعل، لاحقا، من مفردة quot;المخطط الحرquot;، احدى اشتراطات التعريف بعمارة الحداثة.
في مبنى quot;فرنكلينquot;، يسعى quot;بيريهquot; وراء ايجاد حل كفء لمعضلة معمارية كبرى، اشرت اليها في كتابي lt;مائة عام من عمارة الحداثة، دمشق 2009gt;، وهي quot;.. ترابط التركيب الإنشائي مع lt;الفورمgt; المعماري، تلك المعضلة التى تصدت لها المدرسة الفرنسية بنجاح. وجعلت من تقصياتها المتنوعة مساراً مؤثراً في طروحاتها التصميمية. ولهذا فان نشاط (اوغست بيريه)، يمكن إعتباره جزءً من فعالية تصميمية كانت قد افصحت عنها بجلاء كتابات quot;فيوليه لو ديوكquot; من ان..التقنية الإنشائية المتجلية شاعرياً، يمكن ان تتحول بسهولة الى ..عمارة!quot;. ويُعد مفهوم هذا التعبير والمختزل في آن، مفتاحاً لادراك عمارة بيريه وتقصياته المهنيةquot;. ومرة أخرى، يتعين التذكير، بان إسلوب وكيفية استخدام الخرسانة المسلحة، في مبنى فرنكلين، هما جزء من نشاط مهني واسع، تمثل في مقاربة معمارية ساطعة، بزغت، و..quot;غربتquot;، سريعا عن المشهد، مثيرة، في حينها كثيراً من الضجيج، ومنتجة بالمناسبة، نماذج تصميمية مبهرة ولافته و..جديدة، هي التى دعيت بتيار quot;الار نوفوquot;، والذي كان بيريه احد انصاره، بل وعدّ من مؤسيسيه الاوائل. ثمة منظومة فضائية موحدة، يتسم بها مخطط شقق quot;مبنى فرنكلينquot;. وهذه المنظومة أبانت عن نفسها، من خلال توزيع احياز الشقة الواحدة. فغرفة النوم الرئيسية، وفضاء المعيشة، والحيز المخصص للطعام؛ كلها فضاءات مترابطة ومفتوحة الواحدة على الآخرى، يمكن quot;عزلهاquot; بواسطة قواطع متحركة. وبهذا يغدو quot;الصالونquot; المفردة الفضائية الاثيرة لدى الفرنسيين، ليس فقط فضاءاً مطلاً على الخارج، وإنما هو، أيضاً، جزءً من quot;الداخلquot; المرئي ومنظومته الفضائية المنسابة. وما نراه في الخارج، هو انعكاس لما هو متحقق داخلياً. ثمة غرفتان جانبيتان بارزتان عن سطح واجهة المبنى quot;المقعرةquot;، مخصصتان احداهما لغرفة التدخين بجانب حيز الطعام، والآخرى مخصصة للملابس، وهي تتمة لفضاء النوم. وهناك شرفتان، تحيطان بالصالون، يضيفان مساحة تكميلية الى فضاءات الشقق، يستثمرهما المعمار في إثراء معالجة مفردات واجهة المبنى. ومع معرفة بيريه المهنية والعميقة، بخصائص الخرسانة، (وربما بسبب ذلك)، فقد طلب من صديقه الفنان quot;الكسندر جيكوquot;، ان ينجز قطعاً خزفية، يمكن بها إكساء سطوح الواجهة، ليس بدافع التزيين (والتى باتت، رغم ذلك، احدى مواضيع المبنى الزخرفية)، وإنما احترازاً منه لاحتمال تأثيرات البيئة السلبية على مادته الانشائية المفضلة.
وتظل بالطبع، زيارة مبنى quot;شقق فرنكلينquot; وبهجة التعرف عليه، من الاحداث الممتعة، التى يمكن بها التعرف على لحظة نادرة ومهمة، من اللحظات quot;التاريخيةquot;، التى قلبت مسار العمارة رأسا على عقب. فهي، من دون شك، quot;لحظةquot; ارهاصات التغيير، المبشرة بمرحلة معمارية آخرى، ستقود العمارة العالمية برمتها، لاحقاً، نحو آفاق إبداعية غير مسبوقة، هي آفاق quot;العمارة الجديدةquot; New Architecture، نماذجها التصميمية الرائعة، سنشاهدها في الفضاء الباريسي الغني والمتنوع. لكن ذلك، ... حكاية آخرى، سنعاود الكتابة عنها في quot;اجزاءquot; قادمة من هذه quot;الانطباعاتquot;.
د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون