بغداد: اكد الكاتب العراقي محمد غازي الاخرس ان كتابه (خردة فروش) في أغلب فصوله انتقاد مر لثقافات العوالم السفلية للمجتمع العراقي وحفر فيها من قبيل تتبعه لمضمراتها ومخفيات أنساقها، موضحا انه حاول قدر الامكان ان يكون واقعيا في وصف العراق الذي عاشه.
صدر للشاعر والكاتب العراقي محمد غازي الاخرس كتابه الجديد الذي يحمل عنوان quot;دفاتر خردة فرّوشquot; يتبعه بعنوان توضيحي (العوالم السفلية للمجتمع العراقي) عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت، يقع الكتاب في 224 صفحة من القطع المتوسط
يضمّ الكتاب بين دفتيه ستة فصول، كلّ فصل عبارة عن (دفتر) تناول فيه الكاتب محورا معينا، وهي: (دفتر العشيرة: من متن المدينة الى هامشها)، (دفتر الديون: الفقراء يبسطون تحت الشمس)، (دفتر الخوف: حكايات من جاون القتلى )، (دفتر طشارة: عن حسرات النسوة واشعارهن)، (دفتر الخرافة: رحلة في متخيل الناس)، ودفتر سلمان المنكوب: الحكاية تعزف وتغني، فضلا عن مقدمة للكاتب حملت عنوان (دفاتر عتيقة)، فيما كانت على الغلاف الاخير كلمة للناشر جاء فيها: (بعد كتاب (المكَاريد) يعود محمد الأخرس للتقليب في عوالم أبناء الطبقات الشعبية وثقافتهم، يعود هذه المرة ليقلب في (دفاترهم العتيكَة) وكل ما تم إهماله أو تهميشه من ذاكرتهم الاجتماعية ومن تراثهم في العادات والتقاليد والفولكلور، ليقدّم لنا سياحة أنثروبولوجية في صور حياة فئات من المجتمع العراقي قلّما نعثر على ما يماثلها).
واضاف:(دفاتر خردة فرّوش) جهدٌ توثيقيّ خاص، وخطوة جريئة لمواجهة الذات الاجتماعية العراقية بكل شوائبها ومفارقات ذاكرتها الغنية بالحكايات والمواقف المثيرة، وإذا كان محمّد غازي الأخرس يقدم هذه الحكايات والمواقف بروح السخرية السوداء، فإنه يحمل في كل حكاياته وجعه مما آل إليه العراق).
والكتاب.. قراءة في ما تحفظه ذاكرة الكاتب، اراد ان يخرج ما في نفسه من احزان متراكمة صارت تمثل هما ثقيلا، تشعر الكاتب في اغلبها يريد ان يبكي، وان يصرخ بعلو صوته احتجاجا على ما اصبح عليه هؤلاء الناس من واقع مرير، يريد ان يشرح ما يعانيه هؤلاء الذين لا يستحقون ما هم عليه، فهو يذهب اليهم ويتطلع بعيون فاحصة ملآى بالحزن والاسف لكنه يكتمه،يكتب كل شيء بعفوية، اي شيء ينبجس من الذاكرة يدونه بحكاياته المليئة بالصور، كأنك ترى (البوما) من الصور تتهادى امام ناظريك، او احيانا تشاهد (تمثيلية) هؤلاء المساكين ابطالها الذي يسخرون من احوالهم، ولان الاخرس يتحدث بعفويته ويجوب في عوالم تمتلك شعبيتها فأن اللهجة العامية تبرز بكلماتها حسب ما توفره له الوقائع التي ان كتبها فصيحة ستفقد حيويتها ومعانيها، انه يحكي حكاياته الخاصة فيضرب بها مثلا ويستند عليها للتعبير عن طيبة او سذاجة او حزن،ناك سخرية سوداء تدعو الى الضحك (شر البلية ما يضحك).
واذ يمضي الكاتب في سرد حكاياته عن عوالم الناس السفلية، يوقفنا ازاء (دفتر الخوف) الذي يغرقه بالدم والارهاب، فيجعل القاريء يرتجف خوفا ورعبا، كل صفحات الفصل هذا تتفجر دما وألوانا من الفزع، ولا اعتقد ان احدا يمكنه ان يكمل قراءة الفصل، فالشعور والاحساس يتلاشيان تماما، وتنطفيء النظرات.

حوار مع الكاتب
ومن اجل تسليط الضوء بشكل اكبر على ما جاء في الكتاب ابتداء من عنوانه ومرورا بالتفاصيل التي حملها، ارتأينا ان نلتقي الكاتب محمد غازي الاخرس ونضع امامه بعض الاسئلة.
* لماذا هذا العنوان الغريب؟ (خردة فروش) ومن اين اتيت به؟
- مصطلح quot;خردة فروشquot; مصطلح بغدادي معروف يعني المهملات التي في المنزل والأشياء القديمة المتروكة وغير المستعملة. وعادة ما توضع هذه quot;الزعابيلquot; في سطح الدار أو في زوايا معينة في المنزل كأن تكون في ما يسمونهquot;التركquot;. والمصطلح معروف كما قلت لك ويتداوله البغداديون ويعنون به هذه الأشياء التي تخصص بعض الباعة الجوالين في شرائها أو مقايضتها بحاجات معينة ويسمى البائع quot;بائع الخردة فروشquot;. أما quot;الخردةquot; هذه فهي التي يسميها العرب quot;الفكةquot; كالفلسان وquot;الفروشquot; مفردة فارسية تعني: بيع. فيكون المصطلح هو بيع الأشياء المهملة، اختياري للعنوان انطلق من هذه الفكرة فالكتاب عبارة عن ستة دفاتر ذات موضوعات اجتماعية إشكالية كصراع العشائرية والحضرية في مدينة بغداد وقصص الفقر والمهن المتواضعة التي عمل بها الفقراء والخرافات الشعبية وكنايات الناس فضلا عن دفتر الخوف الذي دار حول القتل الطائفي في العراق وquot;دفتر طشارةquot; الذي حاول تتبع أحزان النساء وquot;دفتر سلمان المنكوبquot; الذي دار حول الطبيعة الاجتماعية للأغنية العراقية وكونها وثيقة لحكايات مريرة، في الكتاب تعاملت مع هذه الملفات بوصفها تمثل دفاتر عتيقة ومنسية وهي تشبه المهلات التي نحتفظ بها في بيوتنا.

* لماذا لم تختر عنوانا باللغة الفصحى؟
-أعتقد أن عناوين الكتب يجب أن تعكس موضوعاتها دائما ولهذا اخترت عنوانا من ذاكرتنا الشعبية شبه المنسية لجهة أن الكتاب يدور بهذا الإطار. ومن المهم الإشارة إلى أن طريقة الكتابة تماثل هذه الرؤية أيضا فثمة، في الكتاب، كثيرٌ من المفردات والعبارات العامية العراقية ما اضطرني لوضع هوامش لها كي يتسنى لغير العارفين بالمعجم العامي العراقي معرفة دلالاتها. هناك عشرات الكنايات والأمثال والأشعار الشعبية التي تطلبت شرحا في الهوامش خصوصا أن الكتاب طبع بدار نشر عربية هي quot;التنويرquot; ويوزع على نطاق واسع في البلدان العربية. شخصيا، تلقيت كثيرا من الملاحظات حول هذه الهوامش أرسلها بعض الأصدقاء وفيها تمنوا لو إن الهوامش كانت أوسع مما بدت عليه. أصحاب تلك الملاحظات ربما وجدوا صعوبة في فهم دلالات بعض المفردات العامية العراقية. وقد أجبتهم أن السياق ربما يسهل عملية التواصل.

* وما مصادرك؟ كيف استطعت ان تلم بكل هذه المعلومات؟
-الحقيقة أن الكتاب يدور حول ملفات لا تحتاج لمصادر فمادتي هي الذاكرة في أغلب الأحيان وفي بعضها استعنت بمصادر تراثية عراقية، إما لتوسيع تلك المعلومات أو للتأكد منها. كل ما هناك هو الذاكرة الشخصية، فالقصص أسمعها من الناس القريبين مني والكنايات هي تلك التي أستخدمها أنا وأنت وأمي وأمك وصديقك وصديقي. أما حكايات الغناء التي تطرقت لها فأنا، منذ مراهقتي، مهووس بهذا الجانب ولدي حوله فضول كبير بحيث توفر لدي كم من المعلومات أمكنني استخدامه في هذا الكتاب وفي الذي سبقه، أعنيquot; كتاب المكاريدquot; الذي يعد هذا الكتاب جزءا ثانيا منه.

* لماذا اقتصرت في الاغلب على الأحداث التي عاصرتها والحكايات التي عشتها ولم تذهب بعيدا؟
هذا سؤال جيد جدا، نعم، هذا ما جرى لسببين مهمين هما: أولا لأن الفترات السابقة أو العهود الماضية أشبعت كتابة من قبل كبار الباحثين في الفولكلور الشعبي والتراث ومن العبث برأيي إضافة أي جديد فيها. وثانيا: لأنني لست متخصصا بهذا الجانب إنما لدي هوس شخصي به، ولعلي أردت بهذه السياحة استكشاف ذاتي أولا ومعرفة مواقفها ورؤاها من العالم الذي تعيش فيه، وفي المحصلة النهائية، تبين أن الأمر لا يخصني شخصيا بل يخص جيلا كاملا وفترة زمنية معينة هي التي عشتها وتفاعلت معها.

*لماذ جعلت من الفصل الثالث (دفتر الخوف) مغرقا في العنف والموت الى حد الصدمة؟
ـ نعم، هذه الملاحظة تبادرت لأذهان الكثيرين حتى أن الناشر نفسه نبهني عليها. كل من قرأ الكتاب قد يصاب بالكآبة وهو يقرأ هذا الفصل ففيه قسوة في وصف القتلى وحفر في الانفعالات المرافقة لرؤيتهم. فيه صراخ وألم وتشاؤم في بعض الفقرات وسوداوية تنبض من بين الكلمات. أنا نفسي حين قرأت الفصل مطبوعا حزنت جدا وانتبابني خوف شديد من مآل العراق. لا أدري يا صديقي لكنني كنت أكتب أحيانا وأنا قادم للتو من تفجير صادفته في الطريق وأحيانا أكتب فقرة وأنا على مقعد الدرس في الكلية بعد سماع تفاصيل كارثة حلت بعائلة زميلة لي. كنت قاسيا على نفسي أكثر مما كنت كذلك على القراء، بل يخيل لي أنني، في بعض الفقرات، كنت شديدا على ذوي الضحايا من خلال وصف الأخيرين. ملاحظتك في محلها وأنا كنت بالفعل مغرقا في العنف والموت حد الصدمة. هذا هو العراق الذي عشته وقد حاولت قدر الإمكان أن أكون واقعيا في وصفه.

* لماذا تعمدت المزاوجة بين العامية والفصحى؟
-هذا سؤال طالما سألت عنه وكنت أقول دائما، حتى في الكتاب نفسه، أن العامية ظلمت في الثقافة العربية كثيرا وهمشت ولم تأخذ حقها في الأدب. حتى الستينيات من القرن الماضي كان يعاب على الروائي أن يكتب حواراته بالعامية. الشعر الشعبي ظلم أيضا وللآن لا توجد كتب نقدية متخصصة حوله إلا اللهم محاولات يتيمة في مصر وربما لبنان. من جهتي، بدأت الأمر منذ سنوات مترسما خطا بعض الكتاب العراقيين والعرب فكتبت مقالات كثيرة ترد فيها عبارات عامية بعضها مغرق في المحلية. لقد صدم الأمر بعض القرّاء والمثقفين الذين يتعاملون مع العامية عادة وكأنها لوثة تحيل لثقافة quot;وضيعةquot;، لكن الكثيرين شجّعوني خصوصا من خارج النخبة، وهو ما دفعني لإخراج quot;كتاب المكاريدquot; ومن ثم quot;دفاترخردة فروشquot; كمحاولة لترسيخ هذه المزاوجة التي أراهن عليها.

* من يقرأ الكتاب سيجد انك في مهمة دفاع عن هذه العوالم السفلية بشكل مطلق لماذا؟
- كلا، ليس بشكل مطلق يا صديقي، ثمة في أغلب الفصول انتقاد مر لثقافات هذه العوالم السفلية وحفر فيها من قبيل تتبعي لمضمراتها ومخفيات أنساقها كما في فصل quot;دفتر الخرافةquot; الذي خصصته لنقد بعض آليات تفكيرنا. كذلك ثمة نقد جذري لبعض مظاهر العشائرية في المجتمع العراقي. أظن أن انطباعك متأتٍ من بعض الفقرات ذات الشحنة العاطفية التي قرأتها خصوصا في دفاترquot; المهنquot; وquot;طشارةquot; وquot;سلمان منكوبquot;، وهنا عليّ أن أعترف بعدم حياديتي في هذه الملفات فأحزان الناس في العوالم السفلية وضيمهم وأحلامهم تخصني شخصيا فأنا واحد منهم وكثير من آلامهم جربته شخصيا وقد حاولت وصفه في تلك الفصول.

* لماذا ليس في الكتاب إهداء لاحد؟
لقد فكرت بذلك فعلا لكنني تراجعت عنه في الأخير وعوضت ذلك في نهاية المقدمة من خلال تقديم الشكر لبعض المقربين مني ومنهم زوجتي وصديقيَّ حسن ناظم وأحمد سعداوي وكل من شجعني على إنجازه. أظن أن إهداء الكتاب يضيق من آفاقه أحيانا خصوصا أنه موجه لشريحة عريضة في المجتمع هم الناس الفقراء والمكاريد الذين أتمنى أن يطلعوا عليه.

* كيف اتتك فكرة الكتاب وما الذي شجعك عليها؟
-ليس هذا الكتاب فقط فقبله أصدرت quot;كتاب المكاريدquot; في محاولة للبدء بمشروع طويل الأمد لتوثيق ما يخص هذه الشريحة المظلومة، أقصد الفقراء، ويتعلق الأمر بكناياتهم ومأثوراتهم وحكاياتهم وأمثالهم ولغتهم. هذا الكتاب هو جزء ثان من المشروع وسيتلوه جزء ثالث ورابع أن شاء الله..