مِـهْرَجانُ الْـكِـتابِ
قال لي صاحبي الأَديبُ الإسْبانيُّ (أنطونيوغرانادوس) ونحن قابِعانِ في زاوية مقهى شهير من مقاهي مدريدَ الكثيرة: "هل تقيمون أنتم العربَ مِهْرَجانا سنويّا للكتاب كما نفعل نحن الإسْبانَ؟". فأجبْتُه بعد تَلَكُّؤٍ بأَنْ لا. فقال: "أَحسنتم صُنْعا". قلت
وَكَيْفَ!؟. قال: "حَتّى لا تَبْتَلَّ الكتب بالمطر". ثمّ أضاف موضِّحا:
"إنّنا نقيم كلَّ عام مِهْرَجانا للكتاب خلالَ شهر أَيّارَ/مايو؛ وأثناءَ المِهْرَجانِ تَهْطُلُ الأَمطارُ في غَزارة شديدة على نحو دائم فتبتلّ الكتب وتكسد البضاعة وتفسد التجارة حتّى أَنَّ الكتاب عندنا أَصبح رمزا للحظِّ التعيس جِدّاً وحتّى أَنَّ الناسَ أخذوا يتشاءَمون من هذا المِهْرَجان ويردّدون مثلا أصبح شائعا في اللغة الإسبانيّة، وهو: "إنّ حَظّي مثل حَظِّ الكتاب"؛ ولذلك خَطَرَت على بال القائِمين بهذا المِهرَجانِ فِكْرةٌ جديدة، وهي أَنْ يُقامَ قَبْلَ حلول المَوْعِد المُقَرَّر المُكَرَّر وفي مكان آخر، هو مقابل هذه المقهى التي تحتويننا الآنَ، مَعْرِضٌ ثانٍ للكتاب القديم الذي هو عادةً أقلُّ ثمنا من الكتاب الجديد علَّ السماءَ ترحم فتمنع سحبها أن تذرف دموعها وتسكب مياهها".&
وأَمْسِ سطعت الشمس بعد عدّة أَيّام من احتجابها وراء السحب القاتمة الباكية عل حظّ الكتاب المبتلّ، فأسرعْتُ نحو الحدائق الجميلة حيث يقام مِهْرجانُ الكتاب كي أَتَفَـرَّجَ أو أشتَرِيَ ما تسمح به الكنزيّة - كلمة عربيّة الأَصْل مستعملة باللغة الإسبانيّة وبخاصّة في بلدان أمريكا اللاتينيّة بمعنى المطمورة- أو الجعبة من شراء بعض الكتب الجديدة القيّمة بالمعنَيَيْنِ المعنويّ والمادّيّ، قبلَ أن تعود عيون السماء للبكاء، وما أَنْ وصلْتُ إلى أَوَّلِ مَوِضِع خشبيّ مُقام للبَيْع من الدكاكين المصطّفّة على صفَّيْنِ طويلَيْنِ وبَيْنَهما مَمَـرٌّ أحتشد الناس فيه ينظرون أو يشترون أو ينتظرون أديبا معروفا حتّى يُوَقِّـعَ لهم على النسخ التي يبتاعونها حتّى فاضت أنهار وأنهار لتصبَّ على رؤوس الناس وعلى صدور الكتب فاحتجب الناس احتجاب الشمس واختفت الكتب اختفاء بائعيها نادبِةً حَظَّها التعيسَ؛ وفيما أنا أبحث عن موضع اختبىُْ فيه وإذ بصاحبي(أنطونيو) يعدو مُهَرْوِلا تحت المطر وتحتَ إبْطِه مجموعة من الكتب وبين أقدامه بعضُها الآخرُ وقد سقطت منه فأخذ يركُلُها بقدمه علّه يجد الفرصة المناسبة السانحة كي يلتقط منها ما يستطيع فيضعها تحت إبطه الآخر؛ فهمَمْتُ بمساعدته فرآني فأخذ يصيح بِأَعْلى صوته: "أحْسنتم صُنْعا، أَيّها العرب!، إذ لا تقيمون مِهْرَجانا للكتاب". إذّاكَ تَمَلَّكني شيءٌ من الحزن، فوقفت حائرا، ثمّ صرخت أنا كذلك بأَعلى صوتي، ولكن باللغة العربيّة: ليتنا، نحن العربَ، نقيم مِهْرَجانا للكتاب الجديد أو مَعرِضا للكتاب القديم وَلْتَحرِقْ أوراقه شموس صحارينا بقيظها.


&&& ألـتـرجـمـة خـيـانـة
أجَلْ، إنّ الترجمة لَخيانة، وهـذه العبارة هي ترجمة عن اللغة الإيطاليّة، وإنّ فيها من الخيانة لَكثيراً إذ أنّ العبارة في النصّ الأصليّ ذات سَجْع، وثمّة جناس بيّنٌ بينَ كلمة ترجمة وكلمة خيانة، فكيف يتسنّى لي أن أنقل ذلك كلّه من لغة لاتينيّة إلى لغتنا العربيّة دون أن أخون إحداهما بميلي نحو الأخرى؟
صدّقوني بأنّي أفضّل ألف مرّة أن أبحث، على سبيل المثال، في الحضارة العربيّة بالأندلس أو أبدع شعراُ أو أكتب مقالة على أن أترجم من لغة إلى أخرى، بيد أنّه"مكره أخاك، لا بطل"، كما يقول المثل العربيّ. ما العمل؟ كما يقول لينين في كتابه الشهير بهـذا العنوان؟
ألإسبان يدعونني: ألقنطرة ، ولحسن الحظّ هنا لا أخون، فكلمة القنطرة العربيّة هي نفسها في اللغة الإسبانيّة، ولـكنّ أصدقاءنا الإسبان يظنّون في معظم الأحيان أنّها إسم عَلَمٍ فيقولون، عادةً: ألجسر- ألقنطرة ، ومثله كثير في اللغة الإسبانيّة، مثلاً: ألنهر- ألوادي (من العربيّة)؛ ألجبل (من العربيّة) - ألمرتفع؛ ألحصن-ألقلعة (من العربيّة)؛ إلخ. أقول إنّ الإسبان يدعونني: ألقنطرة، لأنّني جسر بين الثقافة العربيّة والثقافة الإسبانيّة، أترجم منهما وإليهما، أي أنّني مرّةً أخون هـذه ومرّةً أخرى أخون تلك، وثالثة الأثافيّ أنّني في معظم الأحيان أضع النصّ الأصليّ إزاء نصّ ترجمتي، لكي تتبدّى الخيانة وتظهر المفارقة أثناء مقارنة النصّين معاً، حتّى أدان وأرجم...
وبعدُ، ما الّذي حضّني وحرّضني على اقتراف هذه الخيانة-الترجمة أو الترجمة- الخيانة؟
يقول شكسبير في إحدى مسرحيّاته، وأظنّ أنّها مسرحيّة هَمْلِتْ ـ وهنا أترجم من الذاكرة، فالخيانة مضاعفة ـ: "إنّ من يخوض بحيرة الدم إلى نصفها يجد المسافة نفسها فيما إذا خاض نصفها الآخر". وكنت قد خضت أكثر من نصف البحيرة- الكلمة العربيّة موجودة في اللغة البَلَنْسيّة، وهذه لغة شقيقة للغة القَشْتاليّة التي تدعى عادة بالإسبانيّة، وكلتاهما مشتقّّة من اللغة الأمّ التي هي اللاتينيّة ـ بجرائمي العديدة السابقة، ولم أقتصر على لغتي المعشوقة:ألإسبانيّة، وأتطاول على أدبائها فحسبُ، بل فعلت فِعلتي كذلك مع لغتي الأمّ : ألعربيّة، وأدبائها بترجمتي منها إلى اللغة الإسبانيّة. فأنّى لي أن أدخل الجنّة!
وكان العرب يضعون ثلاثة شروط لا بدّ من أن تتوفّر معاً في كلّ مترجم فذّ، وهي: أن يعرف جيّداً اللغة التي يترجم منها وأن يتقن اللغة التي يترجم إليها وأن يكون له إلمام بالمادّة التي يترجمها. ثمّ إنّ الجاحظ يقول، وهو يتحدّث عن كتاب الشعر لأرِسْطو، بأنّ الشعر عصيّ على الترجمة. فما العمل؟
إنّ المادّة الوحيدة التي لي بعض الإلمام بها هي الشعر؛ أمّا معرفتي باللغة الإسبانيّة فهي بينَ بينَ، إذ أنّي لم أدرس اللغة اللاتينيّة التي هي أصل الإسبانيّة؛ وأمّا أتقاني للّغة العربيّة فأنّي أشكّ في ذلك لاعتقادي أنّها بحر كبير خِضمّّ بَلْهَ محيط عميق واسع، ذو أعلام قليلة كالأعلام (ألجبال) سمت في علاه وكالسفن مخرت في خضمّه ، منهم الرسول- صلعم.ـ والجاحظ والمتنبّيّ والمعرّيّ وابن الخطيب، والله أعلم.
ولذا فإنّني أستحقّ على كلّ خطأ ارتكبته أن أرجم بحجر، ولم تخطىء إحدى طالباتي الإسبانيّات حين سألتها عن مصدر كلمة ترجمة، فقالت: رَجَمَ. "ومن كان منكم بلا خطيئة ـ أو خطأـ فليرجمها بحجر"- كما قال السيّد المسيح ـ عليه السلام- وليرجمني بحجر...

*أستاذ كرسيّ رفيع للدراسات العربيّة والإسلاميّة في جامعة مدريد المركزيّة "كومْبلوتنْسِهْ".
&