&

أغلبُ الظنّ كنا نتمشّى على الكورنيش، مكان مرميّ في صقع من الحلم، كان يتقدّمني دوماً، كما لو أنّه لا يُريدُ أن يُصاحبني. بيدَ أنّي صرتُ بجواره، تُرى لمَ لا يُريد مصاحبتي إياه؟ أنا لم اسيء اليه أبداً.اقتربتُ منه، وضعتُ يدي اليمنى على كتفه، رحّب بي ببرود. الرصيفُ مُكتظٌ بالناس، جاءوا للمتعة والاصطلاء بضوء الضحى. على ميمنتنا باعة الصحف والكتب المدرسية. توقفنا أمام بنت في العاشرة لكنّ منطقها صارم صادم، تعرفُ كيف تتعامل مع الشاري. انحنينا على الكتب، تصفحنا بعضها، وتذكرنا بدايتنا في المدرسة الابتدائية. فما زلنا نحفظ عديداً من الأشعار التي انطوت عليها. كان بودّي لو اقتني كتابين في الأقل، بيدَ أن الطفلة البائعة صارمة ومُغالية في السعر. واكتفينا بتصفحها ثمّ مضينا. قال من دون أن يلتفتَ نحوي: أمس ِ سقطت طائرةٌ صغيرة في النهر، وأشار الى يميننا... وسألتُ نفسي: الى أين ستحملنا خُطانا حين ينتهي رصيفُ الكورنيش؟ قال، وكأنّه سمع سؤالي: سأذهب الى بيتنا لأرى أمّي، فما التقينا منذُ ستة أشهر. وما كلمتها عبر الهاتف. أحسستُ أنّه يرومُ التخلص مني. لا أدري لمَ؟ ربّما بداعي الحسد، فقد نشرتُ في الصحف عشرات المقالات، واصدرتُ أربعة عشر كتاباً. فيما لم يصدر له كتابٌ واحد سوى بعض الكتابات العابرة. استغربتُ وضعي، لمَ ارغبُ في مصاحبته وهو الذي لا يُرحّبُ بوجودي معه؟ أشرف الرصيفُ على نهايته، ثمة يتشظى الى شوارع فرعية. تركته هناك وعدتُ ثانية أتمرأى ما فاتتني مُعاينته: ألواناً من الزهور، تحف زجاج قديمة، كتباً، احذية والبسة، بيد أني كنتُ أقف قليلاً أو طويلاً عند باعة الكتب. وان لم تخني ذاكرتي فقد اقتنيت كُتيبات عن بيكاسو ولوتريك وديماس وغوغان. فأنا كلفٌ من أيام طفولتي بالرسم والرسّامين، وغرفتي مُكتظة بكتب الفن.... اذن، كلّ حلم لا بدّ له من نهاية. وتمنيّتُ أن لا ينتهي هذا الشريطُ الجميل. صحوتُ، تركتُ كل معالم ذلك الكورنيش الباذخة. في الحمام أفرغت مثانتي، وفي المطبخ حسوتُ قدحاً من الماء. عدتُ الى فراشي وتدثّرتُ بدفئه، ثمّ تلقاني الحلم ثانية في ذلك الرصيف ذاته، بكلّ خلائقه من بشر وجماد وماء. وثمة غواصون يقومون بانتشال الطائرة المنكوبة وبعض ركابه النافقين. واكتظّ الرصيف بالناس يتمرأون المشهد الفاجع. وبصعوبة اخترقتُ طريقي وصرتُ وراء الزحام. واستهوتني مرّةً أخرى معروضات الرصيف بكل غرائبيتها التي يندر وجودُها في الأسواق. الكتبُ القديمة شغلي الشاغل. توقفتُ امام بائع، مسحني بنظرة ريبة. وربّما همس في ذاته: / هو فضولي وحسبُ/ وكلما ازمعتُ رفع كتاب اريد فراءة عنوانه واسم مؤلفه عن قرب مدّ يده وسحبه من يدي. فلم استطع كتم غيظي فصرختُ فيه: / لم تسحبُه من يدي؟ /.. أجاب بصفاقة: / لا يبدو عليك أنّك قارىء كتاب/ تبّاً لك، كيف عرفتَ؟ / من وضعك، من تقاسيم وجهك/ سألتُ مستاء: / وهل تقاسيم الوجه تنمُّ عن ثقافة المرء وقراءاته؟ أنت لا تستحقُ أن اشتري منك كتاباً/... وغادرته مستاءً. واستغربتُ أمري: لم لا التقي أحداً يودّني ويُصدّقني؟ .. كان الناسُ ممّن التقيتهم خلال الرصيف غرباء سادرون في مشيهم، يبحلقون أمامهم وحسبُ. لا حوار، ولا كلام، ولا بكاء أطفال. وقبل أن ينتهي طريقي عند الجسر و يرميني خارج حدوده توقفت امامي شابة باسقة القامة، ولأنّها سدّت عليّ الطريق فتوقفتُ: / أتعرفني، سألتْ؟ /لا، لم يسبق لي أن التقيتك / أوه، ما أحمقك؛؛ وما أعتم ذاكرتك؛؛أنا جوليت، صديقة طفولتك في المدرسة الشرقية / ضربت بكفي جبهتي:/ اللعنة على ذاكرتي، أنتِ أكثر ذكاء مني. فكيف يتعرّفُ المرءُ زملاء مدرسته الأولى بعد هذا الكم من السنوات؟ / فما نسيتُك، وتبدو لعيني كما عهدتُك. خبّرني الى أين أنت ذاهبٌ؟ / حرّكتُ يدي بعشوائية: /لا أدري، كنتُ ماشياً وحسبُ / هلمّ، اذن، نشربْ فنجان قهوة في هذا المقهى/ على ميمنتنا تطل واجهتُه، وفي مُكنتنا أن نرى من مكان جلوسنا معالم الضفة الأخرى من النهر: بيوتها،نخلها ،سماءها ،أبوابها ،نوافذها ،شناشيلها. كنتُ ابانئذ ذا نظر ثاقب بوسعي أن أرى حمامة على الجدران... سألتُ : / لم عدتِ من هناك؟/ بعد أنْ تغيّر الوضع عندكم جئتُ ازور مدينتي الأولى: مسقط رأسي، والبيت الذي ولدتُ فيه وآواني سنواتٍ/ أزرتِ بيتكم القديم؟/ نعم، هزّت رأسها، تغيّر كلُّ شيء/ أتريدون العودة / نرغب في ذلك، لكن ثمة حوائل تمنعنا، وهي كثيرة/ ماذا تعملين، أقصد أأكملتِ دراستك؟/ أنا الآن جرّاحة مختصة في أمراض القلب/ الهي ما اروعَكِ؛؛ كنتِ أذكى طالبات الصف/ وأنت كذلك، كنا نحسدك وأنت تُغادر قاعة الامتحان قبل الجميع/ تلك أيامٌ مضت، وتغيّرنا، والعوز المادي جعلنا ننتقل من مكان الى مكان ومن مدرسة الى سواها. ثمّ رسوتُ على دراسة الدين واللغة/ استغرقت جوليت اليهودية في الضحك: /لا يبدو عليك مُتديناً وأنت تحمل عدداً من البومات الرسّامين الكفّار/ استهواني الفنُ من أيام طفولتي، أنا لا أرسُم ـ لكني اقتني كتب الفن/... كان أبوها مُدير محطة القطار، فقد آرتني عن كثب الماكنة المرعبة الشكل، صعدنا معاً احدى العربات وانتقلنا الى عربات أخرى، وكلها متشابهة كأنّها توائم. ذي هي تعود من منفاها، كان لأهلها بيت جميل في محلة اليهود بمدينتنا، تنطوي باحته على شجرة توت ضخمة وتحتها الوانٌ من الجوري والرازقي، وباحته واسعة :/ كم أحنّ اليه، قالت، لكنّ الماضي لن يعود،... / ثمّ انطفأ المشهدُ، وغابت جوليت...&