&
محام ناجح يعيش في احدى مدن اميركا الصاخبة بالحياة والعمل يضطر ان يعود ادراجه الى منبته في مدينة انديانا حيث عاش طفولته مع اخوين له وام حنون واب هو القاضي الاول في هذه المدينة الا ان عودته لم تكن اختيارية وانما بسبب وفاة امه وماتتطلبه الاصول العامة في مناسبات من هذا النوع.
يظهر (هانك بالمر) المحامي الناجح الذي قام باداء دوره الممثل الامريكي(روبرت داوني) في مشهد الاستهلال وهو يتحدث مع محام مناوئ له في المرافق الصحية داخل المحكمة لنتبين من خلال الحوار الذي يجمع الاثنين ان بالمر معروف بدفاعاته المتكررة عن شخصيات غير نزيهة وتتسم بالاجرام ولم يمثل هذا عقبة امام قبوله بهذا النوع من القضايا مادام انه يمتلك المهارة والحذاقة في كسب القضايا قانونيا غير مكترث باي ملوث اعتباري بضمانة اقبال المجرمين المتزايد عليه وهذا مايديم شهرته وامواله في ذات الوقت، ومن هنا لا بد لنا ان نتلمس ابتداءا اختيار السيناريست (نك جينك) للحمام كمكان اول يظهر فيه البطل لما فيه من دلالات على الصفات الشخصية لهذا المحامي وهو المتنمر في طريقة تعامله مع الزملاء& ومن خلال بعض الحركات الصبيانية التي تؤكد استهتاره بالذوق العام، وفي مشاهد لاحقة نجده زوجا منهزم..تذكره زوجته باجراءات الطلاق لانها تعاني الوحدة بسبب انشغاله الدائم عنها وعن ابنته فيعود ليذكرها بان الاسباب مكشوفة لديه ولا داعي للخداع، فارتباطها بعشيق لها على صفحات الفيس بوك هو مايدعوها للطلاق وينطلق بسيارته مسرعا دون ان يبذل جهدا ولو بسيطا في مواجهة مشكلاته معها حفاظا على اسرته.
يعود الى انديانا مدينته الام لتشييع امه التي توفيت قبل يوم ويلتقي باخويه احدهما شاب في نهاية العشرينات من عمره مصاب باعاقة عقلية جعلته يحمل كاميرته في كل مكان يتجول فيه وهو يصور كل مايدور امامه بغض النظر عن هوية الاشياء التي يصورها، فهو التاريخ المتنقل لعائلة (بالمر) الذي لا ينطق الا بحقائق مصورة ليس له فيها اي دخل او توجيه..وقد جاء ذلك متماشيا مع تنامي كثير من الاحداث الدرامية التي كان لوجود الافلام المصورة دورا مهما في الكشف عن الحقائق العائلية بحلوها ومرها.
بيت بارد يلتقي فيه الاخوة الثلاث بانتظار ابيهم& الذي يتمم مرافعة له في المحكمة ليعود الى بيته حزينا لفقدان رفيقة عمره التي غادرته لتطفيء بذلك اخر مواقد الدفء في بيتهم الصامت الذي يمتلك كل الحب ولكن لا يجيد التحدث به، وهذه هي مشكلةالعصر... حب اخرس لا ينطق...
يستقبل الاب (جوزيف بالمر) والذي ادى دوره الممثل الامريكي (روبرت ديوفال) ضيوفه المعزين ويستقبل ابنه (هانك) يرسمية حادة بعد طول غياب....صرامة اب لا يمتلك غيرها كاخر واجهات العتب..تتعاقب الاحداث ليجد الاب نفسه وهو القاضي الرصين المشهور بعدالة حكمه وانصافه يجد نفسه ضحية جريمة قتل في ملابسات لا دخل له بها، ولم تتم عبر سابق اصرار أوترصد ولكنها حدثت..وجعلت منه قاتلا دون ان يدري كيف ولماذا، يحاول ابنه المحامي المحنك ايجاد كل المخارج كي يترافع عن ابيه ولكن الاب يرفض ذلك ويلجا الى محام ضعيف حرصا منه على النزاهة التي لا يمتلكها ابنه،وفي النهاية وبعد ان يتكشف للابن ان اباه بسبب تقدمه بالعمر بدا يفقد ذاكرته شيئا فشيئا وبتاثير العلاج الكيميائي الذي يواضب على تلقيه دون علم ابنائه بذلك.. وهذا ايضا من باب المحبة الخرساء..يكتشف الابن ان اباه ضحية حقيقية لهذه الجريمة التي ارتكبها والتي سعت اليه بقدمين ثابتتين.
الفيلم تتخلله كثير من الاحداث الانتقالية التي لا مجال لسرد تفاصيلها الان ولكنها تمّتن من فكرة مهمة بأن (الانسانية في بعض حالاتها الحرجة تكون دافعا للاقتصاص من المجرمين...& ولكن ثمنها فادح جدا عندما لا توجه احكامك من على منصة القضاء) فالقاضي النزيه تورط بان قاضى احد المجرمين الذين سبق ان حكم عليهم بالسجن لمدة عشرين سنة بسبب اغراقه لفتاة شابة في البحر وبطريقة العمد، قاضاه في الشارع بعد خروجه من السجن دون ان يخطط لذلك ولكن لسبب وحيد ، هو ان هذا المجرم طعنه شامتا بوفاة زوجته وتعدى على حرمة محبته ووفائه لها بجمل ذميمة تجسد قباحة روحه المتعطشة للانتقام فما كان لهذا الشيخ الا ان يؤدبه بسلاح حبه ووفائه للزوجة، بعد ان جرفته العاطفة الهيستيرية لدهس هذا الوقح بسيارته وارداه قتيلا... ولكل هذه الاسباب لم تصنف هيئة المحلفين فعله هذا الى انه جريمة قتل من الدرجة الاولى بل ان الجميع تعاطفوا معه بخلاف ان القانون ليس له قلب فتم الحكم عليه بالسجن لمدة اربع سنوات....هذا القرار القضائي شكل للابن المحامي خيبة امل كبيرة بعد كل جهوده ومساعيه لاخراج ابيه من هذه الورطة وهو المتمرس بذلك مع المجرمين فكيف يفشل بان يحرر اباه القاضي النزيه من ملابسات جريمة كان ضحية لها على الرغم من انه هو القاتل..
لقد برع المخرج& (دايفيد دوبكن) في تجسيد حضوره عبر مشاهد كثيرة لعل اجملها عندما اقبلت ام القتيل على القاضي وبصقت غضبها على نافذة زجاج السيارة وهي تهدد بالانتقام، وقد تعمد المخرج ان تظل هذه البصقة لصيقة بالنافذة المغلقة للسيارة وكانها العار القادم الذي سيدنس سجل قاض شريف..ولم ينتهي المشهد بهذه الحدود ولكنه انتهى جماليا وفنيا بحل اخراجي جميل كان للتصوير دوره الفاعل، عندما اشتد الخلاف بين الاب وابنه المحامي وبحضور الاخوين داخل السيارة لامتناع الاب عن توكيل ابنه للدفاع عنه مبررا ذلك انه لا يثق بدفاعاته الملتوية على الرغم من انه لم يعترف بجرمه ليس انكارا للجريمة وانما لعدم استذكاره لحظة القتل وهو ماظل مصرا عليه حتى اخر مشاهد الفيلم فينتهي الخلاف بان ينزل الاب غاضبا من السيارة رافضا كل عروضات ابنه& وياخذ وجهة غير محددة في سيره، ويتبعه الابن بنفس القرار ويتخذ وجهة معاكسة لسير ابيه لينتقل بنا المخرج الى لقطة عامة (long shot) لنرى ان الاثنين قد اختلفا في وجهتيهما وظل الاخوان في السيارة التي تنتصف الكادر لا حول لهم ولا قوة...وهي من اللقطات التعبيرية التي تترجم اهم لحظات ضياع هذه العائلة..
لقد كانت الانسيابية في بناء المشاهد دراميا احد اهم صفات هذا الفيلم الذي انتزع دموعي دون ان انظر حرجا الى ابنتيّ وهما ترافقاني للمشاهدة، لانني صفقت كثيرا من خلال دموعي للاداء الرائع& الذي قدمه الممثل الامريكي الكبير (روبرت ديوفال) وهو الذي جسد دور الاب في مشهده ماقبل الاخير في المحكمة عندما يشرح الاسباب التي قادت الى هذا التورط الجنائي، لقد برع كل الممثلين في اداء عالي للادوار التي تم تجسيدها خصوصا وانه من الافلام الاجتماعية التي تتطلب هذه العفوية التي يتميز بها ممثلو الغرب من هدوء وقدرات رصينة في التعبير واحترام الزمن في اشباع اللحظة الادائية بكل ماتتطلبه من امكانيات دون المبالغات التي نراها واضحة في نتاجاتنا الدرامية العربية او الشرقية عموما، وهذا لا يتاتى فقط لان الممثل الغربي افضل من الممثل في الشرق، وانما لاختلاف البيئة في الاصل وطرق التعبير المتفاوتة التي تتبع ثقافة العواطف وترجمتها دراميا.
اختتم المخرج (دايفيد دوبكن) فيلمه بمشهد يجمع الاب مع ابنه وهما في زورق يحاول فيه الابن ان يرفه عن ابيه بعد خروجه من السجن،وقد راهن الاب في اجمل لحظاته صدقا راهن على حبه لابنه واعترف له بانه افضل محام عرفه فينتقل بنا المخرج الى لقطة اخرى، لنرى (هانك بالمر) الابن وهو منتشيا يحاول ان يصطاد سمكة يؤكد فيها براعته في الصيد علها تخفف من خيبته في كسب قضية ابيه، فنراه منكسرا يلتفت الى الاب الذي ودع حياته بصمت وارتياح وقد نطق بالحب اخيرا.

[email protected]

&