يعد "تاريخ مصر في العصور الوسطى" للمستشرق ستانلي لين بول أول كتاب شامل يتناول تاريخ مصـر الإسلامية منذ الفتح العربي الإسلامي لمصر سنة 18- 20هـ/639 – 641م، وحتى دخول العثمانيين مصر سنة 922 هـ/ 1516م، وذلك من خلال عرض موضوعي تحليلي، وهو مزود بالصور النادرة ونماذج النقود المتداولة في هذه العصور، وكان قد صدر في لندن عام 1901م وحظي باهتمام الباحثين في تاريخ مصر الإسلامية، لذا يحظى بأهمية خاصة لدى الباحث المتخصص في تاريخ مصر الإسلامية، لكن ذلك لا يمنع أن يستمتع بقراءته القارئ المثقف، والقارئ العادي على السواء.
ألَّف "لين بول" الكتاب في فترة لم يكن قد نُشر فيها من مصادر مصر الإسلامية إلا النذر القليل، ولم تكن الدراسات الجزئية التي بدأت في الظهور منذ العقد الثالث للقرن العشرين قد وُجدت بعد، فاستعاض عن ذلك بالاطِّلاع على النسخ الخطِّية لعددٍ مهم من مصادر مصر الإسلامية، إضافة إلى تجارب الطبع الخاصة بكتاب "مدونة الكتابات العربية" "CIA" للمستشرق وعالم الكتابات التاريخية السويسري ماكس فان بِرشِم.
وفقا للمترجم فإن "تاريخ مصر في العصور الوسطى" من الكتب القليلة التي تناولت تاريخ مصر الإسلامية على وجه الإجمال، بنظرة شاملة ودقيقة في الوقت نفسه، فقد حاول مؤلِّفه حصر أهم الأحداث التاريخية وذكر الأسماء والتواريخ والأرقام والإحصائيات ووضع قوائم للولاة والسلاطين والخلفاء، ودعَّم كل ذلك بالصور والأشكال التوضيحية التي بلغت مائة صورة وشكل، هذا فضلًا عن رأيه ونظرته الخاصة كمؤرِّخ ومستشرق غربي، فقد حاول على سبيل المثال التركيز على أحوال القبط وكنائسهم وأديرتهم، ونراه يتطرَّق دائمًا لأوقات رخائهم أو شدتهم ويفرد لها الأسطر والصفحات، مع أنه قد استقى معظم معلوماته من الكتب العربية لأشهر المؤرخين المسلمين من أمثال: الطبري وابن الأثير والمقريزي والسيوطي وغيرهم، هذا مع عدم التغافل عن المصادر الغربية المهمة خاصة في عصر الحروب الصليبية، مثل جوانفيل الذي رافق حملة لويس التاسع، أو وليم الصوري، وغيرهما ممَّن عاشوا في ظل أحداث الحروب الصليبية.
أسلوب جزل
وعلى الرغم من أن الكتاب قد صدر في سنة 1901م كما ذكرنا سلفًا، إلا أنه – كما يقول د. أيمن فؤاد سيد في تقديمه للترجمة – ما زال من أهم المؤلفات التي تناولت هذه الفترة، إلى جانب كتاب آخر للمستشرق الفرنسي جاستون فييت، أحد أهم العارفين بتاريخ وحضارة مصر الإسلامية، ولا توجد إلى الآن أي كتابات عربية تعدل المادة التي قدمها هذان الكتابان لهذه الحقبة الطويلة من التاريخ المصري، الأمر الذي يجعل نقلهما إلى اللغة العربية يسد فراغًا نوعيًّا في المكتبة العربية، خاصة أن تاريخ مصر خلال هذه الحقبة الطويلة كان قد شغل اهتمام المستشرقين خلال القرن التاسع عشر، وبشكلٍ خاصٍّ بعد صدور كتاب "وصف مصر" الذي وضعه العلماء المصاحبون للحملة الفرنسية وخصَّصوا فيه جزءًا عن "الدولة الحديثة".
وكون أن المؤلف صاغ كتابه بأسلوبٍ جزلٍ، وعباراتٍ أدبيةٍ فخمةٍ تنتمي إلى عالم الأدب أكثر من انتمائها إلى غيره – وهي من الصعوبات التي واجهت المترجم كما يقول – إلا أن الكتاب انتشر انتشارًا كبيرًا بين الأوساط العلمية المتخصصة في جميع أنحاء العالم، ورجع إليه خلال ما يزيد على قرن من الزمان، كل مَنْ كتب عن تاريخ مصر الإسلامية، سواء كان من الغربيين أو المؤرخين المشرقيين فيما بعد، وذلك راجع بالطبع لثقل وشهرة مُؤلِّفه وأهمية كتاباته وجدِّيتها على وجه الإجمال.
ويبدأ الكتاب - الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية - بإهداءٍ مُلفتٍ للمترجم؛ إذ جاء كما يلي: "إلى حقبةٍ من تاريخنا مضت بصالحها وطالحها.. إلى شخوصٍ وأحداثٍ كوَّنت وجدان أمة.. أُهدي هذا العمل.. لعلَّنا نلتمس عن طريق الماضي آفاق المستقبل".
وقد وضع "لين بول" كتابه في أحد عشر فصلًا، وقام في بداية كل فصل بذكر أهم المصادر الخاصة به، والتي كانت معروفة وقت تأليفه للكتاب، وأهم الآثار الباقية التي ترجع إلى هذا العصر، ولم يكتفِ بالسرد التاريخي، وإنما كانت له الكثير من التحليلات ووجهات النظر التي جعلت الكثير ممن تناولوا هذه الفترة بالدراسة بعد ذلك يحيلون في هوامشهم إلى كتابه.
الفتح العربي
وقد بدأ الفصل الأول المعنون بـ "الفتح العربي" بالإشارة إلى الفتح العربي الإسلامي لمصر، حيث يقول المؤلف: "تُوفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم عام 11هـ / 632 م، وخلال عدة أعوام من وفاته اجتاح أتباعه شبه الجزيرة العربية وسوريا وأرض الكلدانيين، هازمين قوات إمبراطور القسطنطينية وكِسرى أو ملك فارس الساساني، وفي عام 18 هـ/ 639م افتتح العرب مصر، بعد أن أذعن الخليفة عمر على مضضٍ لمزاعم القائد عمرو بن العاص، لكنه اشترط عليه إن وصله خطاب استدعاء قبل دخوله أرض مصر، فعلى الجيش العودة فورًا إلى المدينة، وبالفعل تم إرسال هذا الخطاب، إلا أن عَمرًا احتال لعبور الحدود قبل فتحه، وهكذا أبطل غاية الخطاب. زار عمرو الإسكندرية في شبابه ولم ينسَ أبدًا ثراءها، ولقد تم تنظيم تلك الحملة بينما كان الخليفة وعمرو معًا قرب دمشق أثناء عودتهما من فتح بيت المقدس في خريف عام 18 هـ/ 639م، وقد أدَّى عمرو صلاة عيد الأضحى في العريش، المدينة الحدودية المصرية".
تفاصيل الفتح الإسلامي لمصر
ويستمر "لين بول" بأسلوبه الرشيق، في سرد تفاصيل الفتح العربي الإسلامي لمصر، متناولًا الزحف نحو ممفيس، ومعركة عين شمس، ومعاهدة مصر، كما يتحدَّث عن المقوقس، وحصار بابليون، والتقدم نحو الإسكندرية، والمعاهدة مع الروم. ويتناول في الفصل الثاني «ولاية الخلافة الإسلامية»، بينما يتحدَّث في الفصل الثالث عن الطولونيين والإخشيديين، وفي الفصل الرابع عن الثورة الشيعية، ثم الخلفاء الفاطميين في الفصل الخامس، والهجوم من الشرق في الفصل السادس، بينما يفرد الفصل السابع للحديث عن صلاح الدين، ويتناول خلفاء صلاح الدين (الأيوبيون) في الفصل الثامن، بينما يروي في الفصل التاسع قصة "المماليك الأوائل"، ثم في الفصل العاشر يتناول الحديث عن "أسرة قلاوون"؛ ليختتم كتابه بالفصل الحادي عشر الذي يتحدث فيه عن "المماليك الجراكسة".
صور وأشكال توضيحية
وقد أثرى "لين بول" كتابه بمائة صورة وشكل توضيحي، شملت جوامع ومعالم مصر، مثل: جامع عمرو بالفسطاط، وجامع أحمد بن طولون بالقاهرة، وباب الجامع الأزهر، وجامع الحاكم، وجامع السلطان حسن، ومنبر جامع وقبة فرج ابن برقوق خارج القاهرة، وجامع وضريح قايتباي، وباب زويلة، وباب النصر بالقاهرة، وقلعة القاهرة، وقطاع من مقياس النيل بجزيرة الروضة، أما القِطع النقدية فهي الأبرز في الصور والأشكال التي حرص المؤلف على وضعها في كتابه، ومنها: دينار الخليفة المأمون، الذي ضُرب في الفسطاط عام 814م، ودينار أحمد بن طولون (881م)، ودينار هارون بن خمارويه (904م)، ودينار المعز (969م)، ودينار العزيز (976م)، ودينار الظاهر (1030م)، ودينار المستنصر (1047م)، ودينار المهدي المنتظر (1131م)، ودينار صلاح الدين (1179م).. إلخ.
وقد أشار في نهاية الكتاب إلى أن القطع النقدية والأوزان الزجاجية تم استنساخها من قوالب جصِّية للقطع الأصلية المحفوظة في المتحف البريطاني، أما النقوش فأغلبها من كتاب ماكس فان برشم (Corpus Inscriptionum)، والشعارات من مقال روجرز بك، وبقية الأشكال زوَّده بها هرتز بك، رئيس مهندسي لجنة حفظ الآثار العربية في مصر.
تبقى الإشارة إلى أن هذا الكتاب المهم، لم يخلُ من المعلومات التي لم تتَّسم بالدقة، وأحيانًا جاءت غير موضوعية، وقد تصدَّى مترجم الكتاب ومحققه أحمد سالم سالم لهذا الأمر من خلال وضع هوامش تُدقِّق غير الدقيق، وتُصحِّح غير الصحيح، وتوضِّح بعض الأحداث التاريخية بشكلٍ أكثر تفصيلًا؛ لخدمة القارئ في فهمٍ عميقٍ للوقائع والأحداث وربطها بعضها ببعض، وكذلك للتغلُّب على عائق التركيز والاختصار الذي اتَّسم به الكتاب في مجمله.

ـ الكتاب: تاريخ مصر في العصور الوسطى
ـ المؤلف: ستانلي لين بول
ـ ترجمة: أحمد سالم سالم.&&&&&&&&&
ـ مراجعة: د. أيمن فؤاد سيد
ـ الناشر: الدار المصرية اللبنانية
ـ الطبعة: الأولى، أغسطس 2014م.
ـ عدد الصفحات: 752&&&&&
ـ القطع: متوسط.

&