كانت عمّان طرية كطفولتي و أنا ادخلها لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي... دهشة ارتسمت في احداقي و انا اتابع جبلاً يحمي السيارة التي كانت تقلنا من دمشق، و على الجانب الاخر واد سحيق لكنه مكتسي بالخضرة... ربما خفت يومها أن يشرد السائق... أن ينسى نفسه مع موال (جورج وسوف) الصبي الطافح على وجه الغناء في تلك الايام.
لكن عندما اقتربنا من أطلال و حجارة (جرش) اردت أن أهمس للسائق الاسمر: ((توقف قليلاً لأكتشف بوح الحجر العتيق))، لكن سرعة تدفق الصور في عينّي و منها لذاكراتي منعني... جبال ووديان... اللون الاخضر... بائعي القهوة العربية على الطريق... شوادر البطيخ... الفاكهة المنسقة بعناية عاشق.
ثم دخلت عمّان من صويلح لتبدأ معالم المدينة تتضح و نظري معلق بكل شيء، يلتهم كل شيء كجائع لحلم حتى توقفت السيارة عند طلعة ((الشابسوغ)).
في حارة ((الملفوف)) كانت المحطة الأولى في بيت بسيط و متواضع و جارة فقيرة تدعى ((أم غسان)) لا تكف عن الشكوى و النقمة طوال النهار، ثم تستدرك و تستغفر ربها دعوات و ابتهالات لرحمته و غفرانه.... رائحة (الكاز) هي أول ما علق بذاكرتي الطرية، تساءلت ببراءة ففوجئت ان (أم غسان) تنظف بيتها (بالكاز) لإنه الأرخص حينها من كل مواد التنظيف ؟؟؟!!!.
في الصباح قبضت بقوة على العملة المعدنية (الثقيلة) التي أعطتني اياها شقيقتي لعلني ارمم نحافتي بقطعة حلوى، و لكن لانني لا اعرف شيئاً عن هذه المدينة الجديدة... تساءلت... : ((من هنا تمضي دون ان تغير اتجاهك ستجد نفسك تهبط نحو المدينة... نحو قاعها... ستعاند طلعة (الحايك) بخطواتك المعاكسة لها نحو (وسط البلد).
مضيت خائفاً.. هبطت نحو المدينة و عند بداية طلعة (الحايك) توقفت مذهولاً... لم أكمل خطواتي... لم اتردد... دخلت لوكالة توزيع المطبوعات... صحف و مجلات كثيرة اكثر مما كنت أتصور... أكثر من نهمي للقراءة... أكثر من العملة المعدنية (الثقيلة) التي في قبضتي.
و أصبح هذا المكان زيارتي الصباحية اليومية منه احمل (زوادتي) الورقية، و أكمل طريقي لوسط البلد الذي تضج فيه الحركة و يعلة الصخب كلما أمعنت في دخوله، ففي عواصم اخرى ايقاع (وسط البلد) واحد لا يشذ عن القاعدة... صادم.. لا يمنحك فرصة لالتقاط الانفاس... فلا تدخله تدريجياً إلا في عمّان فأنت تدخله و كل شيء حولك هادىء... لا يصدمك صخبه فيما بعد، و تصبح مع الزمن مدمناً على تفاصيله التي لم تتغير حتى الان.
بعد سنوات من هذه العلاقة الطرية بين طفل و مدينة تأبى ان تغادر طفولتها كانت عمان فضاءاً رحباً لانطلاقتي الصحفية احتضننتي شاباً يافعاً يريد ان يرسم خطاً في الحياة لا خطاً على الرمال فكانت جبالها السبعة المكان الأصلب لأحفر حروفي الاولى في عالم الكتابة.
و ككل مكان في هذا الكون لا يتوجب علينا ان نقابل القديسين و الانقياء فقط ، بل علينا ان نتلقى لطمات من أعداء النجاح و من أصحاب الوشم الواهي في الحياة، و مع ذلك لم تتغير نظرتي العاشقة لهذه المدينة - حتى في اقسى اللحظات التي عشتها فيها - و لأهلها الطيبين لانهم كانوا أكثر تأثيراً من قلة اضمحلت فيما بعد و بقي النشامى نشامى حتى يومنا هذا.
هنا في عمَان... كانت مطابع الشام تُخرج للنور كتابين لي عامي 1987 و 2002 و انا بعيد و كانت عمّان تشاركني فرحة تلمس النسخة الاولى منهما...
هنا في عمّان... أصدرت كتابي الثالث (سوناتا) الصيف الماضي....
هنا في عمّان... كان الصيف ينشر اجنحته و يمتحن إدماني لشوارع عمّان، فأهرع لها كعاشق لجبال و سهول و ملامح و وجوه و عيون لا تمل من تفحصها.
هنا في عمّان... عشت تجارب صحفية رائعة و زاملت مجموعة مميزة من الصحفيين.
هنا في عمّان... عشت فرحة تخرج ابني البكر مهندساً.
و الى هنا...
الى عمّان...
كان الوجع السوري يحملنا منها نتنشق عطر ياسمين الشام...
و على كتف جبالها نحكي مأساتنا و وطننا المستباح....
و في براريها نصرخ ألمنا لتهب نسمة رطبة و تلملم جراحنا و تكفكف دموعنا....
كاتب سوري مقيم بالسويد