قد تكون المهرجانات الشعرية فخاً للشاعر المغاير، من هنا أرى أن ثمة خطراً حقيقياً يواجه الكتابة الشعرية المغايرة يتمثل في تحولها من كونها خلقاً فنياً وجمالياً إلى نشاطاً جماهيرياً وعقائدياً وهذا ما يؤدي إلى تسوية الشعر ـ الشاعر المغاير بغيره من أشكال الكتابة أو الممارسات الثقافية الأخرى، وهذا التسوية أيضاً تؤدي، بدورها، إلى انقراض الشعر، ولئن كان هناك خطر على الشعر ـ الشاعر فهو كامن، كما يبدو لي، في هذه المهرجانات.
في كل ما قدمه مهرجان المربد الشعري للقصيدة العراقية والعربية سواء بالمعنى أو المغايرة فقد ظلت العقائدية والمزاجية والمحاباة حية وقائمة بين الماضي والحاضر، ثمة من يريد استرداد الماضي لتدجين الحاضر وتحويله إلى نص كسيح ووجوه عقائدية مستعادة. لهذا السبب يمكننا القول: أن الماضي يفضح ما لا يقوله الحاضر أو يتكتم عليه، من هنا جاءت الدعوات أو الاختيارات والأسماء العقائدية المعروفة لتؤكد هذه الحقيقة فيكون الحاضر شاهداً على ماضٍ تنازعته أطراف وأصوات عدة ومعروفة في تقلباتها الموسمية. كما تجدر الإشارة دائماً إلى أن تلك المرحلة، أعني ثقافة الصوت الواحد، طغى فيها وسيطر عليها المناخ العقائدي على أكثر من مستوى، فكراً وأسلوباً، مما طبع أغلب المهرجانات الثقافية بذلك الجو بما فيها اللغة العقائدية المتداولة، وهذا ما يفسر، إلى حد ما، الأجواء المزاجية التي استبدت بأغلب الدعوات، التي كانت تحصل في تلك الأيام، وكذلك زاوية أختيار هذا الأسم أو ذاك. بالنسبة إليّ، كمتابع، لا غرابة في الأمر، وأعني استعادة نفس الأساليب القديمة، حتى ولو أعطينا لهذا الأمر صفة المفارقة، وهي كذلك، في نظري. كل هذا أحدث قطيعة مخيفة بين النص والمتلقي.
عادة وفي سياق التَّظاهرات الثقافية الفنية، الفكرية والأدبية وبكل هذه الحالات الموازية للمجاملات الثقافية الصاخبة تخرج (بعض) الآثار الشعرية في المربد مزدانة بهموم شعرائها التي غالباً ما تتبدد في اجواء طالعة من رماد الحروب والخراب والانتظار لتستمد مبررات حضورها الجديد بين دفتي كتاب الحياة المنشطر بين اليأس والأمل الأمر الذي سينشئ علاقة جدلية جديدة، أيضاً، في شكل تعاملها الحديث مع الحياة وأسئلتها وعناصرها المتنوعة حتى وأن بدت هذه الحالة مجرد علاقة احتمالية أو صورية وشكلية لا تسمح بالتفاعل المعرفي المطلوب استناداً إلى عناصر الأمل ومحدوديته المواجهة لسطوة الموت الصاخب الموازي لضجيج الحياة أو السؤال النقدي الغائب بين الشاعر والمتلقي.
هل سيتمكن المربد الشعري من انتاج إيحاء شعري رديف للحياة ومرتبط فيها لكي تتأكد من جديد استقلالية الشاعر حتى وأن بدت القصيدة محصورة بافتراضاتها المستقبلية ذات السمة التفاؤلية المصطنعة التي تبرر ضرورات الحياة واسئلتها الاساسية بعيدة عن كل اشكال التزويقات البلاغية المفتعلة والتورّم اللغوي؟ مهرجان المربد، الذي سيشارك فيه عدد من الشعراء النقاد والوجوه العربية المستعادة، قد ينطوي على درجة كبيرة من الأهمية التي تحدد تأثير الثقافة المستقبلي وتحصر تداعياتها اللامتوقعة فيما قد تثيره من موت مشابه مع ما كان حاصلاً من قبل وأعني هنا، ثقافة الصوت الواحد وبهذا تتصافح الصدف مرة أخرى لتترك الشاعر وقصيدته محصوران أو محشوران بين مواقع التوزيع السلطوي القسري الجديد وبين مكائد أو راهنية اللحظة العابرة.
ثمة أمنية قديمة، متصلة بهذا المهرجان الشعري، تستعيد نفسها في كل عام، لا نريد من هذه الاحتفالية أن تكون مجرد تزيين للكلام الشعري الذي يأتي بعكس ما نطمح وكأنه حالة تقليدية اجرائية، بل نريد من الشعر والشاعر معاً أن يصنعا مفرداتهما الشعرية التي تستعير من المستقبل مفرداته الواثقة الجريئة ومن الحقول الحياتية الأخرى أختياراتها اللامتناهية والبعيدة، في ذات الوقت، عن كل اشكال القسر، هذا هو عنوان المربد الذي يجب أن يكون خارجاً بجدية متناهية أو بحلته الجديدة المتحررة من كل شكل من اشكال السلطة القمعية والرعاية المؤسساتية الرسمية المدجنة أو المزاجية.
كيف يحصي الشعراء العراقيين أحزانهم وآمالهم؟ هذا السؤال لطالما تردد على لسان شعراء أرض السواد، لنتجاوز أحزاننا ونبدأ تقويمنا من هذا العام ونطلق عليه عام الأمل أو التفاؤل أو عام الشعر العراقي المتفائل والمغاير بامتياز، وما دمنا نحلم علينا ترويض الموت والحزن بالشعر، هذا هو رهاننا الوحيد حين يكون المستقبل غائماً، ثمة غبطة غير محددة ترتطم بالمحال، من هنا تأتي القصيدة وعليه سيكون الشعر مأخوذاً بمحاولة مستميتة لالتقاط النهار وترتيب الأماني المبعثرة هنا وهناك، هل سيغتسل الشعر من أثم الطغاة؟ هل سيغتسل الشعر من لوثة الأحتلال والادلاء والعقائد؟ هل سيظل الشعر قادراً على استشفاف سبب لسؤال الحياة؟ كل شئ رمادي في هذه الأيام، فما الذي سيفعله الشعر؟ لا تعني هذه الأسئلة أن مشقة الكتابة الشعرية المغايرة ضاعت سدى بحيث ينتهي المهرجان ويعود كل من حيث جاء بعد أن يتبادل الشعراء التهنئة باختتام جلساتهم ويقول كل واحد للآخر كل عام ومهرجاننا بخير، بالمقابل تستطيع الضحية، وأعني القصيدة، أن توجه أسئلة مشابهة إلى الشاعر وتطالبه بعدم الاكتفاء بالتنديد باوجاع الضحايا الذين أطبقت عليهم المجاميع الاجرامية أو الدكتاتوريات الجديدة المزدهرة كازدهار (خضراء الدمن) قد يحمل كلامي من المرارة ما يمكن أن يحمله الكلام الآخر لضحايا الموت اليومي تحت رحمة القتل والتشريد وفي الحالتين هناك تواطأ أو ترهل روحي وفكري.
التحدي الحقيقي الذي يواجه ورثة هذا التاريخ المديد للشعر العراقي هو في القدرة على تغير الواقع الثقافي الفج لا القفز عليه واستكمال الصيغ الجمالية للحياة هذه الصيغ التي لم ولن يتمكن السياسي ـ العقائدي من إنجازها بكل ما تعني كلمة الإنجاز من دلالة ومعنى وأعتقد أن لا مبالغة في قدرة الشعر على فعل كهذا لا سيما والشعر أو الشاعر العراقي المختلف اليوم يواجه مرحلة جديدة ترتبط بالعملية المريبة المُـعّدة لمحو هويته الحضارية/الثقافية في هذه الظروف الدولية والاقليمية المختلة بصورة سريالية لم يسبق لها مثيل.
نحن منحازون للشعر، وانحيازنا هذا لا بوصفه استثناء بل مصداقاً حيّاً ونابعاً من القناعة العميقة بأن الشعر كان وسيكون وسيبقى من أكثر الفنون الادبية جدوى للارتقاء بحياتنا نحو الفكر الثقافي التنويري أو الإنساني المنشود، أقول الفكر الثقافي التنويري، واعياً مدلول هذا القول، وواعياً أيضاً مسؤولية هذا القول لدى الشاعر العراقي المختلف والحر والمغاير الذي أغبطه دائماً على رفضه لهذه الدعوات المجانية أو غيرته الشعرية وحرصه على مواكبة التجديد وحلمه الذي لم يتخلَ عنه رغم الحرائق والخراب، حلمه الذي يختلج بضميره والمتمثل بشعر عراقي مغاير أو بعراق آت لا ريب فيه، حتى وأن قلت كل شئ رمادي في هذه الأيام.
خاتمة: أحياناً أتساءل بحزن: هل سيتغير المعنى الشعري؟ المعنى الشعري اليوم يصبح شيئاً فشيئاً قتلاً للجمال بدلاً من أن يكون منقذاً للحياة والجمال، إذن سيتكاثر اعداد الضحايا من القراء، من هنا علينا أن نستعيد عبارة الشاعر أوكتافيو باث: (الشعر الحقيقي حياة ثانية).
&