ترجمة عن الكوردية: مهندس محمد حسين

كنت قد عزمت منذ فترة على ترتيب رفوف مكتبتي وتصنيف كتبي بحسب أقسامها ومجالات التخصص واللغة فيها، بيد أني كنت أخاف أن أكلف نفسي عبء هذا العمل الشاق بسبب كثرة عدد الكتب من جهة ومن جهة أخرى كنت إذا ألمس أي كتاب، كنت أراه مشوقاً وجالبا للنظر بحيث كان يلتصق بيدي كالمغناطيس وتصعب علي إعادته الى مكانه بسهولة ويسر، غير أنه لا يمكنني إهمال تنظيم الكتب هذه الى الأبد، فقد كنت أنتظر يوما كمثل هذا اليوم منذ ما يقارب عشرة أو خمسة عشر عاماً. على أية حال، قمتُ بتخصيص يوم عطلة نهاية هذا الأسبوع لهذا المهمة.
في الصباح الباكر وبعد ممارسة الرياضة قليلاً، تناولت الفطور على عجل وذهبت الى غرفة المكتبة. أية مكتبة يمكن أن تكون هذه، إنها مثل شاحنة نقل طويلة محملة بالكتب. كانت الكتب مبعثرة هنا وهناك. جلبت، قبل كل شيء، كوباً من الشاي وأشعلت سيجارة، وفكرت في خطةٍ محكمة لترتيب الكتب، لأنني كنت أعرف جيداً أنني إن لم أخصص وقتاً كافياً في تخطيط منظم ودقيق، فإنه لا يمكنني أن أضبط كل هذه الكتب، فضلا عن أنني كنت الوحيد الذي يعرف مدى قوّة وعمق مضامين هذه الكتب وأي تأثير مجهول سوف يتركه ثقل متونها على العقل والروح وحتى على الجسد.

وضعت الخطة كالآتي:
بدأت أولاً بكتب الفولكلور و الملاحم والروايات والقصص والتاريخ والمواضيع الفنية والمذكرات وكذلك التي تتناول مواضيع السياسة وصدام الحضارات والعلوم الحديثة، لأنها لم تكن كالكتب الفلسفية والنقد والشعر، إذ أنك إن لمستها، يتوجب عليك قراءتها. أما الدواوين التي كانت تتشابه عناوينها وبعض من أشعارها، فقد أعطيتها الأفضلية وكنت أضعها معاً في ديوان واحد، وما كانت عبارة عن عدّة دواوين قد أعيد طبعها مرات بعد إضافة عدة أشعار جديدة عليها، كنت أستقطع منها صفحات الأشعار الجديدة وأثبتها في الديوان القديم وألقي بالباقي منها جانبا. والمدهش أنه لم يكن هناك إختلاف جدير بالذكر في متون الدواوين الشعرية للشعراء الذين طبعوا الديوان الأول والذين طبعوا عشرة أو خمسة عشر ديواناً، لذا كان من السهل علي ترتيب هذه الدواوين وتنظيمها، فقد كنت أضع صفا من كل ثلاثين ديوان معا والبعض الآخر صفا من كل خمسين ديوان. أما بقية الكتب كالمعاجم وعلم اللغة والإجتماع والموسوعات والمواضيع الأخرى كرياضة اليوغا والمساج وتفسير الأحلام وكتب المولد النبوي الشريف والقبائل والأغاني وتربية الحيوانات والجغرافيا والكتب الأخرى، فقد صنفتها ووضعتها بحسب الأقسام في رفوف خاصة بها.
وقبل أن أصنف وأفرق المجلات والجرائد ولاسيما التي كانت تحتوي على مواضيع جدية ومعان عميقة، أشعلت سيجارة أخرى، حينها ونار قداحتي ما زالت مشتعلة، سمعت طرقة على الباب، لحظتها أنزعجت كثيراً، لأن الوقت لم يكن مناسبا لاستقبال الضيوف أو ما شاكل، ولكن عندما رأيت صديقي الدكتور زال قلقي وانزعاجي فورا، لأننا كنّا قريبين في التفكير ونمط الحياة، وكان الوقت مناسباً لأتحاور مع شخص ما حول أدب وثقافة هذا البلد والعالم عموماً، وقد كنت بحاجة الى قليل من الراحة أيضا.
مع وصول الدكتور الى غرفة مكتبتي، سأل متعجباً: يا إلهي، ما كلّ هذه الكتب، أحلف بشرفي لا ماركس ولا جدّه يملكون هذا الكم من الكتب!
تباهيت بنفسي وأخرجت سيجارة وقدمتها لـلدكتور، فانبرى قائلا: والله تركت التدخين ولكنني سأشعلها. بصراحة ودون مجاملة إنك فعلاً شخص غير عادي ومميز وهبت حياتك للكتاب، هذا عالمك أنت، بهذا يستطيع الأنسان أن يعيش.
قلت: شكراً يا دكتور، مثقف مثل حضرتك فقط يقدر أهمية الكتاب المثقفين، بوسع أشخاص مثلي ومثلك إظهار جماليات هذا المجتمع. إيه دكتور تأمر بماذا، شربة ماء، فنجان قهوة، أو قدح شاي؟

الدكتور: آه لو هناك كأس من عرق أو بيرة مثلجة، فأنا لا أشرب الشاي وما الشاي، بهذا الشاي السخيف لن تستطيع كتابة نص جميل أبداً طوال حياتك، إشربْ قنينتين من جعة باردة، فستَرى كيف سيتغير منظورك.
حاولت جاهداً كي لا أتمادى في الضحك: عفواً دكتور، إن كنت تعاقر الخمرة في أستراليا سابقا، فأنا لم أرك تشرب كثيراً، يمكن بالشهر قنينة واحدة من الجعة! لماذا تهوى الشرب هكذا الآن ؟ وبالذات في هذا الوقت من الظهيرة؟
الدكتور: هاهاهاهاهاه، عندما كنتُ أشرب، كنتَ مجرد طفل، أعتذر حين أقول هذا، ولكن أنتم من لستم أكاديميين، تنظرون الى المواضيع بأستهزاء، صدقني كنت جالسا مرة مع صديق كان يقول لا أشرب الخمرة في شهر رمضان ولا أرفع الكأس عند الآذان! تعرف كاد عقلي ينفجر. تصور هؤلاء الأشخاص كيف يستطيعون التفكير سليماً، ما الفرق بينهم وبين رجل دين ملُاً جاهل؟
أردفت قائلا: يا دكتور، أعتقد أن الناس أحرار في كيف يفكرون وكيف يتصرفون، أليس الأفضل أن نتحدث عن أنفسنا؟
الدكتور: هاهاهاهاهاهاه، هل أنت جاد فيما تعني؟ هل هناك أي كاتبٍ حُر؟ من منهم يعرف معنى الحرية؟ هل تتصور بأنهم يعرفون ما معنى التفكير الحر؟ أنظر الى كتاباتهم، أُقسم بشرفي، أنا أخجل أن أقرأ كتاباتهم، صدقني إنهم لايقرؤون شيئا طوال السنة، اللهم بأستثناء موضوع ما في جريدة أو مجلة ما أو مجرد عدد من صفحات كتاب ما. ويمكن أن يعود هذا الى عدم وجود عملٍ ينشغلون به أو عدم وجود قناةٍ أخرى أو بديل آخر، فهم في فترة الهروب من الخدمة العسكرية، إضطروا الى قراءة بضعة كتب لا غير. ولكن هناك من يقرؤون.
أخذ نفساً من الدخان وضحك هاهاهاه وقال: ولكن لا يتعلمون منها شيئاً، في إعتقادي هؤلاء يظلمون أنفسهم وعائلاتهم، وهم بهذه المواضيع يورطون أنفسهم ليس إلا.

ثار غضبي وقلت: حسنا يا دكتور، إذن، دعني أسأل حضرتك أيضاً كي أعرف منكم ماذا تعلمتم أنتم خلال هذه السنوات العشرين التي قضيتموها في أستراليا حيث كنتم تدعون بأنكم كنتم منهمكين في الدراسة، ما هو نتاجكم أو أنتم الأكادميون ماذا كانت رسالتكم وفي سبيل ماذا؟ الراتب، التباهي بالذات، المرتبة، أم لرفع المستوى الثقافية للمجتمع؟ هل تستطيعون في مجال إختصاصكم التحدث بجدية لمدة ساعتين؟ ثم أنتم أيضاً لاتقرؤون، فلديكم دوامان اثنان وكل ليلة تسهرون خارج البيت؟
أحمّر وجه الدكتور ووقعت السيجارة من بين أصابعه وأحدثت ثقبا في الأريكة وسرعان ما رفع السيجارة بسرعة وذهب باتجاه الكتب وقال: هل تعلم بأن مستوى ثقافة الشخص الذي تحاوره شرط أساسي؟ مثلاً، كم كتاباً قرأتم أنتم من المكتبة الكبيرة هذه؟ كان سؤالاً محرجاً للغاية، وكنت قلقاً جداً من إجابتي، ولكنني كنت على يقين أنه لايسألني عن جميع الكتب.
لذا قلت: نعم دكتور لقد قرأت جميعها.
الدكتور: هاهاهاهاه، حسناً ولكن حضرتك لا تعرف اللغة الإنكليزية، كيف قرأت الكتب الأنكليزية؟
فاستطردت قائلا: حسناً دكتور، وأنتم أيضاً، لاتعرفون الروسية والفرنسية والأسبانية والفارسية، كيف استخدمتموها كمصادر؟ ثم لم تترجمون الكتب من العربية وتكتبون إنها مترجمة عن الأنكليزية!!
ثار غضب الدكتور، لكنه أراد أن يهديء نفسه فقال بهدوء: بالله عليكم، أليس حراما عليكم أن تسجنوا كل هذه الكتب داخل هذه الغرفة؟ على الأقل كان بوسع أحد ما أن يقرأها وهي في الخارج ويتعلم منها حرفين؟!
فقلت: حسناً دكتور، هذا رأي جميل جداً، ربما أكون أنا قد سجنت مجموعة من الكتب و تسببت في خسارة مالية لي بشرائها ولم أكن بذلك ذا أية فائدة لمجتمعي، ولكنكم بقيامكم بتوسطات ومنح مكافأت الى جهات عديدة استطعتم نيل شهاداتكم، تسببون الضرر للمجتمع أيضاً بـــ:
أولاً: راتب كبير و إنتاج قليل. ثانياً: تعليم الطلاب بمعارف ومعلومات خاطئة. ثالثاً: تشويش المكتبة الكوردية بترجمات خاطئة ونقل المعلومات عن لغات المصدر الثاني أو الثالث.
وبرغم كل هذا فالإنسان البخيل والخسيس ومن لا إحساس له لا يمكن أن يكون مثقفاً.
أحمّرت عينا الدكتور وضرب الرف العالي من الكتبة بيده،حيث كان الرف المخصص لدواوين الشعر الكلاسيكية، وأسقطها جميعاً وقال: لهذا السبب لايتعلم الأنسان عندنا شيئاً لأنهم يقرؤون تلك الكتب السخيفة.
وكان الرف الثاني مخمخصصا للروايات المترجمة، أسقط الدكتور تلك الكتب أيضاً وقال: إذن يعجبك المترجمون السخفاء هؤلاء!
ركضت لأمسك بيديه، ظنّ بأنني أنوي ضربه, فوجّه لكمة الى وجهي، فلم يبق لي خيار آخر، كانت هناك مزهرية رفعتها وضربتها على رأس الدكتور ودار شجار حاد بيننا، وقعت المكتبة على إثره& بما فيها من الكتب وانكسرت الطاولة التي كانت في وسط الغرفة، ومع تقاذف الكتب بيننا انكسرت زجاجتان أو ثلاث من نوافذ الغرفة، في هذه الأثناء ذعر الأطفال ونادوا على الجيران، وكان العم اسماعيل هو أول من جاء لنجدتنا لأنه كان منشغلا على الدوام بحديقة صغيرة أمام باب بيتهم، وكان على علم ودراية بكل شيء في المحلة.
العم اسماعيل: الله لا يسامحكم ما هاه الشجار ومن أجل ماذا؟
أمسك الدكتور من كتفه و سحبه الى الخارج، ولكن الدكتور حينما رأى الدم على رأسه عاد راكضاً وهاجمني، تبادلنا اللكمات، عاد العم اسماعيل وقلب عصاه رأساً وعقب ثم قال: حلال علي والدتي إن لم تكفّا عن الشجار، سوف أبرحكم ضرباً بعصاي هذه، أنتم يا عديمي العقل لم تتشاجرون هكذا كالكلاب، أتتشاجران على الميراث أم على النساء؟ وتوجه نحوي قائلاً: ما هذا أستاذ كنت أتصور بأنك رجل فاهم وذكي وتصادق رجالاً صالحين، لم أكن أعرف بأنك تصادق رجالاً جهلة مشاغبين!!
أدار الدكتور وجهه الى العم اسماعيل ورأسه ملطخ بالدماء: عمي لاتكلمني بهذا الأسلوب فأنا لاأعرفك.
أدار العم اسماعيل وجهه نحوي وسألني: ماذا قال هذا الرجل الضخم؟
قلت: يا عمي، إنه يقول أنه لايقبل أن تكلمه بهذا الأسلوب فهو لايعرفك.
فقال العم أسماعيل: أقسم بالله هذه حكاية طريفة، إبني إذا كنت أنت حقا بهذا القدر من الرجولة، لم جرى كل هذا ومنظر رأسك القبيح؟ هل من أحدٍ يتشاجر في الضيافة أيها الرجل الأحمق، وإني الآن إن لم أخش الله فسوف أصنع منك رجلا بهذه العصا وأجعلك تتوقف عن الشجار طوال حياتك، أذهب ولا تريني وجهك مرةً أخرى في هذه المنطقة.
ثم أدار وجهه لي قائلاً: وأنت أيها الأستاذ المتكبر عندما تمر في أرجاء هذا الحي، تظن أنه لا وجود لأحد في الدنيا ما عدا حضرتك، إنك لا تلقي التحية على أحدٍ، وأنا منذ زمنٍ كنت أودُّ الحديث معك ولكنني كنت أعيب نفسي على ذلك، لأنني كنت أراك تجلس في الحديقة لابساً بيجامتك السخيفة هذه وتشرب بضعة كؤوس من هذا الشيء القذر قبل أن تقرأ صفحة واحدة من هذه الكتب والكتيبات.كنت أعلم بأننا سنصل الى اليوم هذا ، كن رجلاً واعمل عملاً ما، أترك هذه السخافات وكن رجلاً وتعرّف على الرجال.

&