هكذا، من دون أن يُخبرنا رحل محمود البياتي ولمّا يزل يحفظ في صدره خزيناً من المشاريع الإبداعية. تُرى، ما لونُها، ما فحاويها؟ بيد أني أعرفُ أنّ ما قدّمه لنا وللثقافة العربية كثيرٌ جمٌّ. فخاض في كلّ شكل أدبي، حسبُه أنّه أنجز عدداً من الروايات والحكايات ونماذج من الشعر المنثور ان جاز التعبيرُ. بيد أنّه كان مخلصاً حريصاً على الاحتفال بالآخر. أعني بمبدعين آخرين في حقول الأدب والفن. تُرى، برغم إنجازاته الإبداعية الرصينة، ما كان يُخبيء لنا ليُفاجئنا به غداً أو بعده؟ لكن الموت عاجله وأجهض خبيئاته المستقبلية. أذكر أني كتبتُ ثلاث مقالات عن ثلاثة كتب بعثها اليّ. كنا نلتقي، لكنْ عبر الهاتف، مرّة في الأسبوع، أو مرّتين في الشهر. أعرفُ أنّه كان يتأخر في النوم، فحديثنا كان يجري غالباً بعد الظهر. ولعلّه يختلف عن سائر المبدعين كونه يُحلق في أكثر من مجال. ويُعنى بالآخرين امعاناً في الاحتفاء بهم. وله علاقات متينة بأدباء العربية من المغرب حتى ضفاف الخليج. لن أتحدّث عن موقفه السياسي، لكنّي أقوّمُ حرصه الأخلاقي في تعميق أدائه الإبداعي. وتميّزه الاجتماعي في خلق علاقات صداقة مع المبدعين على الساحة العربية. قد يكون في صميم حياته بوهيميّاً أو عبثيّاً أو تقدّمياً، الا أنّه استثنائي في حلقات أخرى. ومَنْ يطلّع على صفحته الالكترونية يجده يُحلقْ بعديد من الاجنحة. وكلُّ كتاب من كتبه له طرحٌ وايقاعٌ مغايران. وليس بينهما من شبه. ولديّ ثلاثة من كتبه أهدانيها، تنطوي على خزين من الحزن والكوميديا السوداء والنقد الجارح اللاذع، والمشاعر المتضادة. هو في أغلب كتاباته وجداني ووحداني تزحمُ قرارتُه بالسخرية من تصرفات الآخرين، من سلوكيات تجرحُ وتستهين وتقمع الآخر. أظنّه كان يضمرُ مفاجآت كثيرة وينتظر الوقت ليُعلنها جهراً وعلانية.&

وموتُه / كأيّ موت عراقي في جنبات المنافي/ فاجعٌ. كان مثالياً، يتوخّى أن يعود الى أحضان الوطن، وطن الأمان والتوافق ليجول في دروب بغداد، ويحتسي استكانة الشاي في حسن عجمي أو الزهاوي أوالشابندر. ويختلف أيام الجمع الى شارع المتنبي/ حبيب كلّ مثقف بغدادي أو عراقي/ لكنّ مأساة العراق والعراقيين لا تنتهي، فقوى الشرّ لا تريد لعراقنا أن يعود الى أيامه الذهبية. فترمي بكل وسائلها الشيطانية الباطشة ليكون العراق بلد التناحروالخصومات والدم والموت المجاني.&
حين ترك البياتي العراق كانت بغداد وسائر مدننا ترفل بالجمال برغم السلطة القمعية الفاتكة. كنا نتباهى بشارع الرشيد وب/أبو نواس/ والمتنبي والسعدون وسوق السراي وشارع النهر .. واليوم بمَ يتباهى المثقفُ؟ وثمة مدن عراقية كانت عروسات المدائن، وتحوّلت الآن الى ساحات اللطم والنواح والعويل تتلفع بالسواد. ولطالما عاد مثقفون الى الوطن بعد/ التحرير/ فوجدوه غارقاً في السواد والاختلاف وقطع الرقاب والبطالة والذبح على الهوية. أمّا الثقافة ففي خبر كان. وربّما آخرُ ما يفكرّ به سدنةُ الثقافة.... ازدحم صدرُ البياتي بالبكاء، كتم بكاءه سوى الدمع ظلّ يتألق، يغسلُ مآقيه.&&&
ولعلي أعجز في هذا الكلام المقتضب عن أن اقوّم مسيرة وإنجاز هذا المبدع المثابر الذي منح الأخر أفضل مما يحتفظ به لنفسه. فان اردتم أن تعرفوه فعودوا الى كتاباته وكتبه، فكان فيها أصدق من حياته المعيشة. أعرفُ كثيراً من أصدقائه المبدعين لكن اغلبهم ليسوا منضبطين مثله في توظيف مدوناته. عودوا الى صفحته الالكترونية تروا مقدار حرصه على الانضباط الإبداعي. على الاحتفاء بالأدب وبالمبدعين العرب. واذا أختفى البياتي وتوارى عن أعيننا فاننا لما نزلْ نراه بيننا يمرعُ ويُبدع ويمنحنا سنا وهجه. الرحمةُ والمحبة على كينونته وهو في علياء الذاكرة.....&&&
&