فيلم "أمي" Mommy للكندي الشاب ابن 25 عام يحصد جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان مناصفة مع المخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودارد عن فيلمه "وداعا للغة"، فوز فيلم" أمي" للمخرج كزافيية دولان جعل الانظار تتجه اليه رغم ان هذا فيلمه الخامس لكن افلامه السابقة كانت تعرض ضمن فعاليات نظرة ما في مهرجان كان، هذا الفيلم يملك لغة سينمائية اضافة الى قصته الانسانية المؤثرة يتسم الفيلم بحركة الكاميرا الديناميكية و النزعة لخلق اطار صغير مربع الذي يتم استخدامه في التصوير الفوتغرافي يخالف بذلك طبيعة السينما التي تميل الى الاطار المستطيل، هذا الاسلوب الذكي يحسب للمخرج نشعر اننا اكثر قربا من الشخصيات ليس لدينا مساحة كافية للانشغال مثلا بالديكور و التفاصيل الثانوية، المخرج يضعنا امام مواجهة مباشرة و منازلة كاملة مع الشخصيات باستطعاتنا لمس الاحساس بفرحها و تعاستها، اختيار هذا الاطار كان هدفه وضعنا امام حقيقة هذه الشخصيات كونها محاصرة من الداخل بالقلق و الاضطراب يتم كسر هذا الاطار في لحظات الانفراج العاطفي، نحن في هذا الفيلم نعيش احلام صغيرة بعضها ينقلب بسرعة الى كوابيس هذا الجدل بين الواقع و الحلم ـ بين الواقع الخارجي و دواخل النفس الانسانية محاولة لمس الروح اتاحة الفرصة للشخصيات بالهذيان و الصراخ و البكاء و الضحك و الركض و السب و الشتم كل هذه التوليفة نضجت في فيلم واحد يحكي قصة أم تاخذ ابنها الشاب المراهق المصاب باضطراب في الشخصية تجعله في بعض الاحيان عنيفا، ديانا تقوم بالدور الممثلة (ان دورفال) ترعي ابنها ستيف يقوم بالدور (انتوني أوليفييه بيلون) الذي كان في مركز خاص للرعاية بعد ان تسبب في حريق للمدرسته تصطحبه معها الى البيت لنغوص في تفاصيل يومية تتطور احداث الفيلم بدخول تعارف مع كايلا (سوزان كليمنت) التي تسكن بجوارهم ـ كايلا كانت معلمة سابقا تعاني من مشكلة صعوبة الكلام، من خلال العلاقات بين الشخصيات الثلاث نعيش معاني انسانية فهذه الشخصيات تتقارب من بعضها تتكشف امامنا و هي تحلم و تصارع الواقع ترتبط بحبل الصداقة لتكوين اسرة واحدة، هنا نقف امام أم تحاول ان تقوم بوجباتها كأم رغم صعوبة المهمة كون ستيف ليس مجرد ولد عادي ليس مجرد مراهق المشكلة اكبر من ذلك كونه يكون في بعض اللحظات عنيفا من الصعب السيطرة عليه، ديانا امرأة ارملة لكنها متمسكة بكيوننتها كأنثى نلحظها من المشهد الاول بلباسها سروال الجينز المخطط الذي تتمسك به نراها تلبسه كثيرا تظهر به جذابة، الابن يود امتلاك أمه يعاملها كصديقة يراقصها يقترب منها يلامس جسدها لا يقبل بدخول رجل اخر في حياة أمه هي في بعض الاحيان تفقد توازنها تبكي مع تراكم شعورها بالعجز للسيطرة او تعديل سلوك ابنها، كايلا تاتي كمسكن من خلال رعايتها ستيف تاخذ ديانا قسطا من الراحة للذهاب الى عملها في التنظيف و كذلك للرجوع الى ذاتها، كايلا كذلك خط اخر بالنسبة الى ستيف تحاول فهمه في موقف بالفيلم يتحرش بها تصفعه، ستيف يثور في اكثر من مشهد يثور على أمه يسبها بالعاهرة و اقبح الشتائم هي تبكي لعجزها تحس بخلل في حياتها كونها تعيش ظرف مختلف ربما لا تمر به الكثير من الأمهات تضحي من اجل ابنها تود فهمه تنزل الى مستواه لكن مهمتها صعبة جدا٠
يقول المخرج في احدى التصريحات الصحفية انه دائما خائف من الموت و ان خمسة افلام متتالية ارهقته كثيرا فهو لم يشعر كغيره من الشباب بمتعة الحياة، لم يكن شابا عاديا لا يندم على ذلك و ان الشخصيات بداخل افلامه خصوصا هذا الفيلم تحمل الغضب و العنف و القلق بداخله شخصيا، والدته تعمل بوزارة التربية انفصلت عن والده و قضى سنوات عديدة ما بين 7 و 11 سنه اغلبها في المدارس لم تكن علاقته بوالدتها سهلة و انه قضى مرحلة لا باس بها بالسكن الداخلي كان يعود الى البيت يوم الاحد يصف السكن الداخلي بالقبيح و المرعب حيث يعاني الشخص في بعض الاحيان من الوحدة يتمنى الاحساس بعائلته قريبة منه، بعض الاباء و الامهات يتخذون خيارات لحماية انفسهم و مصالحهم الشخصية البحث عن سعادتهم دون النظر الى الابناء، يفسر ان الجيل القديم له همومه و مشاكله خصوصا الذين يعانون من ازمات اقتصادية و مشاكل اسرية كالتفكك و الطلاق هذه كلها تنعكس على الجيل الجديد و قد تكون نتائجها كارثية ان ظلت الفجوة تتسع بين جيل الاباء و جيل الابناء، لعل هذا الفيلم ياتي لمحاولة التفاهم و التواصل عن قرب اتاحة الفرصة لكل طرف ان يظهر عنفه و وقاحته و حزنة الداخلي للوصول الى الرصيف بسلام ان امكن٠

فكرة الفيلم ولدت في ذهن دولان بعد قرائته لمقال يكشف عن قانون امريكي يبيح و يسمح للامهات و الاباء التخلي عن ابنائهم و جعلهم في رعاية الدولة في مراكز الرعاية الاجتماعية او المستشفيات دون تكاليف في حال شعور الاباء و الامهات بالضغوط النفسية و عدم قدرتهم على تحمل مهمة الرعاية، بعض الامهات او الاباء يتخلون عن ابنائهم و يقولون ان ذلك بدافع الحب خصوصا ان كان الابن يعاني من مشاكل نفسية او مصاب بحالة اعاقة، نحن هنا لسنا امام لوم لهذا الطرف او ذاك ان العلاقة بين الابن و الأم من المواضيع الحيوية جدا التي لعبت عليها الكثير من الافلام السينمائية و تظل موضوع دسم به الكثير من الاكتشافات، البعض يتجه الى المنحى الاسطوري ناهلا من اسطورة اوديب ملكا في هذا الفيلم نحس بهذا الخيط في عدة مشاهد يكون ستيف وديعا يعامل أمه كصديقة يسرح شعرها يداعبها يراقصها يكون وقحا في بعض الاحيان سفيها كثير السباب و الشتائم، يفسر المخرج وجود كمية هذه الشتائم بالفيلم انها تراكمت حدثت لديه من خلال سماعه لها بالشارع و في الحافلات و قد تقصد المخرج هذه اللهجة المحلية جدا في كيبيك لم يبحث عن مستوى لغوي عام مفهوم في نظره ان كل لهجة محلية بها من الخيال و الروح الخاصة التي تجعلك قريب اكثر من الشخصيات، للهجة المحلية رنين موسيقي روحي نابع من الشخصيات ذاتها معبر عنها، هنا في قاعات العرض الفرنسية تم وضع الترجمة بالفرنسية اسفل الشاشة لكننا فعلا نحس بصدى الكلمات بغض النظر كانت ناعمة رومانسية او فضة مبتذلة و سافلة٠

&العمل الفني بغض النظر عن شكله سينما او تشكيل او اي نوع اخر ربما يظل خالدا عندما ياتي من الواقع، نحن هنا مع شخصيات ليست مبتكرة من الخيال هي واقعية احسها المخرج و قام بتصويرها على طبيعتها تتعارك و تحلم دون ابهار صوري و استفادة كبيرة من التقنيات الهائلة في مجال الصورة و الصوت، خلق لنا هذا المخرج نماذج انسانية اظنها ستظل كطابع بريدي جميل ملتصقة في اذهاننا و ذاكرة السينما لزمن طويل، الفنان هنا لم يخجل من واقعه و لا من ذاته من هذا العنف الداخلي و الجنون الذي يشعر به جعل الفيلم مساحة للبوح، نحن لسنا امام فيلم عظيم كامل الاوصاف الفنية بقدر ما نحن مع فيلم رائع خلق هذا الكائن خصوصا شخصية ستيف من خلال مجموعة ومضات واقعية عارية من الزخرفة و المبالغة كان دولان شجاعا لهذه المغامرة من خلال الشخصيات الثلاث التي تتسم بالضحك و الرغبة للحياة، هذا المراهق الجامح الصعب و هذه الام التي تتمسك بعنصر الأمومة و قيمتها الروحية و قداستها نشعرها أم صغيره بحاجة للتمتع بحياتها الخاصة ايضا نتعاطف معها ثم دخول هذه الجارة اللغز، كل هذا خلق لوحة ميلودرامية غنية بالهذيان هنا العائلة و القانون الوهمي الذي يزعم انه سيحيل حياة الناس الى سعداء لكن المخرج يطلق لشخصياته العنان تركض محاولة الحصول على قدر من السعادة الحقيقية، يرى المخرج كزافيية دولان "ان الابتكار الدائم يكون على جانب و حافة الحياة" اي النظرة للناس البسطاء من وسط المجتمع، الاحداث التي نراها عادية الشخيات تجلس في المطبخ تذهب للتسوق او في نزهة نجدها على المائدة او بالحديقة تصور لحظات الفرح ثم تزج بنا في بئورة هستيريا و جنون عنيف ، لعل من اهم العناصر كذلك خدمت الفيلم و ساعدت المخرج هي هذه الشخصيات المشرقة الاداء التمثيلي لم يكن مجرد اداء جاف كان يحمل روح مضيئة تزخر بكثافة طبيعية تشدك اليها تمسكك لتظل معها بكيانك و احساسك، نحن كذلك مع مخرج شاب يلمع نجمه في سماء السينما العالمية يتيح لنا هنا في هذا الفيلم بوجه خاص حضور تجربة تحتمل الذهاب في كل اتجاهات لا تقف في وجهها حدود، هنا نحن نسكتشف مثلا ستيف الطافح بالجنون الذي لا يريد ان يكون حبيس في مركز اجتماعي و هو غير قادر كذلك ان يظل مجرد شخص عادي طبيعي في مجتمع، ينادي امه لاخراجه من المكان المغلق نحن امام معادلة صعبة و قاسية و غير عادلة نتعاطف مع ستيف ام نلومه بسبب سلوكه المضطرب، تظل في الفيلم شخصية كايلا لم نكتشفها بشكل كامل هناك نوع من السرية و الغموض تظل تغطي هذه الشخصية المثخنة بندبات الالم المدفون٠
في الاخير نختم هذه الوقفة مع فيلم مدهش ينتصر للواقع يبحر في العمق يبحث في هذه المعادلات الصعبة قد لا نحس بكبر حجم هذه القضايا نحن في الشرق و خصوصا في العالم العربي كون الكثير من القيم و تماسك الاسرة، لكننا كغيرنا من المجتمعات نمر اليوم بمتغييرات حضارية و اجتماعية اصببحت تتراجع فيها بعض القيم و تعصف بالاسرة الكثير من المشاكل مما يؤدي الى تفككها بعض الاحيان و لعل استمرار هذه المتغييرات بسبب زيادة الفقر و ذوبان الطبقة المتوسطة قد يعرضنا لكارثة كهذه الكوارث التي يعرضها لنا هذا الفيلم

سينمائي يمني مقيم في فرنسا
[email protected]
&