إن قراءة نقدية تنطلق من فكرة اقتناص المعنى، من شأنها أن تضيء النصوص الشعرية عبر ضوء آخر مختلف عن تلك المداخل النقدية التي تعتمد على قراءة النص بأسلوب مستعاد أو تقليدي، من هنا يمنحنا كتاب الشاعر عبد القادر الجنابي الجديد الصادر عن دار جداول ـ بيروت 2014 بعنوان:(أنسي الحاج من قصيدة النثر إلى شقائق النثر/مختارات من أشعاره وخواتمه) فرصة جديدة أخرى لتعزيز معنى القراءة المتصلة بمنعطفات التأويل المعرفي أو التفسير الجمالي والوقوف أمام مرجعية النص الشعري المغاير والتأمل في شفراته اللغوية.
على الرغم من الشكل الأكاديمي في بلورة الاتساع الدلالي لمصطلح النقد قد عرف طريقه عبر أكثر من ناقد إلا أن القارئ لا يسعه عدم التوقف أمام المساهمة النقدية التي قدمها الشاعر عبد القادر الجنابي في كتابه الجديد عن الشاعر الراحل (أنسي الحاج 1937 ـ 2014) حتى إن لازمه السكوت عن إسهامات نقدية كثيرة، هنا وهناك، تقترب من الشكل النقدي المدرسي. لقد أدرك الجنابي أن كل الرؤى الجمالية التي جاءت في إثر أنسي الحاج أنما أرادت من النقد ما يشبه المبادئ العامة التقليدية للحكم والمعايرة، أي أنها فهمت النقد بوصفه أداة تتيح للعقل أن يقيس على أساس منها قيمة النص وحسب لا قيمة الأفكار المغامرة والمعنى وشفرات اللغة المغايرة، والنقلة النقدية التي أحدثها الجنابي في كتابه كمنت في تحويل النقد من الناقد المتخصص إلى الشاعر الناقد، وهذا ما يحصل نادراً، وفي تحويل النقد، أيضاً، من نظام تقليدي ينظر في الشكل الشعري إلى نظام ينظر في قراءة المعرفة الشعرية وجماليتها وحدودها اللامتناهية.
التعليق النقدي المتصل بنصوص الشاعر أنسي الحاج وكتاباته المتنوعة في هذا الكتاب لا تتكرس إلا في ما يكرسه النص الشعري أو الكتابة نفسها، أن هذا هو ما سعى إليه الجنابي كما يبدو لقراءتنا، فقد قلب أطراف المعادلة النقدية التي كانت ملامحها آخذة في التعميق حول علاقة الشاعر بالنقد المتصل بشاعر آخر، معاصر له، لقد استدعى الجنابي، أيضاً، أسلوباً أو شكلاً نقدياً جديداً كي يأخذ مكانه في مصاف الكتابة النقدية المتصلة مع شاعر وآخر.
لم يُعن الجنابي كثيراً بالإشارات الفنية العابرة في نصوص أنسي الحاج بل بالإشارات والالتقاطات، الاختيارات والملاحظات المعرفية المتصلة بماهية اللغة وبحركية التأمل الشعري وبروح المغامرة الفكرية الموازية لروح النص الشعري وتجلياته، من هنا تبدو فهرسة الكتاب متأثرة بتراتبية فنية لا تخلو من مدلول فكري يستوعب مختلف كتابات أنسي الحاج وتجاربه الحياتية والجمالية: (1ـ عندما قال الشعر للجميع: لن/2ـ خواتم: الشوط الثاني من التجربة/3ـ كنز الكنوز لصامد من أجلي: أربعون قصيدة/4ـ كل بداية جوهر: الشقائق المائة والخمسون/5ـ ملحق: كتابة الليل). ولا يمكن لهذه الفهرسة، المتسلسلة معرفياً، إلا أن تتماهى، إلى حد كبير، مع القارئ النقدي وتتنوع، جمالياً، إلى ما لا نهاية، ولأن طبيعة الكتابات والموضوعات أو الالتقاطات النقدية منبثقة من مسارات نقدية وفية لتجربة الشاعر أنسي الحاج. لقد أراد الجنابي، في كتابه، أن يعيد كتابة تأريخ التجربة الشعرية في تطوراتها وتمردها وانعكاساتها الجمالية تحت مظلة النقد المعرفي، إذ كتب الجنابي: (لأن تجربة أنسي الحاج تتميز بــ خضّة تمرّد صحيّة).
لقد أستوعب الجنابي مختلف الظواهر الفنية الموازية للغة أنسي الحاج، في إطار كلية أكبر هي التجربة الشعرية، كما أسلفت، وينبغي هنا أن نميز بين النقد المعرفي الذي يقدمه الجنابي والنقد الأكاديمي الذي يعني مجموعة من الأساليب التقليدية الموازية للكثير من المناهج الشائعة والقائمة في العقل النقدي العقائدي. من هنا تحاول هذه القراءة في لغة أنسي الحاج أو الفاظه وتجربته الانتقال من العام إلى الخاص، ومن العرضي إلى الجوهري، لنكشف عن طبيعة النص وارتباطاته اللغوية الفنية المغايرة، لنقرأ ما كتبه الجنابي بهذا الخصوص: (تراكيب شعر الحاج وصوره وليدتا صراع اللغة العربية مع نفسها كتعبير وكموئل صورٍ) وأيضاً: (يبقى أن أنسي قد وسع القول الشعري باستخدام الفاظ تبدو لمجمل شعراء حقبته الحديثين فاحشة ونابية بينما أثبتت أنها أشبه بمصل يزيد من الطاقة الشعرية للقصيدة).
النقد الذي تقترحه صيغة الكتاب يتجاوز الشرط النقدي القسري، لأنه لا يبحث في الشروط النقدية والمنهجية بل بحثه عن شروط النص الجمالي التي يقترحها النص الذي يكتبه أنسي الحاج، وهو نص ينصرف إلى شكل فني ولغوي يتحرك باستمرار ويتجدد مثلما يقيم حركة لغوية انقلابية مفاجئة بمجرد عثورها على توترات لغوية أخرى تهز انتظام الدلالة التي بدا أن النص لا يسير في طريقها إلى النهاية بل يبقى متواصلاً مع المعنى، وهو بهذا الوصف نص يتغير ولا يقبل السكون، خصوصاً وهو ينطلق من قلب اللغة الشعرية المستوعبة لكل أنواع التغيير الفني، وهذا التفسير الموازي للقراءة يجعلنا نتفق مع ما قاله الجنابي: (يقوم شعر أنسي على كسر البنية الكلاسيكية لمسار الجملة العربية وتركيبتها البلاغية، فاتحاً تنسيقاً جديداً للكلمات من حيث تتابعها النحوي).
ينطلق الكتاب من حقيقة أنسي الحاج الشعرية، وأعني هويته المتفردة التي لا تتحدد عبر لغة مستعادة بل عبر تعددية شعرية في مكونات النص الشعري ـ النثري النابعة من مرجعيته المعرفية وتسريبات مخيلته الجامحة وطبيعة موضوعاته المغايرة، وبمثل هذه الإشارات يكتب الجنابي: (ليس ثمة قصيدة واحدة تعبر عن أي قضية/ليس ثمة قصيدة واحدة فيها صدى لما يجري من أحداث اجتماعية سياسية/شعر أنسي الحاج هو هو وليس عن) وأيضاً (فهو يعتمد أساساً في كل أعماله على كلمات الكلام وليس على كلمات الكتابة) وبمثل هذه الإشارات، أيضاً، يشرع أنسي الحاج في الكتابة عن الحياة والمعنى والجمال. وفي هذا الضوء بالإمكان القول إن شعر أنسي الحاج ينخرط في سياق التعامل اللفظي المغاير، أو التواطئ اللغوي المغاير أيضاً، وفي سياق الخروج من القيد النحوي إلى فضاء الحرية اللغوية الموازية لرصانة المعنى اللغوي والفني، وقد بدأت هذه الحالة منذ كتابه الشعري الأول المختلف والمسبوق ببيان شعري ولغوي مغاير، وهنا لا بدّ لهذه الإشارة الواردة في كتاب الجنابي: (أن ـ لن ـ جاء بشيء جديد كلياً ألا وهو تحرير الكلمة دون الوقوع في لفظية فارغة).
يشير الجنابي إلى عبارة لاندريه بريتون: (ليس من حلّ خارج الحب) وعليه نضيف: لن تكون قراءة نصوص أنسي عن الحب سوى حالة نموج وعينة تفسير للإفضاء إلى موضوع الحب بكل تجلياته وجنباته وإشاراته المتصلة بالمرأة، وانتقال الحب من الشروط أو الأغراض الشعرية التداولية المعروفة، من هنا تتم عملية الاستئصال اللغوي للكثير من النصوص المثقلة بالعبارات والالفاظ الرومانسية الساكنة، وبغض النظر عن منشأ اللفظة الساكنة وظروف سك العبارة وكتابتها إلا أن أنسي الحاج في نصوصه عن الحب يخرج اللفظة من شكلها العام إلى جوهرها الجمالي، فيكتب الجنابي إشاراته النقدية التي تندرج ضمن هذا السياق الموازي للمعنى: (شاعر الحب بامتياز حيث المرأة جوهر كوني وليست موضوع غزليات مكبوتة) وأيضاً (أنقذ شعر الحب، في العربية، من الرومانسيات والمجونات معاً ليضعه في مقامه الحقيقي، الإيروسية المتسامية) ولعل التأمل، في نصوص الحب، وحده كفيل بإظهار تلك الزاوية اللغوية المقابلة للمعنى الفاصل والمتصل بين الذات والآخر من جهة وبين الإيجاز اللغوي الذي ينقل النص من شكله المقروء إلى المحسوس وهذا ما لمسه الجنابي في قراءته النقدية فكتب: (قصيدة الحاج نثر فَقَريٌّ حيث السطر بمفهوميه حاضر: ظاهره تجريد مكثف وباطنه سرد طويل) وكذلك (نقل القصيدة من نطاق الدمدمة في الأذن إلى صور تسمعها العين) أو قوله: (الحاج، اللاعب في شعاع اللاغرضيّة غالباً ما يُقفل الجملة بإحكام متوتر وإيجاز).
كان أنسي الحاج قد كتب في قصيدة الحب والذئب: (في ينابيع الألفاظ لي كمائن الألفاظ) شكلاً يتناسب مع قراءة الجنابي، وقد يبدو، بالنظر إلى اختيارات الألفاظ، أن خيارات الشاعر أنسي الحاج شديدة التقاطبات الدلالية، وأنها، في الكثير من الأحيان، تكرر استجابات القارئ حول طبيعة الإيجاز اللفظي أو التحويل اللفظي المتصل بالجملة الشعرية، من هذه النقطة، قد يبدو استدعاء الجنابي جمالياً لبلورة كلمة (شقائق) التي تفسح المجال للقارئ للإضافة المتصلة بجمالية اللفظة الشعرية، كما تفسح لهذا كله علاقة لغوية موجزة باتساع معنى اللفظة ومرونتها الفكرية والشعرية، وفي هذا الإطار أيضاً ثمة محاولة جمالية لانتاج تقنية لغوية معرفية جديدة وليس مجرد كشف شيء متصل بالإيجاز وقد لاحظ الجنابي ذلك، لنتأمل بعض من إشاراته بصدد الإيجاز: (شقائق ـ خواتم ـ ليست موجزة وإنما وجيزة وليست قصيرة وإنما مقتضبة) (لا إغراق في القول ولا التواءات في الطرح) (يتميز الإيجاز في خواتم بتلقائية تمنح فرصة للروح لصوغ فكرة أوسع مما للتعبير).
الضوء الآخر الذي يسلطه الجنابي على نصوص أنسي الحاج الشعرية وخواتمه، ينبعث من الاختيارات المتماهية مع التطابق الجمالي بين بذرته الأولى (لن) وبين لغته أو ثماره الشعرية القابلة للتجدد والتجديد والتكاثر، وقد جاءت هذه الاختيارات موازية لرؤية الجنابي الجمالية: (تفادياً للنظرة الكلاسيكية الرتيبة لم أتبع في مختاراتي الترتيب الزمني وإنما أردت أن أضع لها تريباً جديداً يعطيها بعداً حيوياً يجعلها كأنها كتبت اليوم) وهي من مجمل أعماله: (لن ـ 1960/الرأس المقطوع ـ 1963/ماضي الأيام الآتية ـ 1965/ماذا صنعت بالذهب ماذا صنعت بالوردة ـ 1970/الوليمة ـ 1995/ ويقول الجنابي في هذا الصدد أيضاً: (لم أختر أي مقطع من الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع ـ 1975 فهذه ملحمة غنوصية مترابطة بإيقاع متدفق بحيث أي اجتزاء يُحدث خللاً فيه، أما قصيدة ـ آخر كتاب ـ فهي لم تنشر في كتاب وإنما نشرت مع 3 قصائد أخرى في العدد الثاني من مجلة الرغبة الإباحية/سلسلة جديدة/باريس 1981).
ثمة لمسة جمالية إضافية وتحويل فني يرتد إلى صورة إدراكية نقدية أخرى للجزء الذي أسماه الجنابي: (الشقائق المائة والخمسون) وهنا يسهل على القارئ استخلاص الكثير من الشذرات والعبارات والجمل الشعرية (والكتابة المتشظية بين جمل قصيرة ومقاطع طويلة بعض الشيء، حسب تعبير الجنابي) وهنا لم يشذ أسلوب القراءة (لهذه الشقائق النثرية حسب تسمية الجنابي لها) عن الاندراج داخل دائرة التفسير الجمالي الذي ينعتق بدوره من أسر الكتابة القائمة على الدوران اللغوي اللامجدي، حيث يتلاشى المعنى مع مستوى الدلالة ويتساوى النقيض على مستوى التركيب اللغوي واجتيازاً لتقلدية الالفاظ وطبيعة كتابتها عند البعض من الشعراء وصولاً إلى ارتطام الجملة بالفكرة الشعرية المتمادية مع غياب المعنى.
في هذه (الشقائق 150) يتشكل التجديد الشعري ـ النثري في عالم الممكنات اللفظية المغايرة التي يحددها أنسي الحاج بالشكل الجمالي المبتكر الذي يميل إلى تدعيم اللغة الشعرية النثرية بما يكفل لها التداخل والتخارج المستمر مع البنية اللغوية للنص المكتوب الذي يُبقي بدوره على جذوة الاختراق المستمر للغة، لنقرأ بعض من هذه الشقائق النثرية التي أخذت، حسب ترتيب الشاعر عبدالقادر الجنابي، من: (خواتم: من ص1 إلى ص56/الجزء الأول) (خواتم: من ص57 إلى ص89/الجزء الثاني) (من 90 إلى 150 أخذت مما يُنشر أسبوعياً في جريدة الأخبار اللبنانية تحت عنوان خواتم 3 والتي كان يضطر إلى حصرها في باب عابرات حسب ما ذكره الجنابي) لنقرأ بعض هذه المختارات من أشعاره وخواتمه: (النوم مع الخيال أحلى من النوم مع الذاكرة) (اليد أعمق من الفم) (كلما ازدادت حريتهم خف وزنهم) (التعبير خبرة ناقصة) (هناك أيضاً عبقريةُ قراءةٍ، لا تنّسَ) (أسرق كل نفسك في كلمتك) (الكلام اثبات الغياب) (كل عبارة خيانة) (بالسمع نرى) (الحقيقة عنصرية) (سأسكت وأنا أموت لكن وجهي سيظل يسأل: لماذا؟) (يذوبون من رقّة الكذب) (ثمة غربة أكثر أمومة) (ينكر وجود الله لا كفراً بل ليحميه من مشهد الخليقة في فظائعها وعذاباتها، بعض الالحاد غيرةُ على الله) (نحن أرواح غيرنا).
يكتب أنسي الحاج عن الليل: (حان للثعلب العاشق: إلى متى ينزل الليل على الليل كّل ليلة/ولا يطلع الليل ليلة من قلبي) من هنا ينطلق تناول الجنابي، للقسم الأخير من الكتاب والمعنون: (ملحق: كتابة الليل) لموضوعة الليل كاستعارة رمزية قبل كل شيء إلى إشارة جمالية تقترح شكلاً شعرياً مركباً منذ البداية، ذلك أن موضوعة إعادة استعادة الليل بهذه الكيفية ليست إشارة عابرة تتم بمعزل عن الكتابة وتشظياتها بل هي تحويل ذاتي مستقل وحميم لا تتدخل في تشكلاته التفاصيل العابرة بل هي شكل آخر لبنية لغوية لا تكف عن البحث في سيرورة الكون كما لا يمكن حصرها في بنية السياقات اللغوية التي تتحكم بعلاقات المعنى والاستعارة والتورية والمجاز، ولعل مما يعين القارئ على قراءة هذا الجزء المتصل بالليل هو أن يجري الاستضاءة ببعض الإشارات النقدية التي يمكن الاستعانة بها في شق الطرقات التي تؤدي للمعنى وهي طرقات تمثلها، كما يبدو للقراءة، عبارات أنسي الحاج: (يا ليل.. يا ليل أحمل صلاتي) إضافة إلى التفسير النقدي الذي اشار إليه الجنابي: (من الخطأ اعتبار أنسي شاعر الليل فهو لا يصف ابداً الليل، لا يستحضره كمشهد وإنما كرقيةٍ) ومع هذا يمكننا القول أيضاً بعد قراءتنا لهذه العبارات الشعرية: (الساعة هي الليل بعد الليل والنصف) أن جوهر المعنى المتماهي مع الليل لا يريد أن يجعلنا نخلط بين موضوع الليل والموضوع الشعري أو بخلع الليل عن صفاته المعروفة في ظروف الكتابة وهذا ما اورده الجنابي أيضاً في هذه الإشارة النقدية: (العمل الكتابي كحركة ذهنية تستيقظ فيها كل الحواس لا يبدأ عند أنسي إلا في الليل).

&