أنا معتاد على الصراخ المدوي لبياناتهم الممجوجة وخطبهم ووعودهم العاقرة.
والاستماع إلى أصداء الارج القديم لمآسي الماضي الذي ينبعث مثل هذيانات محمومة كل يوم.
والمطاردة المستمرة لبعضهم البعض بسطوة وبغض منذ الازل منذ خراب بابل وانطفاء النجم الاخير وموت الملك بالاستئذاب بفعل الكرسي المسحور.
كيف تحملت كل هذا..؟ وتخلصت من الاقبية المظلمة ولن تصبح جثة مجهولة يهاجمها الغبار والذباب وتحاصرها وجوه الغرباء في ازقة المدينة المدورة المشحونة بالبدو والقرويين والسراق والقوادين والعرافين والعسكر والقحاب من كل الصنوف،
&كيف تحملت الاسئلة المذهلة والمدببة ومشقة الصمت وتحمل الانتظار.
كيف طاردت فراشات التمنيات الملونة في الحلم دون هوادة؟
&في السرير وحيدا والليل اكثرا امعانا في الوحدة في ارض الجذور والاسلاف او في يباب المنافي الموحشة
الضوء الأزرق في الشوارع العتيقة بهذا الشتاء السرمدي.
&كيف اعتدت الرحيل صوب البحار المتجمدة وجبال الجليد على حين غرة تاركا اخوانك كهنة الهة الشمس يحتضنون الفرات، يكابدون جمع القرابين للحاكم جهنم وحروبه باسم الرب؟&

****
لاذاكرة للثلوج ولا مزاريب للريح ولاوجه للبحيرات الرائقة التي تهاجمها النوارس بعنف
كيف اضرمت نيران زرادشت وفتحت ابواب جهنم؟
&احترقت الذكريات واستحالت الى رماد ونثرتها القوى المقدسة في كل مكان وطاته قدماك.
&أنا معتاد على الظلام وطلق المخاضات في الاماكن الغريبة والارصفة المترعة ببول السكارى والنفايات البشرية والمحطات الغادرة الموحشة التي تحتضن المجانين والمشردين عند المساء. رقم في عداد الارقام بهذا العالم الساخط على نفسه حد الجنون والبذخ، عالم مخبول ومختل بكل شيء .
&اخذت على عاتقي ان امد سلم الجنون للاعلى واتسلق.. اتسلق حتى الرمق الاخير
أمتطي الغيوم البعيدة لاقتطاف "نجمة سهيل"، اسير باليل طويل بخطوات عاقرة وحيدا واعزل، حنى الفجر الى ان يتعالى آذان الله الرائق ويملءالسماء. حتى الصباح الباكر وصوت فيروز السماوي "أنا عندي حنين..."
منذ اتحاد الرغبة المتوحشة والسلطة البلهاء في اعماق هذا العالم المتشب بالتاريخ السخيف الذي يعيد نفسه ويحمل الاحرار اعباء لاتطاق باثر رجعي... اتخذت قراري بامتطاء الغيوم وعبور البحار .
منذ سقوط المطر والشهب التي لا تعنيني، والنجوم الكاذبة التي رتقوها على الاكتاف فظنوا انها تشع فاطلقوا كذبتهم وصدقوها وأمتلات روسهم ملقا حد الانفجار.
منذ الانتزاع من الغرق الرحيم في المشيمة المقدسة، منذ ان تخلصت من التفاف الحبل السري الذي كاد ان يخنقني.
الاشجار تتخلى عن اوراقها دون ضجر والارحام تلفظ حملها عاري ليس هناك مخلوق يخرج من الظلمات الى النور مرتديا حذاء اوتاج ومهما لبث سيعود للظلمات دون حذاء او تاج
هو انعتاق المصير عن السرب او القطيع آجلا ام عاجلا.. لامفر
شهوات تتمطى دون خجل وحواس تتثاءب وتتململ بشدة وعنفوان تتمرغ على ارض الفجيعة او تطير في سماء التامل والانتظار.
تسحقها مخالب وحشية، وتقلعها الاسلحة الفتاكة للعالم المتحضر جدا من الوجود دون ذنب او وجه حق او تفويض من احد
لا احد يحدث الرب عنا
ولا احد يبعث رسالة تضامن لنا
ولا احد يواسينا او يهاتفنا
ولا احد ياتي الينا للمساعدة

&****
منذ ان وزع الزنوج اقمارهم على الغرباء والبرابرة، فكسروها حجرا حجرا، وخربت البلاد للابد . ملاؤا الخونة والجواسيس أيديهم بالمغانم والاسلاب . اصبحوا لعنات لامرد لها ولاتهزمها اقوى التعويذات ولا ادعية الامهات ولا افواه الاطفال الفاغرة جوعا ولا بكاء الثثكالى.
اقتلعوا اشجار الحناء وزهقوا ارواح شجر السدر العتيدة وماتت النخيل واقفة مقطوعة الرؤوس ولازال الزنوج يكسحون سباخ الملح ويلعقون جراحهم ببكاء مر، ويضحكون من صبر أيوب. يحلمون بعثوق الماضي المتبرزل عسلا في مخيلتهم السرية يمارسون الاستمناء، يتناسلون مثل القطط يتخبطون في سواقي النفط الاسن الذي ملأت رائحته العطنه البلاد ونشر مواعين الطاعون والسرطان بدل سلال الرطب والبمبر والنبق. خربوا شذاذ الافاق والخصيان الشناشيل والدرابزين واناخوها على الارض دون رحمة وحطموها بحقد ومجون.
تذكر لامفر ... لامفر
لكن تذكر..
كيف عبرت كل هذه الجغرافيا اللامكنونة ؟؟
وهذه البحيرات المتجلدة ومدن الثلج والرخام حيث النساء اللاتي خلقن من عسل وكرستال بعيون زرقاء لازوردية صافية عميقة تستطيع ان ترى تجلياتك عبرها بوضوح دون اي غبش، تستفز مجساتك الذاوية من الخوف والتحريم الاجوف.
ان الانبياء ما عادوا يعيشون مع البشر، والملائكة اللامرئين صنو الاموات في مدامك القبور بانتظار
يوم الحشر البري المريع الذي سيتبين فيه الخيط الابيض من الخيط الاسود قد يطول، او بلمح البصر
لكن تذكر.. لامفر..
كل ما يكفي المرء لحظة صفاء لاتنخسها احقاد اوطمع او كذب او خوف مهما كان شكله ولونه
لحظة لاتثقل الوجود بحجم قطرة ماء في محيط الحياة كفيلة ان تكون ابدية لا متناهية..
&
&****

لكن تذكر.. تذكر&
العصفور يغني كل يوم للجميع دون تملق او مصلحة بلاكلل او تقاعس، الوردة للامير والعاشق والفقير وعابر السبيل على القبر اوفي يد عروس تشيع عطرها لكل المخلوقات، والنجمة رغم خداعها تلمع في عيون احقر المخلوقات نذالة وفي عيون البحارة ومن اشتد بهم السهاد وعابري الصحراء اللامتناهية الاسرار.
فكن عصفور او وردة اونجمة. ضوء النهار او ضوء شمعة في هزيع الليل او اغنية تتدثر بها روحك العارية من برد الغربة والوحدة
ايها الفتى العالق في تخوم الروح وطين الارض
ايها الماثل مثل خيوط الملح على حيطان سومر العتيقة
انك مثل نهر لايدري اين يرحل ومتى يتوقف ويجف … هل تعلم باي ارض تموت؟
انك جرة نبيذ ملفوفة بليف النخل مدفونه منذ فجر السلالات لا تتعفن، ختم سومري لايمحى، تمثال اكدي لايبلى.
انظر الى ضفاف الروح بسلام واستلقي على عشب احلامك الهيولية بسكينة، قرص وجه حبيبتك السمراء يكفيك ويقيك من الجوع والعطش. ضحك الاطفال يشفيك من المرض ويطرد دود الذاكرة وينقي الروح ويحيي الامل الرميم.

****
لكن تذكر..
&مدامة استكان الشاي اللذيذ في "مقهى عابد"* بشارع اللاتوازن الذي ما زال يموج بالابكار والثيب كل مساء ترجمهم سهام النظرات المحرومة من كل صوب، تذكر طعم صبير القهوة المرة في " مقهى الشيوعيين" احفاد "ابا ذر"، لمة الاصدقاء في مقاهي الارصفة وطقوسها الرتيبة، بعثرهم المجهول والحروب واكلهم الحصار بضراوة، واثقلتهم حكمة الشيخوخة المبكرة والوهم الرحيم، ونثروا على اصقاع الارض، رمموا اجنحتهم وتبؤا الريح متورطين في اصطياد لحظة فرح كلما اقتربوا منها هربت الى حيث لا مستقر.. لا مستقر..&

&
&[email protected]
&