لم يجانب الصواب جان بول سارتر حين قال يوما ان المثقف والكاتب الحقيقي قد خُلِق معارضا لايعرف مهادنة الدكتاتورية ولايأنس مغازلة الحكام الذين أساؤوا لشعوبهم والعسكريتاريا التي تمقت الحرية والمدنية ، فما قاله خورخي لويس بورخيس " 1899—1986 " بان مخبرا سريا خاصا كان يتبعه ايام حكم " بايرون " وبأن مجلة " كابيلدو " قد شمرت عن سواعد كتّابها للنيل منه في احد اعدادها وقد خصصته حصريا لهجائه وشتمه عيانا ثم طرده من إدارة مكتبة بوينس آيرس إثر موقفٍ سياسيٍّ هشٍّ لينقل بعدها الى حضائر لتربية الدواجن وتسمين الارانب في سوق العاصمة الارجنتينية ؛ كل ذلك لم يشفع له مواقفه البذيئة تجاه شعوب اميركا اللاتينية التي مافتئت سنوات القرن الماضي تواصل كفاحها ضد الكولونيالية وذيولها من عتاة الدكتاتوريين
مازلت اتذكر حوارا جرى بين الكاتب الكبير" غاليانو " (1) مبدع رواية " شرايين اميركا اللاتينية المفتوحة " وبين " سكوت شيرمان " الصحفي الشهير في مجلة " أتلانتك أون لاين " في اكتوبر من العام /2000 " قال غاليانو مانصّه : " ان بورخيس لم يشغل اية مكانة في اعماقي ابدا ولا اشعر بتلك الجاذبية في اعماله ليس لانها تفتقد الى الابداع والابتكار ، بل على العكس فانا اقدّر كثيرا اسلوبه وكونه رجلا حاذقا وهو مثقف كبير بلا شك ، لكني اراه محض رأسٍ ولاشيء غير هذا الرأس فهو لايمتلك قلبا دافقا ولاجنسا إنسانيا ولا معدة جائعة تشعر بفاقة الاخرين ، نعم يحوز رأسا لامعا في غاية الذكاء ليس الاّ ، اراه من اصحاب النخب الغارقة في انعزالها عن الشريحة المسحوقة ، نكوصيا وعنصريا يعتاش على حنينه الدائم للدكتاتورية والعسكريتاريا المعادية لشعوبها والمتسلطة على مقدرات الملأ العريض وكم أمقت تعلّقه الدائم بالجنرال " فيديلا " حاكم الاجنتين الاسبق والجنرال " بينوشيت " قائد الانقلاب القذر على سلفادور اليندي وتنصيب نفسه رئيسا موتورا حاقدا على الشعب التشيلي ، فما جدوى ان يكون بورخيس مجرد عقلٍ مثقف قابع في مكتبة "
وشبيها بهذا القذع ماقاله الاديب الارجنتيني " رامون دول " محرر مجلة آداب الارجنتينية حينما نعته بانه موتٌ فوق الموت وقذارة مابعدها قذارة ، اما صديقه الاخر " اندرسون إمبرت " فقد شتمه وعابه بشدة في عدد مجلة الطليعة التي كان يصدرها اذ خصص عددا خاصا لما سمّاه " العاقّ " الذي يدير وجهه عن آلام بني جلدته ولايعبأ بأوجاع مواطنيه وخصوصا المتعبين الرازحين تحت اقدام الفقر والعنت والإذلال والتعسّف والمخنوقين بأغلال الدكتاتورية
فما الجدوى من شاعر وكاتب مرموق واسع الافق مهما جنح خياله عاليا وابتكر أعمق المعاني وتغلغل في أزقّة الروح وبواديها وصحاريها وحدائقها الغنّاء وهام في مخارج ومداخل الطبيعة البشرية الشاسعة اذا لم يلامس أخاه ويربت على كتف المحزونين ويمسّد رأس الاطفال تدلّلا وتحبّبا .
أين منه نضالات كبار كتّاب وشعراء اميركا اللاتينية وكفاحهم البطولي الذين توسدوا صخور البراري وافترشوا عشب الغابات وكان فِراشا يرونه وثيرا مادام كفاحهم صار من الطقوس المقدسة ، أين منه مواقف الشاعر الاممي الكبير بابلو نيرودا وقصص ماركيز الهائلة السموّ وسخريته من جنرالات العهر والدسائس والقهر ؟؟!
لاخلاف في القيمة الابداعية الخالصة الذي تميّز بها بورخيس في جلّ اعماله لكن ثمة فرق كبير وكبير جدا بين من يناصر جلاّدا كريها مثل " الجنرال فرانكو " وبين من يقف في صفوف معارضيه ويقاتل ويندد بالدكتاتورية وربما يموت شهيدا وهو يواجه الفرانكوية الفاشية ، أليس من الشرف والنبل ان يتم دعم الحق في الحرية والخلاص حتى لو تزعمها -- ثوار مراهقون صغار-- كما كان يبرر بورخيس نفسه عندما يسمّي هؤلاء ذريعةً منه للتخلص من مسؤولية الوقوف معهم في مواجهة التصلب الدكتاتوري مع ان ثورة الشعب التشيلي لم تكن تهريجا ثوريا مطلقا وانما فوز ساحق حققه اليسار للإطاحة بالأنظمة العسكريتارية الحاكمة عنوة وقتذاك ، وكذا الحال في موقفه المناوئ للعرب حين وقف على الدوام الى جانب اسرائيل ووقوفه الى جانب الصهيونية والعنصرية ونسي انه بنى خيرة اعماله من الثقافة العربية ونهل من التراث والعقل العربي ماضيه وحاضره كل ماهو جليل وسامٍ ليكتب نصوصه الشعرية وهي محلاة ومطعمة بما هو زاهٍ وجميل في فكرنا العربي والإسلامي فقد تأثر بألف ليلة وليلة أيما تأثير وكذا كان ولعه الذي لاينضب بالصوفية العربية الاسلامية واهتمامه بالانغماس الروحي الى حدّ الذوبان في سعير الصوفية وتمثله الدائم بشعر الحلاّج ورؤى النفّري وقصائد ابن الفارض ومحي الدين بن عربي وغيرهم
لكنه من جانب آخر انتصر لعنصريي إسرائيل وحلّق عاليا بفرحه وكأنه طار من البهجة التي اعترته فور ان سمع بهزيمة العرب في معركة الخامس من حزيران عام /1967 في حرب الأيام الستة حتى انه نعتَ اسرائيل ب " الامة الفتيّة " وبعدها بسنتين وتحديدا في العام / 1969 كتب قصيدة أهداها علانية الى اسرائيل ، لنذكر مقاطع منها :
أخشى على إسرائيل من حنيني
حنيني المتربص بعذوبة ماكرة
الذي تراكم مثل كنزٍ حزين منذ قرون التفرق والشتات
في مدن الجحيم وفي الاحياء اليهودية
في تخوم السهوب وفي الاحلام العريضة
حنين هؤلاء الذين يتشوقون اليك ياقدس
انتِ التي بجانب مياه بابل
ايّ شيء كنت سوى هذا الحنين يااسرائيل
لااقول غير الرغبة في النجاة من انقلابات الزمن
غير الكتاب القديم المذهل
وصلواتك وعزلتك مع الاله
وليس الامر بهذا الشكل الذي نراه
فأعرق الامم هي اكثرها فتوةً
والتي لم تسحرها اسماء جنان الخلد
ولا شهوة الذهب وملل اكتنازهِ
كنتِ وطنا ، وطنا اخيرا مصرّا ان يبزغ
هكذا قالت اسرائيل دون ان تنبس بكلمة
سوف تنسين من تكونين
سوف تنسين الوجه الاخر الذي تركتِهِ
يوم كنتِ في البلاد حين منحتْك الاماسي والاصبوحات
مقبلاً زاهرا بالبقاء والخلود
وفي العام /1971 كرّمت اسرائيل بورخيس بمنحه جائزة القدس وهي اعلى جائزة ادبية تمنحها الدولة العبرية لهذا الاديب المولع بالتراث اليهودي قدر ولعه بالتراث العربي الاسلامي وشتان بين الاثنين في ميزانه المنكسر غير العادل حينما يعشق اسرائيل حدّ الهيام ولايعبأ بالانسان العربي الفلسطيني المسلوبة ارضه ظلما وعدوانا وتزييفا للتاريخ وطمسا للحق حتى ولّدت فيه هذا التوجه غير السويّ لقلب مفكّر كبير عقلا لكنه مزيف قلبا مثل جنرال الادب " بورخيس " الذي لم يجد من يكلمه تحبباً من اقرانهِ في ارضٍ مشتعلة بالثورات نظرا لقصر نظره امام كفاح شعوب اميركا اللاتينية وضيق صدره من نضالات الشعوب الاخرى في هذا العالم الذي يتلاطم بالثورات
قال بورخيس اثناء تكريمه بهذه الجائزة انه يشعر بسعادة طاغية في اعماقه لانه موجود في القدس اذ لاتوجد مدينة بالعالم تستهويه ويتوق اليها دوما مثل القدس ليس باعتبارها عاصمة فلسطين وبالأخص الشرقية منها بل باعتبارها العاصمة الابديّة لإسرائيل الحلم الذي ظهر بعد انتظار طويل من المرارات والعذابات التي لاحقت شعب الله المختار على حدّ تعبيره ووصفها بانها " الكأس المترعة " التي تنسكب وتتراكم فيها الاحلام والصلوات والدموع والأدعية والتضرعات الايمانية والتهجدات بشكل لم ير مثيلها من قبل فهو يشعر بجوع وعطش نحوها طالما هو حيّ يرزق ، وقبلها كان يصف اسرائيل بانها " ارض الحليب والعسل " لكن اخطر ماقال حسب تقديرنا في انحياز صارخ واضح المعالم بان " التاريخ سيبدو غريبا بلا اسرائيل فهي ليست فقط فكرة مهمة للحضارة ، انما فكرة لاغنى عنها في صقل تلك الحضارة اذ لايمكن تصوّر الثقافة من دون اسرائيل "
أيّ ملقٍ غريب هذا حين يصل الى حدّ الوله الكاذب وتصنّع الحبّ لمجرد انه حظي بجائزة رفيعة وهو المفكر الاديب العالي الهمّة ليحطّ من قدَرهِ طمعا وهو العفيف عن الجاه والمال والمنصب فلا يحتاج المتوقد الذهن مثل السيد بورخيس ان يكثر من تذلل نفسه حظوة بالجائزة وهو الاكبر منها والأعلى شأنا في ميادين الادب وسوحها العريضة !!!
فماذا تساوي الجائزة على اهميتها وثرائها مافي عقل هذه الشخصية الادبية التي نهلت من ثقافة كل الشعوب معينها الادبي والفكري والفلسفي ووظّفته في الكتابة السامية التي حذق فيها بورخيس ووصل الى مراتب عليا لم يطالها الكثيرون من كتاب اميركا اللاتينية باستثناء اعداد نابهة جدا ممن لمع نجمهم في سماء الادب وهو من طليعتهم مثل زملائه بابلو نيرودا وماركيز وفارغاس يوسا واوكتافيو باث وخوزيه ساماراغو والقائمة تطول وتطول
ومن المعروف ان بورخيس كتب الشعر اول الامر وبرع فيه ثم امتهن القصّ ولم يكتفِ بذلك وابدع في كتابة المقال الادبي والنقدي وكانت له نظراته المتميزة ورؤاه الفطنة الحاذقة فيما يتعلق بالنصوص الادبية التي يتوغل فيها بحيث اتسعت افاق عقله الى مديات بعيدة جدا بسبب ثقافته العريضة وسفره الدائم في ثقافات معظم شعوب الارض ان لم نقل كلها بماضيها وحاضرها وخصوصا الكونفوشيوسية والبوذية والفارسية الاولى ماقبل الاسلام وانعطافه الى الفكر الاسلامي بصوفيته ولاننكر ابدا توغله في الارث اليهودي وقراءاته المتقدمة في الكتاب القديم ودأبه الحثيث في قصص التلمود وتبحرّه في الديانة الابراهيمية الاولى ، ولايخفي اعجابه بما تم تدوينه وسرده في ثنايا العهد القديم ، ولعل هذا التوجه هو السبب الرئيس في اشتداد العطف عنده تجاه اسرائيل وتعلّقه بها لكونها وفق منظورهِ الحُلّة الجديدة الزاهية للأبراهيمية الاولى بحيث أنساه مايعاني الطرف الفلسطيني الاخر من عنت واذلال وسلب وطن باكمله وتشريد شعب بتنوعه الاثني والعقائدي ، لكن هذا الانجرار والحب والهوس بالثقافة اليهودية – على حسناتها للاستزادة الثقافية – لايبرر له اطلاقا الميل والمحاباة للجانب الاسرائيلي وهو البادئ بالاعتداء والسالب للحق والذي كان من نتائجه الوخيمة حرمان شعب موغل في العراقة من ارض مهد المسيح ومنبت القداسة المتمثل بالقدس الشريف اولى القبلتين وثالث الحرمين وتشريده في الشتات وفي المخيمات هنا وهناك دون ان يلمّه وطن فأرضه مضاعة مسلوبة وليس له الاّ النضال والكفاح والانتفاضة وسيلة لاسترداد ارضه ولفت انظار العالم اليه لعل بصيصا من امل يشرق في هذا العالم المغفّل والمعبّأ باللامبالاة والاعمى كعماء بورخيس نفسه
ياللعجب فكل هذه البصيرة المفتّحة لديه في مخيلته وفي صدره الرحيب وفي قلبه وعقله البعيد المدى ، لكنها عميت ان ترى الحقّ الفلسطيني الواضح المعالم وأدارت وجهها عمّا يعانيه ذلك الشعب العريق الذي كان وسيبقى مهدا لعيسى وهو المسيحيّ المنبت والمحتد
لنقرأ قصيدة بورخيس الثانية في مدح اسرائيل فهي الاخرى تنبئ عما في نفس هذا الانسان الذي رهن موقفه حبا ليس في مكانهِ لإسرائيل ولامبالاة لشعب فلسطين وهو في قصيدته يفترق كثيرا عن اقرانه ادباء اميركا اللاتينية الذين سبق ان تضامنوا مع الشعب الفلسطيني ومازال هذا التضامن ساريا وعائما في معظم بلدان اميركا ودول الكاريبي ، تقول القصيدة المعنونة " الى إسرائيل " وقد كتبها تمجيدا لانتصارها على العرب في نكسة حزيران :
يااسرائيل
من سيعلمني انك كنت تجرين بأنهار دمي
متاهةً ضائعة منذ قرون
وفي اية اماكن جالت وطافت دماؤنا
اعلم انكِ بائنة في الكتاب المقدس المطوق للزمن
ليس مهما طالما انكِ مرآة تتراءى
في تاريخ آدم المائل للحمرة
وفي ذاكرة وعذاب المصلوب
في الوجوه المنحنية على نفسها
وفي وجه الربّ القاسي اللامع كالكريستال
حيث يظهر الفزع في الثنايا
بوركتِ اسرائيل وانتِ تحمين جدران الربّ
وتنتصرين في المعركة
مع ان بورخيس كان مهتما الى حدّ بعيد بمعظم ثقافات الامم ماضيها وحاضرها فكل آثاره الادبية تشير الى ذلك بوضوح بائن من خلال اطلاعه على اللاهوت وغور اعماق المسيحية ودراسته الثرية للأناجيل وانعطافه الاخر على مافي الصوفية الاسلامية من عوالم مذهلة والشخصيات الفكرية الملفتة في الاسلام ؛ لكن الثقافة اليهودية وميثولوجيتها وعهدها القديم وبالاخص " الكابالا " (2) وهي الصوفية اليهودية كانت شغله الشاغل ويمكن اعتباره من اكثر ادباء اميركا اللاتينية ولعا بالتراث الموسوي اليهودي ويتضح هذا في كتابه " الأف " الذي كتب فيه كثيرا عن الكابالا بإعجاب وانبهار شديدين وكانت له علاقات اكثر من وطيدة بأدباء بارزين كبار من اليهود مثل " شونيم " و"هاينه " ، وليس بمستغرب منه ان يتعلق بالفيلسوف " باروخ اسبينوزا " وخاصة رؤاه فيما يتعلق باتحاد الروح مع الطبيعة الكاملة وماقاله في فلسفة الاخلاق وقد قرأنا بعضا من قصائده يمجّده فيها ايما تمجيد غير ان الامور بدأت تتوضح اكثر حينما انتمى صاحبنا الى مركز الدراسات السفاردية عام /1965 وكان دخوله الى المركز هو البوابة المفتوحة على مصراعيها للتعرف ومن ثمّ التعمق في الثقافة اليهودية والانجذاب لها حتى الهيام اذ كان يعتبر نشوء اسرائيل في اربعينيات القرن العشرين هو الوجه المشرق والامل الذي ترقّبه لظهور معالم الثقافة اليهودية الى العالم من جديد بحلّتها الجديدة المتمثلة في اسرائيل بعد دهور من العنت والاضطهاد والتنكيل بدءا من السبي البابلي حتى محارق الهولوكوست
بورخيس الثاقب البصيرة في الادب ، الواسع الافق في غور اعماق الشعر والموغل في عالم النقد المتعدد المرايا نحسبه اعمى البصر في ادراك الحقائق الانسانية التي تلازم المضطهدين والمسحوقين لذا نراه يغضّ النظر عن كل انواع الجرم الذي حيق باهله في اتون ديكتاتوريات اميركا اللاتينية ويسكت عما فعله العسكر حين تزعموا الانقلابات وأطاحوا بالنظم التي تحبو نحو الحرية والديمقراطية وتريد ان تتخلص من اهوال العذاب الذي ركزه اليانكي الأميركي في هذه القارة الجنوبية وفي حوض الكاريبي فاستعانت باليمين المتمثل بالقادة العسكريين وعتاة الدكتاتورية الذي صار ذيلا مسموما للسع اجساد المتطلعين الى مستقبل مشرق ، وبدلا من ان يتخذ بورخيس موقفا ملتزما ويقف الى جانب ابناء قارّته الثائرة حاله حال زملائه الكبار " بابلو نيردوا " مثالا لاحصرا لكنّه فضّل الاصطفاف الى جانب من يعادي طموحات اهله وسكت وانعقد لسانه حتى ان يدين ماقام به وحوش واتباع العم سام في اميركا اللاتينية
ولأن السمات النضالية بين الشعوب ذات هدف واحد وأماني مشتركة متفق عليها فان معظم ادباء اميركا الجنوبية وربما كلهم وقفوا الى جانب قضيتنا الفلسطينية الاّ صاحبنا بورخيس ذو العقل الثاقب والافق الواسع غير انه أصلب قلبه وأقسى مشاعره تجاه فلسطين وعميَ بصره تماما عما تفعله اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وخرس لسانه حتى ان يقول كلمة صدق واحدة لادانة مايجري من مجازر وموت جماعي مارسته العصابات الصهيونية بدءا من الهاغانا حتى عمليات الابادة الجماعية التي قام بها شارون في مخيمات صبرا وشاتيلا وغيرها اذ كان بورخيس نفسه حاضرا ومعاصرا لها
لايخفى ان بورخيس قد ولع بالثقافة اليهودية وهذا ليس مثلبة منه ولكن ان يقدّسها وتمتلئ روحه حبّا وتعلّقا الى درجة ان يقول عنها انه لايستطيع ان يتخيّل العالم والحضارة الغربية بالذات بلا يهود اولا وبلا إغريق ثانيا ، وقد يكون هذا التعلّق الاعمى ناتجا عن اعراق والدته التي تمشّت في اوصالها وهي ذات الاصول الاسبانية والبرتغالية وهذا ماجعله يوثق علاقاته الوطيدة بأدباء ذوي ميول يهودية او لنقل انهم ذوو منحى صهيوني مثل " كاسينوس أسينس " الذي عدّه بورخيس معلما فكريا له وهو الذي عرّفه على معظم الادباء الاسرائيليين الذين أقاموا وتوطّنوا في شبه جزيرة ايبيريا عموما ، ومن منا لايتذكر قصيدته المهداة الى " أسينس " نفسه والتي اقتطف مقطعا منها :
" شربَ كمن يشرب نبيذا معتّقا
شرب من مزامير داود وأناشيد الكتاب المقدّس
وشعر انه يمتلك تلك الحلاوة
لشعب يهوذا ، لروح هاليفي والسفيروت
وهذا لعمري قدرُه الجميل "
هكذا هو صاحبنا خورخي بورخيس الذي قال مرة امام حشد من ادباء يهود بانه يشعر ان احد اسباب سعادته بهذه الحياة انه بامكانه الانتماء لشعب موسى بن ميمون ، تُرى هل كان السبب في هذا المنحى انه بقي صديقا ودودا لعائلتي " أسيفيدو " و " بينيذو " الارجنتينيتين اللتين انحدرتا من اسبانيا وسكنتا بوينس آيرس وهما من اوائل العائلات التي سكنت بلاده خوفا من بطش النازية والكراهية لأتباع موسى التي عمّت اوربا اوائل القرن العشرين
بكماً لعقل بعيد الافق واسع المدى لكنه يضيق عندما يجانب الصواب ويفترق عن معاناة المنهكين المعذبين في الارض
خرسا للسانٍ ينطق بالحكمة ورقيّ الكلام معسول المفردات لطغاة وعتاة ظالمين غير انه ساكت عن قول الحقائق البائنة الدامغة خافيا مرارات الجوع والاضطهاد لغالبية الشعوب تحت طيّ اللسان
عمياً لبصيرة نافذة حاذقة لكنها تعمى عن ان ترى مايحيق من كوارث وطغيان ضد الانسان الذي يريد عدلا وحرية وسواسية

[email protected]

هوامش
1) ادواردو غاليانو : روائي وباحث من الارغواي ، عاش في المنافي طويلا وتنقل بين الاجنتين واسبانيا هاربا بسبب آرائه السياسية المناوئة للدكتاتورية والعسكريتارية وناضل ضد العولمة وتدمير خصائص وثقافات الشعوب المكافحة ووقف مع الإنسان المسحوق ، ترجمت رواياته الى اكثر من 20 لغةً ومن مؤلفاته العديدة الذائعة الصيت – غير ماذكرنا – " ذاكرة النار " و " أفواه الزمن و " كتاب العناق "
2) الكابالا في ابسط تعريف لها ؛ تيار صوفي يهودي موغل في عوالم العهد القديم يرى ان للكلمة والحرف معاني خفية فالكتابة لها قدسيتها والنصوص الكتابية ترميز للعالم والقراءة فكٌّ لهذا الترميز وكلا الامرين لهما مقاصد معينة محددة وليست هائمة وعابثة تأتيك بالمصادفة وإنما إيحاء مرسوم مسبقا ، والروح القدس توحي للأديب لينتج نصوصا كاشفة لأسرار الكون وكينونته سواء في الطبيعة الظاهرة او دواخل النفس الانسانية لأضاءتها وتنويرها
&