"أكتب هنا ما اعتقده الحقيقية، قصص الإغريق كثيرة وهي في رأي قصص سخيفة"&]هيكانيوس ميليتوس[

يتساءل هيجل في كتابه الموسوم ب:" موسوعة العلوم الفلسفية" حول مفهوم الحقيقة قائلا: غير أن الزمن الذي كان الناس فيه يتساءلون: كيف يمكن لي أنا تلك الدودة الحقيرة التي تدب على الأرض، أن تكون قادرة على معرفة الحقيقة؟ هذا الزمن قد ولى وانتهى. وبدلا من ذلك أصبحنا نصادف زهوا وغروا. إذ بدأ الناس يزعمون أنهم يتنفسون نسيم الحقيقة ذاتها دون أن يبذلوا أي جهد من جانبهم، وتملق بعض المعلمين الشباب بقولهم أنهم يملكون بحق الميلاد الطبيعي للحقيقة الدينية والأخلاقية.
انطلاقا من تساؤل هيجل هذا، تظهر لنا الحقيقة في صور مجازية عديدة، وعندما نقارن بينها، فلا ربما أولى هذه الصور التي تربطنا بمفهوم الحقيقة، هي صورة أصل المعرفة، بما أنها الصورة الأرفع والأنبل، وهي أكثرها ملائمة مع مقاصدنا التحليلية حول مفهوم الحقيقة. فهي وكما يسميها فلاسفة الإتيقا ب: البراءة، كما أنها صورة تشمل على شعور ديني قوي، وعلى الشفقة والبساطة والحب والإخلاص والإيمان على حد سواء. وهي كلها مشتقات تجعلنا نعاين المناهج العلمية والشعبية معا التي تدعي إدراك الحقيقة بواسطة التأمل تارة والجدل تارة أخرى، وهما طريقان يمثلان أعلى درجة من الغرور، الذي كان وراء ثقة الإنسان المفرطة في قدرته على معرفة الحقيقة.
إن تعلق الإنسان في البدء بالثقة في المعرفة دون بذل جهد يذكر حولها، جعله مصدر جميع الشرور والآثام كما يقول هيجل، وهي الثقة التي جعلته يرتكب الخطيئة الأصلية التي لا زالت لصيقة بنا، حينما أكل النبي آدم من ثمار الشجرة التي نهاه الله عن الاقتراب منها، حسب ما ورد في النصوص الدينية السماوية، وهناك الكثير من الأخبار المتواترة الدينية والشعبية تقول، أنه أكل من شجرة التفاح، وهذا يعني أنها مقترنة بأصل الإنسان وحاملة لسره، ولهذا لم يبق له من طريق آخر للتكفير عن ذنبه سوى إعادة بناء معرفة جديدة خاصة به في عالمه الجديد الذي حلّ به.
إن التفاحة كانت سببا مباشرا في سقوط الإنسان من عالمه الأصلي إلى عالم جديد غريب عنه، تاركا وراءه المعرفة المطلقة وآخذا على عاتقه مسؤولية بناء معرفة جديدة لا يشاركه خالقه فيها، ولنرى ماذا سيفعل وماذا سيحّل به. البيّن أن لحظات سعادته في عالمه هذا لا تكاد أن تظهر مع لحظات بؤسه وشقائه وحزنه. فهو عالم يتسم بالتفكك والانقسام الداخلي.
لقد احتفظت لنا قصة( سقوط الإنسان) بصورة قديمة تمثل أصل هذا الانقسام ونتائجه، حيث أن مبدأ العودة إنما يكون بالمعرفة وبالمعرفة وحدها، فاليد التي أحدثت الجروح هي نفسها التي تداويها. ويسرد لنا هيجل في موسوعة العلوم الفلسفية قصة السقوط، أن آدم وحواء وهما أول الموجودات البشرية بما أنهما نماذج أولى للإنسان، كان يعيشان في جنة عدن حيث نمت شجرتان: شجرة الحياة وشجرة المعرفة، وتحريم الأكل من شجرة المعرفة يعني بوضوح أن الإنسان ينبغي ألا ينشد المعرفة، وإنما عليه أن يظل في حالة البراءة الأولى، كبراءة الطفل الفاتنة والجذابة. فجاذبية الطفولة هي هبة من الطبيعة، وأما معارفه في كبره فهي منه وليس من الطبيعة في شيء، وبالمعرفة جعلته ينسحب من الطبيعة إلى عالم الغواية، وحقيقة الأمر هي أن يقظة الوعي تنبع من طبيعة الإنسان ذاتها.
داخل هذا الجدل، التاريخ يعيد نفسه، وقصة السقوط تتكرر مع كل فرد من أبناء آدم، وترى الحية في معرفة الخير والشر تشبها بالله، وإن هذه المعرفة ذاتها هي التي يشارك فيها الإنسان عندما ينفصل عن وحدة وجوده الغريزي، وبأكله من الثمرة المحرمة، وأول تفكيرهما بعد استيقاظ الوعي عرفا أن عورتهما مكشوفة، يقول الله تعالي >> فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورقة جنة <<( سورة الأعراف الآية 22) وهي صورة لميلاد الخجل والإفراط في الأحاسيس، والإحساس بالخجل يشهد بوضوح عن انفصال الإنسان عن حياته الطبيعية، في الوقت الذي لا يشعر فيه الحيوان أبدا بهذا الإحساس، وبالتالي لا يشعر بأي خجل، وعنه يجب أن نبحث عن الأصل الروحي والأخلاقي للملابس في شعور الإنسان بالخجل.
يرى هيجل أن قصة السقوط لا تنتهي بطرد آدم وحواء من الجنة، بل هي تستمر لتخبرنا أن الله تعالى قال وهو يقتبس ذلك من سفر التكوين ما يلي >>هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارف الخير والشر<< (سفر التكوين، الإصحاح الثالث، آية 23،) ويقول تعالى أيضا حسب إحالة هيجل>> والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ولهيب سيف منقلب لحراسة طريق شجرة الحياة<<، هذه الآية تتحدث عن المعرفة على أنها قبس إلهي، فهي لم تعد كما كانت من قبل شيئا خطأ، أو عملا محرما، وهي الآية التي تدحض الزعم القائل بأن الفلسفة تختص بتناهي الروح فحسب، وإنما الفلسفة معرفة ومن خلال المعرفة حقق الإنسان لأول مرة شعوره الأصلي بأنه صورة الله في الأرض.
إن التفاحة في عالم الإنسان الجديد، لا تفعل شيئا على إحالة الإنسان إلى عوالم أخرى كما كانت عليه في الأصل، وإنما ستكون رمز بناء الإنسان لمملكته، وصارت التفاحة من جديد عنوان لكتاب يقال أنه نسب بالخطأ إلى أفلاطون في الثقافة الإغريقية، وهي نفسها ستكون سببا مباشرا في تحرر البشرية من ثقل الجاذبية في حادثة طريفة لإسحاق لنيوتن Isaac newton ( 25 ديسمبر 1642- 20 مارس 1727) والتفاحة التي سقطت عليه. عنها اكتشف قانون الجاذبية الشهير في كتابه الموسوم ب: الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية 1687م، الذي قدم فيه رؤية شاملة للكون المادي. فمنذ ذلك الحين، صار الإنسان يحلق في السموات ويشق الفضاء باحثا عن الحقيقة، وهو يحصي طبيعة العوالم التي حلّ بها، ومعلنا أن الأرض هي مجرد زاوية من زوايا بيته الجديد. وظل قانون التفاحة من عصر نيوتن إلى يومنا هذا يصنع مجد البشرية، لتصير من جديد الملهم الأكبر لأحد أعظم المؤسسات الإلكترونية في الألفية الجديدة، وهي "مؤسسة أبل" للبرمجيات ولمؤسسها ستيفن بول جوبز Steven poul jobs (فبراير 1955- أكتوبر 2011) ومنتوجاتها في شكل تطبيقات افتراضية، تجمع بين العقل الخالص والحس الخالص في أيقونة من أيقونات الأي- فون/ iphone.
فما نتعامل معه في تطبيقاتها هو مجموعة من الشبكات الهندسية تحمل كومات حسية من ألوان وأصوات وغيرها، ولكنها لا تشبه في شيء المحسوسات الطبيعة، وإنما هي محسوسات ولدت من رحم العقل الخالص، ونموذج ثاني للطبيعة بدأ يتشكل في الألفية الجديدة.
وإذا كانت للتفاحة علاقة اعتباطية وسريالية بما يسمى بالحقيقة منذ البدء إلى يومنا هذا، وهي العلاقة التي اتخذت مشاهد متنوعة وواضحة في التراث المعرفي الغربي، فيحق لنا أن نتساءل نحن العرب عن طبيعة علاقتنا بهذه الثمرة السحرية.

الجزائر