تملأُ الحقيبة الجلدية السوداء التي يفوح منها رائحة الحبر، تلك التي يحملها أبي كل صباح بعد أن يدسَّ بداخلها أوراق المعاملات العقارية، كاتب عمومي على الرصيف أمام مبنى (الطابو) الذي يعلو كعملاق حجري بالقرب من جسر الثورة، له طاولة حديدية و كرسي يربطهما بسلسلة معدنية إلى سياج حديدي حين يُنْهي يوم عمله.
&في الصباح التالي وبعد أن يبتاع سندويشة و كأس شاي يحرر طاولته و كرسيه و يضع اللمسات النهائية على أوراق اليوم الفائت ريثما يأتي الزبائن، يتبادل الأحاديث مع جاره أبو عبدو الفلسطيني. هو أيضاً نازح و له ذات الآلة الكاتبة و ذات الطاولة المعدنية. يتبادل الأحاديث أيضاً مع السماسرة الذين يقفون عند باب المبنى بانتظار أن يأتي الزبائن. السماسرة يعرضون على جميع المراجعين أن يتكفلوا بإنجاز معاملاتهم العقارية على وجه السرعة.. (ملاحقو المعاملات).. هكذا يسميهم الجميع. معاملات إرث في أغلب الأحيان. لهم وسائلهم الخاصة لجمع التواقيع المطلوبة، يعرفون من يجب رشوته و ما هي الأسعار لكل نوع من أنواع المعاملات. بعد إتمام مهمتهم يعطون الأوراق لأبي كي يقوم بطباعتها على آلته الكاتبة، و كان يتوجب عليه أيضاً أن يقوم بالعملية الحسابية المتمثلة بتقسيم أملاك المفقود أو المفقودة على ألفين و أربعمائة حصة، ومن ثم كان يتوجب عليه توزيع الحصص بين الورثة وفق منظومة حسابية دقيقة، وكان يفعل هذا في المنزل وقت الظهيرة مستعيناً بأحدنا.
&صوته المتقطع برشفات الشاي كان يتلو : حسنية أربعمائة سهم.. مديحة مئتي سهم.. سمير أربعمائة سهم.. محمد مئة سهم.. تضامن خمسين سهم... إلخ. و كان يتوجب على من يساعده أن يقوم بجمع الأرقام في النهاية على أن تكون النتيجة ألفين و أربعمائة سهم. وإن لم تكن كذلك فقد كان يتوجب على أبي توزيع الحصص من جديد، ولكنه قلما كان يخطئ.
بعد ذلك يبدأ طباعة الأوراق، الأذرع الحديدية الرفيعة لآلته الكاتبة تضرب شريط الحبر الحريري الذي يترك أثره على الصفحات التي تنزلق خلفه ببطء، راسماً الكلمات الواحدة تلو الأخرى. رقصة الأذرع تتسارع، دويّها الميكانيكي يملؤ المنزل، رائحة الحبر تنتشر حوله، أستلقي قربه و أغمض عينيّ، كل إيقاع يرسم حرفاً، الموسيقا الميكانيكية تتحوّل إلى كلمات تتراقص أمامي، قافلة من الكلمات تسير على إيقاع ضرباته. يتوقف فجأة. يرتشف الشاي. يدندن بيت عتابا بلهجة بدوية، صوته يتحشرج و الكلمات قلما تكون مفهومة. أبي الحزين دائماً، النادر الغضب، الساكت دائماً، صوت آلته الكاتبة كان صوته الحقيقي. موسيقاه الميكانيكية تتيح لنا فرصة العيش. ما إن يتجاوز عتبة المنزل حتى يجد أمي أمامه، يلقي في يدها الممدودة حصاد يومه ببروده المعتاد. تعد الأوراق النقدية بشغفها الذي لا يفارقها في كل ما تفعل ثم تختفي قبل أن تقول لنا.. (ما يربح والدكم لن يكفي كي نعيش وندفع أجار المنزل، عليكم أن تعملوا و إلا فإننا لن نجد ما نضع في أفواهكم غداً).

&