مقدمات نقدية (1)
كان الشاعر فيما مضى من الأزمان يستلقي في حقل اخضر مسندا رأسه الى شجرة ويعزف لاهيا على صفارة رخيصة، واسلاف قيصر يغزون الأرض، واسلاف كراسوس الذهبي يختلسون الأموال، وقواعد اللباس والسلوك تعبر عن رأيها، وهم يدعونه وشأنه. ويحتمل انه كان راضيا تماما بهذه الحالة، اذ لدي بعض من شك في انه قد يأتي بين الحين والآخر عابر سبيل تملكه الفضول كي يعرف لماذا يستلقي احدهم تحت شجرة ويعزف على صفارته الرخيصة لاهيا ليتحدث معه، وان من بين عابري السبيل هؤلاء يظهر بين الفينة والفينة شخص ذو سحر وجاذبية او سيدة شابة لم تقرأ ((الانسان والإنسان المتفوق)) ]احدى مسرحيات برنارد شو-المترجم[؛ و حين نعود بنظرنا الى الوراء لنرى الأمور على حالتها البسيطة هذه فإننا نسميها عصر الذهب.
يؤكد لنا ميتاستاسيو ]شاعر غنائي واوبرالي ايطالي 1698- 1782 – المترجم[، وهو العارف افضل من غيره، بأن هذا العصر يدوم - حتى لو كان الشاعر الحديث يتوقع منه ان ينادي مروجا لأشعاره عبر حاكية انبوبية مخاطبا محرري المجلات الرخيصة- أس. أس. مكلور، او شخص ما من هذا النوع-حتى لو تقابلت حشود من المؤلفين بوضع كئيب وشربوا نخب "فاتورة حقوق النشر"؛ وعلى الرغم من وجود هذه الأمور، فان عصر الذهب يصلح للوصف. على نحو لا يمكن إدراكه، ان شئت، إلا انه يصلح. انك تقابل امايكلاس الأشعث في احد مطاعم سوهو وتترنمان معا عن اشياء ميتة ومنسية—انها طريقة في الكلام عند الشعراء ان يترنموا عن أشياء ميتة نصف منسية، ولا يبدو ان ثمة ضيرا في ذلك، فلطالما فعل الشعراء ذلك—وخير للمرء ان يكون كاتبا في دائرة بريد من ان يعتني بمواش كثيرة نتنة وقذرة —وفي ساعة اخرى من النهار، يستبدل المرء صالة الاستقبال بالمطعم وربما يكون الشاي سائغا اكثر من شراب الميد وحليب الفرس وقليل من الكعك اكثر من العسل. وبهذه الطريقة يبقى المرء حيا بعد استقالة السيد بلفور، وظلم دائرة الضرائب الأميركية، وذلك البركان الجهنمي، الصحافة الدورية. ثم في خضم ذلك، ولعدم وجود شخص آخر يكون على ما يبدو قادرا ومتوفرا في الحال، يستوقف المرء ويطلب منه توضيح موقفه.
&& ابدأ هكذا بنبرة تخاصمية، لأنني افضّل كثيرا ان استلقي فوق اطلال ارضية غرفة استقبال كاتولوس وأتأمل السماء الزرقاء تحتها والتلال الممتدة نحو ((سالو)) و ((ريفا)) مع آلهتهم المنسية تتنقل دون عائق بينهم، على مناقشة اية اجراءات ونظريات فنية مهما كانت. انني افضل لعب التنس على ذلك. لن اناقش.

عقيدة
الإيقاع - انني مؤمن بـ"ايقاع مطلق"، بمعنى ايقاع شعري يستجيب استجابة دقيقة الى الانفعال او ظل الانفعال المراد التعبير عنه. ان ايقاع المرء ينبغي ان يكون (على ايقاع المرء ان يكون) تفسيريا، وسيكون بالتالي وفي آخر المطاف ايقاعه هو، غير مزيف ولا يمكن تزييفه.
الرموز: - اؤمن بأن الرمز المناسب والمثالي هو الشيء الطبيعي، اي اذا كان لا بد على المرء ان يستعمل "رموزا" فعليه ان يستعملها بطريقة لا تجعل الوظيفة الرمزية مقحمة إقحاما كيلا يضيع معنى ما في المقطع الشعري، او ميزته الشعرية على اولئك الذين لا يفهمون الرمز كرمز بحد ذاته، اولئك الذين عندهم الصقر صقر على سبيل المثال.
التقنية: - اؤمن بالتقنية بوصفها اختبارا لصدق المرء؛ بالقانون حين يكون ممكن التحقق؛ بأن اطأ على كل تقليد يعيق او يحجب حكم القانون، او التعامل مع الدافع/النزوة تعاملا دقيقا.
الشكل: - اعتقد ان ثمة محتوى "سائلا" ومحتوى "صلبا" ، وان بعض القصائد قد تمتلك شكلا مثلما تمتلك الشجرة شكلا، بعضها كأنها ماء مسكوب في زهرية. وان اكثر الأشكال المتساوقة لها استخدامات معينة. وان عددا هائلا من المواضيع لا يمكن ان تعالج بدقة وبالتالي على نحو صحيح ملائم في اشكال متساوقة.
"مؤمنا بأن الشيء الوحيد ذا القيمة هو ذلك الذي يوظف فيه الفن الكامل،"(2)& فإنني اعتقد بأن على الفنان ان يتقن كل اشكال البحور الشعرية ونظمها المعروفة، وإنني قد بدأت بذلك بشيء من الإصرار، باحثا على وجه الخصوص في تلك المراحل الزمنية التي ولدت خلالها هذه النظم او بلغت نضجها. لقد شكى البعض، ولهم بعض الحق في ذلك، من انني ارمي اكداس دفاتر ملاحظاتي على الجمهور. انني اعتقد ان الشعر لن يحقق هكذا درجة من التطور، أو ان شئت، الحداثة، الا بعد نضال طويل، وانه سيكون ذا اهمية حيوية بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا في النثر على هنري جيمز واناتول فرانس، وفي الموسيقى على ديبوسي. لنني دائم الاعتقاد على نحو ثابت بأن الأمر استغرق دانتي قرنين من الزمان وقرنا من عمر توسكاني كي يطور ادواته التوصيلية في رائعته، وان الأمر تطلب علماء لاتينيات عصر النهضة وشعراء جماعة البلياد الفرنسية مع اللغة المزخرفة لعصره هو كي يهيئ لشكسبير ادواته. ان كتابة الشعر العظيم امر بالغ الأهمية، اما من الذي يكتبه فلا يشكل ذلك ادنى فرق. فما يقوم به رجل واحد من عروض تجريبية قد يوفر الوقت للعديدين – من هنا كان اعجابي بآرنو دانيال – اذا ما انتجت تجارب احدهم قافية واحدة جديدة، او استغنت كليا عن ذرة من الهراء الذي يحظى بالقبول في الوقت الحاضر، فانه يكون منصفا مع زملائه ليس غير حين يسجل النتيجة التي يحرزها.&&&&&
لا أحد يكتب شعرا غزيرا كله "ذو قيمة." اي، من حيث الكم، لا احد ينتج الكثير الذي يعد نهائيا، وعندما لا يكون المرء فاعلا الشيء الأمثل هذا، قول الشيء مرة واحدة والى الأبد على اكمل وجه... فان الأجدر به ان يجري انواعا من التجارب التي قد تكون ذات نفع له في اعماله المقبلة، ولمن يأتون بعده.
"الحياة قصيرة جدا، الصنعة طويلة جدا لتعلمها." ان من الحماقة ان يبدأ المرء عمله على اساس غير متين، وانه من المشين ان لا يظهر عمل امريء تطورا مطردا او براعة متزايدة من بدايته الى نهايته.
اما بالنسبة للأعمال "المعدّة"، فان المرء يجد ان اساتذة الرسم القدامى ينصحون تلامذتهم بأن يبتدئوا بنسخ الروائع ثم يتوجهوا الى تأليفهم الخاص.
اما عن "ان كل انسان شاعر نفسه"، فانه كلما ازدادت معرفة المرء بالشعر كلما كان ذلك افضل. انني اؤمن بكل من يكتب الشعر وهو يريد ذلك، وأكثرهم يريدون. انني اؤمن بكل من يعرف من الموسيقى ما يكفي لعزف "الرب يبارك وطننا" على آلة الهارمونيوم، لكنني لا اؤمن بكل من يقيم حفلات موسيقية ويقوم بطبع خطيئته.
ان اتقان أي فن هو عمل عمر كامل. لا ينبغي ان اميز بين "الهاوي" و"المحترف". او بالأحرى ينبغي ان اميز في الأعم الأغلب لصالح الهاوي، ولكن علي ان اميز بين الهاوي والخبير. من المؤكد ان الفوضى الحالية ستستمر حتى يتم تلقين الهواة الدرس، حتى يكون هناك فهم عام لحقيقة ان الشعر فن وليس لهوا؛ معرفة كهذه بالتقنية، بتقنية السطح وتقنية المضمون، تجعل الهواة يتوقفون عن محاولة التفوق على المبدعين الكبار.
لو قيل شيء معين مرة واحدة والى الأبد في اطلنطس او اركاديا، سواء في العام 450 قبل المسيح او في العام 1290 بعده، فليس لنا نحن المحدثين ان ننبري لتكراره، او ان ننبري لطمس ذكرى الأموات بقول الشيء نفسه بمهارة اقل وبقناعة اقل.
ان تمسكي بالكتاب الكلاسيكيين وشبه الكلاسيكيين هو سعي حثيث من اجل اكتشاف ما تم انجازه، مرة واحدة والى الأبد، بشكل افضل مما يمكن ان ينجز ثانية يوما ما، وان اكتشف ما بقي علينا انجازه، وهو كثير، وذلك لأننا ان كنا لا نزال نمتلك ذات المشاعر التي اطلقت ألف سفينة ]اشارة الى مناجاة فاوست لهيلين طروادة في مسرحية ((الدكتور فاوست)) لكريستوفر مارلو- المترجم[، فمن المؤكد تماما اننا نتعامل مع هذه الأحاسيس على نحو مختلف، ومن خلال فوارق تفصيلية دقيقة ودرجات فكرية مختلفة. لكل عصر مواهبه التي يزخر بها ولكن ليس إلا بضع عصور تحولها الى مواهب دائمة البقاء. لا يكتب أي شعر جيد بأسلوب مضى عليه عشرون عاما، وذلك لأن الكتابة بهذا الاسلوب يظهر حصريا بأن الكاتب يفكر من الكتب والتقاليد والصيغ الجاهزة وليس من الحياة، ومع ذلك فان من يشعر بوجود قطيعة بين الحياة وبين فنه قد يحاول طبيعيا ان يعيد الى الحياة اسلوبا منسيا اذا ما وجد في ذلك الأسلوب خميرة ما، او ان ظن انه يرى فيه عنصرا ما لا يجده في الفن المعاصر يمكن ان يعيد به توحيد ذلك الفن مع مادة ديمومته، الحياة.
لقد رأيت في فن دانيال وكافالكانتي تلك الدقة التي افتقدها عند الفيكتوريين، اي ذلك التناول المحدد، سواء للطبيعة الخارجية او للانفعال. فشهادتهم شهادة عيان، وأعراضهم مباشرة.
اما بالنسبة للقرن التاسع عشر، فإنني اعتقد، مع كل احترامي لمنجزه، بأننا سنعاود النظر اليه بوصفه عصرا متسما بشيء من الضبابية والفوضى، عصرا عاطفيا ومتكلفا الى حد ما. اقول ذلك دونما اي شعور بالاعتداد والغرور.
اما عن وجود "حركة" او كوني جزءا منها، فان مفهوم الشعر بوصفه "فنا خالصا" بالمعنى الذي استعمل المصطلح فيه قد دبت فيه الحياة مجددا مع سوينبيرن. فمنذ الثورة البيوريتانية (التطهرية) وحتى سوينبيرن فقد كان الشعر مجرد وسيلة - أجل، بالتأكيد، ودونما تحفظ تجاه شكوك ومشاعر آرثر سيمونز حول هذه الكلمة – عربة بعجلتين او اربع عجلات لبث الأفكار الشعرية او غير الشعرية. وربما قام "الفيكتوريون الكبار"، ولو ان ذلك مشكوك فيه، وكذلك بالتأكيد "التسعينيات"، بمواصلة تطوير الفن، ولو انهم يقصرون ما يقومون به من تحسينات على الأصوات وعلى تشذيب الطريقة بشكل اساس.
لقد قام السيد ييتس مرة واحدة والى الأبد بتجريد الشعر الانكليزي من بلاغته اللعينة. فقد قام بتنقيته من كل ما هو غير شعري، والكثير مما هو شعري. لقد اصبح شاعرا كبيرا خلال حياته وفي منتصف الرحلة. لقد جعل من لغتنا الشعرية شيئا طيـّعا، كلاما دونما تحريف وتشويه.
يبدي كل من روبرت بريجيز وموريس هيوليت وفريدريك ماننغ(3)& اهتماما جادا بإصلاح الوزن الشعري كل على طريقته، وذلك بإخضاع اللغة وقابليتها على التكيف مع انماط معينة منه للاختبار. ويجري فورد هويفر نوعا من التجارب الحداثية، ويواصل عميد كلية اورييل ترجمته للـ ((كوميديا الالهية )).
اما بالنسبة لشعر القرن العشرين، والشعر الذي اتوقع رؤيته مكتوبا في العقد القادم او نحو ذلك، فانه على ما اعتقد سيتحرك باتجاه مناهض للهراء، سيكون اشد صلابة وحكمة، سيكون كما يصفه السيد هيوليت "اقرب الى العظم." ]تلميحا للقول المأثور "كلما كان اللحم اقرب للعظم كلما كان اطيب."-المترجم[. انه سيكون بصلابة الصوّان على قدر ما يستطيع، وستكمن قوته في صدقه، في قوته التأويلية (بالطبع تكمن القوة الشعرية هنا دائما)؛ اقصد انه لن يحاول ان يبدو قسريا بفعل الجعجعة البلاغية والفوضى التزويقية. سيكون هناك نعوت منمقة اقل تعترض سبيل الصدمة او الضربة التي يحدثها. بالنسبة لي في الأقل، فإنني اريده هكذا، غير منمق، ومباشرا ومتحررا من مزالق العاطفة.
ما الذي يمكن ان نضيفه الآن في العام 1917؟

إحالات:

1-&مجلة الشعر والمسرحية Poetry and Drama (التي كان عنوانها حينئذ& نقد الشعرPoetry Review& ) بتحرير هارولد مونرو، فبراير 1912.
2-& دانتي، حول فصاحة العامية.
3-& ديسمبر، 1911.


&