جواد غلوم
في البدء عليّ ان أصرّح معترفا باني عزفتُ طوال سنوات عديدة عن قراءة الشعر العالمي المترجم الى اللغة العربية لما رأيت من إساءات بعضها عفويّ دون مقاصد مبيّتة من ناقلي الشعر-- وما أكثرهم-- الذين عجزوا عن الوصول الى روح الشاعر وقلّة ادواتهم وثرواتهم اللغوية، وبعضها يهدف الى تحقيق ارباح تجارية على حساب الابداع من خلال نشر تراجم رثّة وهزيلة ولا تشفي غليل القارئ النابه وتسيء للشعراء العظام قبل ان تسيء لبعض هواة الترجمة الشعرية من غير المتمرسين او لتحقيق شهرة زائفة وادّعاءات للبعض بالظهور على انهم مترجمون للشعر متناسين انهم أوهموا انفسهم باعتبارهم مترجمين اكفّاء وفق ظنونهم الخائبة
ونادرا ماكنتُ اشبع فضولي حينما يصدفني شعرٌ يثير شهيّتي للقراءة وأقتصر على بضعة مترجمين أكفّاء جدا وأقرأ لهم وأرقص فرحا لأنني ظفرتُ بقصيدة تخلب لُبِّي وسط هذا الحطام الكثير من الاسفاف من النتاجات الهزيلة والترجمات التي نأسف على الاطلاع عليها والمباشرة بقراءتها ونحسّ اننا ضيّعنا وقتنا بسبب مرورنا على مثل تلك الترجمات الهزيلة الرثّة التي أساءت للشعراء الاجانب المبدعين قبل ان تسيء لهم ولنا نحن القرّاء
هؤلاء القاصرون عاثوا في الشعر فسادا وخرابا حيث تصوّروا الشعر مجرد نقل للمعنى من لغةٍ الى اخرى وكأنّ قارئ الشعر همّه الاساس البحث عن المعاني وتفسيرها، اما خفايا الابداع وسماته الجمالية فلتذهب هي وتجارب الشاعر وسموّ الروح الشعرية ومواطن السحر والإبهار والخيال الواسع الافق والاضاءات البلاغية الى الجحيم !! فهل تناسى مترجمونا مهارات اللغة الاصل التي تصعب ترجمتها ونقلها الى لغة اخرى إلاّ على يد مترجم أوغل في مسالك ودروب اللغة واسرارها ومترادفاتها ؟؟
ولاأخفي ان الذي جعلني لاأميل الى الشعر المترجم هو الفقر اللغوي الذي شاب اكثر نتاج اولئك الذين آنف ان نسميهم رعاة ترجمة سليمة فما هم الاّ مفسرين او ناقلين ولاأغالي ان قلت ان وطننا العربي يخلو من مترجمين افذاذ من الذين نلهف لقراءة نتاجهم ويكاد لايزيد عددهم عن اصابع اليدين بالقياس الى الكم الهائل من مفسري الشعر وناقليه البائسين ممن احترف الترجمة مهنة للكسب الرخيص على حساب الابداع وولج دروب الترجمة الحرفية (literal translation ) التي لاتليق بالشعر وعملت على تحنيط النصوص الشعرية الحيّة وربما عمل هؤلاء على شلّ مفردات القصيدة وايقاف ضخّ دماء الجمال التي تسري في اوصال الشعر وجسده

وبالرغم من كوني لست ضليعا باسرار الترجمة الحقّة لكني ظللت اقرأ القصائد المكتوبة بالانجليزية للشعراء الذين يكتبون في مناطق ماتسمّى في الاصطلاح السياسي quot; الانجلو سكسوني quot; والتي اعرف بعضا من بهائها الابداعي وخفاياها الجمالية وتوّلدت لديّ حالات من الشعور بالمتعة والانبهار عند قراءتي القصائد بلغتها الام وكانت ملاذي للتخلص من عثرات ومزالق من يسمونهم مترجمين لأني اعرف تماما ان اهم شروط الاستمتاع بالشعر هو ان تتذوّق اللغة الاصلية التي يكتب بها الشعر، ولكن كم من القرّاء يستطيعون ان يمضوا في تعلّم لغاتٍ اجنبية ويوغلوا في سرّ مفرداتها ومواطن جمالها البلاغي من اجل قراءة شعر يغرقنا بمتعته وفائدته، فما بقي من العمر الاّ أقلّه فما اوسع الابداع والخلق الشعري لولا قصر الحياة !!
فقد شغلت قضية ترجمة الشعر كبار ادبائنا ونقادنا منذ القدم ومازالت حتى الوقت الحاضر فمنذ العصر العباسي الذي ازدهرت فيه التراجم على اوسع نطاق بما في ذلك الشعر ؛ والمهتمون بين معارض ومؤيّد ومن خلال استقصائي لآراء الاقدمين رأيت ان ابرزهم وهو الجاحظ الذي خلتُه لايستسيغ ترجمة الشعر ويصف الشعر المترجم بانه quot; إخراج له من المعنى وتهديم للشعر نفسه quot;
اما المهتمون الذين جاؤوا بعده فقد انقسموا الى فريقين بين مؤيد ومعارض لكن حتى من عارضوا أبانوا بان الترجمة ممكنه بل وضرورية لكنها تفقده الكثير من خصائصه الجمالية لسبب بسيط وهو ان سمات الابداع تتغير سحناتها ويذبل غصنها ويتيبس عودها وتبدأ الصور الشعرية اللامعة بالانحدار فتغدو معتمة وتصير باهتة غائمة الى حد ان احدهم قال ان مرايا الابداع تتهشم وتتكسر فور نقلها الى لغة اخرى مثل شجرة اجتثّت من تربتها التي احبّتها وازهرت من مائها وتغذّت من معادنها لتُنقل الى تربة اخرى وتُنفى قسرا عما ألفتْ في مكانها الاول
فكلنا نتّفق بما فيهم مترجمو الشعر بان الشعر المترجم يفقد حتما جزءا من معناه ومبناه شئنا ام أبينا والمترجم الحاذق يحاول قدر الامكان ان يقلل بعضا من الخسارات لكن الطامة الكبرى تكمن اساسا في خسران جمالية التذوّق ومواطن الابداع البلاغية من مجاز واستعارة وكناية وغيرها من الجماليات البلاغية فيما نسميه البيان والبديع واذا غفرنا للناقل مضيعة شيء من المعاني وجزء من حذلقة البديع لكننا نأسف كثيرا من فقدان الصور البيانية التي ترتبط بالخيال والتحليق الى عالم الشعر الحقيقي الذي يمتعنا ويؤنسنا، وليكن معلوما ان عملية التطابق بين النص الاصلي والنص المترجم يكاد يكون محالاً ولايمكن تصديقه اذ دائما مانتحسس ترهلا في النص المترجَم يصحّ ان نسميه بفائض الترجمة وقد يكون هذا الفائض لصالح النص الاصلي او النص المترجَم
وقد عمد بعض مترجمي الشعر الذين يشار اليهم بالبنان الى اضافة شيء من عندهم للمعنى لاجل تقويته وجعله مستساغا او يحذف معنى هامشيا ثانويا فيما شعر انه يُضعف النص الاصلي وهذا المنهج الذي سار عليه الدكتور عبد الغفارمكاوي في ترجمة الشعر خصوصا عندما كان يصطدم بتراكيب لغوية لاتينية او يونانية يعسر هضمها لدى القارئ العربي كما قال هو نفسه في كتابهِ quot; ثورة الشعر الحديث quot; مع اتقانه اكثر من لغتين اتقانا تامّا ( اللغة الالمانية واللغة الانجليزية ) اذ اجاز لنفسه ان يضيف شيئا من عنده لاجل تقوية المعنى وغالبا ماكنت ألاحظ انه يشير الى اضافته ويضعها بين قوسين حفاظا على الامانة العلمية بذريعةٍ قد تكون صائبة وهي ان النص الاصلي quot;غريب quot; ويعيش في مأزق عدم القدرة على التكيّف واسترضاء القارئ الاجنبي ولابد من اضفاء شيء من العون المعنوي ليكون مستساغا وهذا ما اشار اليه ايضا quot; انطوان بيرمان quot; في بحوثه المتميزة عن نظرية الترجمة والذي سمّاه (محنة الغريب )
وبالرغم من لجوء مكاوي الى هذا الاجراء لكنه كان حذرا دون طغيان في الاضافات او تمادٍ في الحذف غير انه نجح الى حدّ كبير في ابقاء القارئ مأسورا بالقصيدة ويتحسس مواطن الجمال فيها ويشعر بالتلذذ والمتعة اثناء قراءة القصيدة وهذا مالاحظته منه حين ترجم بعضا من قصائد بودلير الأب الشرعي لقصيدة النثر الحديثة ومن بعده آرثر رامبو ومالارميه مع ان ترجماته لهؤلاء الثلاثة ليست من الفرنسية الاصل
ربما نغضّ الطرف عمن لايسوّغ لنفسه قراءة ترجمات الشعر ويعتبر ذلك مضيعة للوقت ويرى في قراءة مثل هذه التراجم مثل النظر الى وجوه مشوّهة أو كما يتندّر احدهم كمن ينظر الى الوجه الآخر الخلفي للسجادة الزاهية الالوان فيرى كم من الجمال واللمعان اختفى، وقد يكون هؤلاء محقّين في تبريراتهم نظرا لولوج الكثير ممن يسمونهم مترجمين في دروب الشعر الشائكة المليئة بالمطبّات اللغوية دون مصابيح كاشفة كما اسلفنا بداية المقال حيث ان غالبية الترجمات التي بين ايدينا عرضة للاشكال وأصالتها غير محسومة اصلا ويمكن تسميتها بالترجمة المبهمة ( fuzzy translation) ناهيك اننا قد لمسنا آلافا من النصوص الشعرية وقد ترجمت من غير لغتها الأم ولك ان تحسب كم من الصيغ الجمالية ضاعت وهي في طريقها الى القارئ وكم من المعاني اختفت بغمضة عين لتعدد النقل من مترجم الى آخر وكم افتضحت ترجمات سطا عليها احدهم وتلاعب ببعض الاضافات وحذف بعض المقاطع ونسبَها الى نفسه تمويها لإبعاد الشبهة وطمس معالم وجهد الآخرين الذين سبقوه
ان ترجمة الشعر مخاطرة شديدة والمترجم الحاذق يتحتم عليه ان يتسلح بلغته ولغة النص ليدخل الارض الحرام وعليه ان يحذر بشدة من وجود ألغام لغوية تتربص به، عليه ان يعرف تماما اسرار الجمال المعنوي والبياني وينقلها بتوئدة وتأنٍ لانها قد تكون ثقيلة الحمل وصعبة الازاحة الاّ من عرف وزنها وتفنّن في طرائق نقلها ووضعها في المكان المناسب
ويتضح ان السبب الحقيقي في اننا لانحصل على ترجمات راقية وثرّة عائدٌ الى قلّة المترجمين الذين يمتلكون كفايات وامكانيات ثقافية لغوية وعيون حادة البصر تكتشف مواطن الابداع وخفايا الشعر الآسر الذي يخلب الالباب ورغم كثرة الغثّ من التراجم الشعرية وامتلاء بطون كتب quot; الستوك quot; منها والتي تلفظه المطابع علينا وماتنشره مواقع الانترنيت البائسة في حبل غسيلها، لكن ليس بامكاننا مثلا نسيان ترجمات جبرا ابراهيم جبرا الراقية لشعر شكسبير ولغته الصعبة المراس حتى على ابناء جلْدتهِ الانجليز وترجمات عبد الغفار مكاوي وخصوصا عن الالمانية الاصل لشعر غوته وشعر ريلكه ثم تراجم فؤاد رفقة وكاظم جهاد وعبد الرحمن بدوي لهذين الشاعرين وشعراء ألمان أُخَر، وما ترجم الاستاذ عبد القادر الجنابي وبالاخص لشعراء المدارس الحديثة من السورياليين والدادائيين والتيارات الطليعية المتمردة على التقليد لشعراء مثل تريستيان تزارا وماندلشتايم وجويس منصور وباول تسيلان وبول ايلوار وغيرهم من رافعي اعلام الحداثة ومابعد الحداثة والمنغمسين في بحر التجديد المتلاطم وببصرِه الثاقب سلّط الضوء على أدباء quot; اوبيريو quot; الروس التي طمست الحقبةُ الستالينية معالمَ ابداعاتهم ولولاه لما عرفنا شيئا عنهم الى الان ولاننسى ولَعَه الدائب في اصطياد اغلاط الكثير من المترجمين حتى الكبار منهم وتصحيح ما فاتهم ؛ وحريٌّ بنا ان نشيد ايضا بجهود رفعت سلاّم الذي دأب على ترجمة الكثير من الشعراء اللامعين الاجانب طوال عمله الدؤوب في هذا المجال، ولاأنسى ابدا ترجمات الشاعر العراقيّ حسب الشيخ جعفر لعيون الشعر الروسي والسوفياتي مثل بوشكين وسيرغي يسينين وبلوك ومايكوفسكي وآنا اخماتوفا وتراجم سركون بولص للشعراء الاميركيين ألن غينسبيرغ وجاك كرواك وغريغوري كورسو وغيرهم ولم يكتفِ بذلك بل عقد صداقات عميقة معهم ليكون اكثر قربا من شخوصهم ونتاجهم الشعري، وترجمة رباعيات الخيام عن الانجليزية من قبل توفيق صايغ وماقام به خليل صبح من ترجمات لائقة للشعر الاسباني مثلما كان صالح علماني ضليعا في ترجمة نثر امريكا اللاتينية..وعليّ ان اذكر ان من اسباب شحّة المترجمات الثريّة الرصينة هو اللامبالاة من الكثير من المؤسسات الثقافية وقلّة التشجيع والثناء على المترجم الذكي سواء من قبل المتلقّي او من قبل مؤسساتنا الثقافية فالمترجم فنان اولا قبل ان يكون ناقلا لغويا ولايكفي ابدا ان ينقل الافكار والمعاني والالفاظ وانما عليه ان يترجم اسلوب الكاتب وروحه وخلجات نفسه ولهذا قيل ان المترجم للشعر هو الشاعر الثاني والقرين الوفيّ لكاتب الشعر باعتبار ان المترجم والشاعر صنوان لايفترقان كمالك وعقيل على حدّ تعبير مثلنا العربي السائر
فان توفرت السمة الابداعية في النقل لدى المترجم وأحسّ بمواطن الابداع في القصيدة ووضعها بأمانة بين ايدينا وتذوّقنا من ثمار ابداعه بتلذذ بائن فحقّ لنا ان نقول ان هذا هو ماننشد والاّ فالثمرة اكلها العفن وغمرها الفساد وعاثت فيها ديدان النقل الفجّ وحريّ بنا ان نرميها في سلال القمامة بلا اسف او ندم فما الفرق اذاً بين النظم والشعر الصحيح الولادة !! فلا شعر اجنبي رصين بلا مترجم امين
وفي ظني ام ملَكة ترجمة الشعر لايجب ان يمتهنها الاّ شاعر مبرّز ثقيل بثروته اللغوية او على الاقل انسان مسكون بحبّ الشعر ومأسور بجماله، مبهور بخياله وعلوّ تحليقه، ومتسلح بخفايا لغة النص الاصلي وعارف بدروبه الصعبة والسهلة المسلك، لايلتفت الى الكلمات المترادفة اذا تعسّر عليه فهم الكلمات فهو ليس ناقلا للمعاني، وشارحا مفرداتها وانما هو ناقل لروح الشعر وضميره ودواخله من خلال الشاعر الاول، ولهذا سُمّي المترجم البارع الشاعر الثاني الرديف والظلّ لكاتب القصيدة الاصل ومن البداهة التوضيح بان ترجمة الشعر يعدّ من اصعب الترجمات جهدا فكريا لكونه يقتضي ملَكة خاصة ذات مواصفات تختلف كليا عمّا يتصف به مترجمو الادب عموما كالرواية والقصص القصيرة وتاريخ الادب والنقد وهلمّ جرّا فالترجمة ايّ ترجمة هي ازاحة من مكان مألوف الى آخر غير مألوف ففي اللاتينية ان كلمة quot; ترادوسيره quot; ايّ الترجمة تعني ( نُقِل الى حيّزٍ أبعد ) فكيف بترجمة الشعر وتطويعه ليكون مستساغا في بيئة غير بيئتهِ ؟؟!!
اقتطف هنا مقطعا شعريا للشاعر قسطنطين كفافيس ترجمهما شاعرنا العراقي سعدي يوسف والشاعر المترجم المصري الدكتور رفعت سلاّم ..وأبدأ اولا بسعدي يوسف:
quot; في المساحة نفسها
في محيط البيت وساحات المدينة
الذي لا أبالي به والذي اسير فيه سنين وسنين
لقد خلقتك في خضم الفرح وفي خضم الحزن
عبر حالات عديدة وأشياء عديدة
فغدوت انت بأسرك استثارة لي quot;
ولنقرأ ماترجمهُ رفعت سلاّم لذات المقطع الشعري ونرى الفرق بين النصين المترجمين:
نفس وضع البيت والمقهى والمنطقة المجاورة
التي رأيتها وسرت فيها لاعوامٍ واعوام
تخيلتك في الفرح والحزن
مع احداث كثيرة، مع تفاصيل كثيرة
هكذا تحوّلت كلك الى شعورٍ داخلي
ومع ان المعنى بقيَ على حالهِ لكني أهجس تماما كم من الاضافات اغدقها سعدي يوسف الشاعر على النص المترجم فأضفى من عنده مسحات شعرية طاغية لا اظنها لدى كفافيس الذي كثيرا ما يوجز لكنه يوصلنا الى مايريد
غير ان سلاّم اختزل ترجمة القصيدة وأظنه اعتمد حذف مالا يحبب للقارئ العربي ولم يضف اليها مثلما اضاف سعدي، اذ كثيرا ما ألفنا شاعرنا الكبير سعدي يوسف يضيف من عنده رؤى ومسحات شعرية عند ترجمته للقصائد لاتخرج عن المضمون العام للنصّ الاصل ونادرا ماتكون مرضيّا عنها ومستساغة وقد يصحّ ان نقول انها رهّلت الشعرَ، وهذا مالاحظته في ترجمته لأوراق العشب للشاعر الأميركي وولت وايتمان quot;
وفي قصيدة اخرى لكفافيس اسمها quot; منذ الساعة التاسعة quot; نقرأ نصين مترجمين لعبد القادر الجنابي وآخر لشوقي فهيم من مصر.
ترجمة الجنابي:
quot; الثانية عشرة والنصف. كم سريعا مرّ الوقت
منذ ان أشعلتُ مصباحي في التاسعة
حتى أجلس هنا.بقيتُ جالسا دون ان اقرأ
ودون ان اتكلمَ، تُرى اتكلم مع من ؟!
وانا وحيدٌ في هذا البيت.
****
منذ الساعة التاسعة،عندما اشعلتُ المصباح
ظهر لي خيالُ جسدي الغضّ وجعلني استرجع..
عطورَ الغرف المغلقة
وملذّات سالفة، ملذّات جريئة
لقد رأيت ثانية كما آنذاك
شوارعَ يصعب الان التعرّف عليها
ملاهٍ اغلقتْ كانت تضجّ بالحركة
ومسارح ومقاهٍ كان لها وجود فيما مضى.
وايضا جاءني خيال جسدي الغضّ..
بذكريات مؤلمة
حداد العائلة، فراق،
واناس اعزّاء
وبمشاعر ذوييِّ، مشاعر الموتى
التي لم تقدّر حقّ التقدير
الثانية عشرة والنصف. كم سريعا مرّ الوقت
الثانية عشرة والنصف. كم سريعا مرّت السنوات quot;

ولنقرأ القصيدة ذاتها بترجمة الاستاذ شوقي فهيم ونرى الفرق:
quot; الثانية عشرة والنصف.مرّ الوقت سريعا
منذ التاسعة حين اوقدت المصباح وجلست
جلست هنا دون ان اقرأ او اتكلّم
وحيدا في هذا المنزل لا أحد اتحدثُ اليه
منذ اوقدتُ المصباحَ في التاسعة
جاءني طيف جسدي وأنا شاب
جاء يواسيني، يذكّرني..
بغرف مغلقة تعبق بالعطور
بعواطف جامحة ماتت منذ زمن
بمغامرات طائشة
كما احيا، طيف جسدي الشاب، ذكريات الشوارع المنسية
وأماكن اللهو العامرة بالناس، والتي اندثرت
وذكريات المسارح وموائد المقاهي من الزمن البعيد
هذه الرؤية.. رؤية جسدي في شبابه
جلبت عليّ ايضا بعض الاحزان:
الفراق،حداد الأسرة
أحاسيس اهلي ومشاعر الموتى
الذين لم ينالوا تقديرا يذكر وهم احياء
الساعة الثانية عشرة والنصف، يمرّ الوقت
الساعة الثانية عشرة والنصف تمرّ السنوات quot;
ولك قارئي العزيز ان تلحظ بين سطور النصين وتبرز اوجه الاختلاف والتشابه بينهما، وهذا امر متعارف عليه لدى دارسي الادب والشعر خاصةً، فلا ضير من الاختلاف البسيط الذي يغتفر خاصةً اذا ادركنا ان الترجمة كثيرا ماتتخللها الخيانة، فكيف اذا هممنا بترجمة القصيدة الكائن الحيّ العصيّ على الإمساك والذي يصعب جدا ترويضه !!!
حقا ان المترجم تحمّل كثيرا وزْرا وآثاما كبيرة وكانت اشدّها إيلاماً الحكمة الايطالية التي خاطبت المترجم قائلةً له: quot; ايها المترجم، ايها الخائن quot; اذ تتضاعف تلك الخيانة فتكون عظمى لو تحرّش بالشعر، وهل أشدّ خيانةً ان يقوم المترجم بحذف مالا يهواه ولايستسيغهُ عن القاريء اذ وقع نظري صدفة على كتاب الشاعر العراقيّ عبد الكريم قاصد المسمّى quot; غبار الترجمة quot; كاشفا في هذا الكتاب قيام السيد جبرا ابراهيم جبرا باختصار اهم كتاب عن وليم شكسبير وهو quot; شكسبير معاصرنا quot; لمؤلفهِ الباحث quot; يان كوت quot; في احد فصول الكتاب الانف الذكر حينما كان يقارن تراجم جبرا مع تراجم خليل مطران وما قاله العفيف الاخضر قبيل وفاته حينما فضح المترجم الذائع الصيت جورج طرابيشي ومن جملة ما قاله انه حذف فصلا مهما من كتاب هربرت ماركوز quot; الانسان ذو البعد الواحد quot; فإذا كان طرابيشي الذي يُعتبر حجةً في الامانة العلمية ومن ارقى المترجمين الثقاة فكيف سيكون الحال بالمترجمين الآخرين ؟؟! .وما قام به المترجم حسن عثمان في ترجمته للكوميديا الإلهية حيث حذف ابياتاً شعرية لدانتي تشير الى وجود النبيّ محمد (ص) بصحبة ابن عمّه في احد اماكن الجحيم في اشارة غاية في السوء لاثنين من أعمدة الاسلام الراكزَين وموقف كريه يتسم بالعدوانية من لدن دانتي ضد الفكر الاسلامي وصفوة رجالهِ وقد يكون حذفه لتلك الابيات مراعاةً واحتراما لمشاعر المسلمين غير انه لم يشر الى ذلك بتعمّد مقصود، ولكم ان تحسبوا كم من الترجمات التي اقررْنا بصدقيتها ووثقنا بها وانطلت علينا ومرّرها المترجمون على عقولنا باعتبارها امينة ورصينة، لكن هذه الخيانة نتقبلها رغما عنا فليس لنا ان نكون معزولين عن تجارب الشعر لدى الامم الاخرى ولابدّ من التلاقي والتلاقح والتطلّع والاطلاع بل وحتى الانغماس في خضم القصيدة العالمية لمبدعيها وخاصة الكبار منهم
ومع كلّ هذه الجهود التي يبذلها رعاة التراجم الشعرية فمازلنا نؤكد بان الشعر يكاد لا يترجم ويصعب جدا ايصاله للقارئ بنفس البهاء الذي كُتب بلغته الاصلية وتزداد هذه الصعوبة كلما اوغل المترجم في اشعار متزعمي المدارس الادبية الحديثة والشعراء الطليعيين والسورياليين والمحلّقين بأجنحة الرمزية ويجب عليه الحذر الشديد خوفا من الوقوع في هوّةٍ قد لايستطيع الخروج منها بسبب عمق قرارها وحلكتها فيضيع في متاهات لا مسالك لها ولا أغالي لو قلت متحدّيا انني لم استسغ ndash; مثلاً-- ايّ نصّ لمترجم توغّل عميقا في رمزية quot; مالارميه quot; ورضيتُ منه مليّا واشبع فضولي وأمتعني ذاك الامتاع الذي اريد
غير ان الترجمة الشعرية تبقى ملاذنا للوصول الى الشاطئ الاخر للإبداع ولو بمركبٍ صعب تذروه الرياح والعواصف وتميله يمنة ويسرة فما حيلتنا الاّ ركوبه وتحمّل مخاطره أملاً في الوصول الى جنّة الشعر وعشبه الاخضر النضير وثماره اليانعة الفوّاحة بكل انواع العبير، ونتطهّر بمائها ونمرح بملاعبها وتطرب ارواحنا بغناء عصافيرها، فالشعر شدوٌ للنفوس التوّاقة للجمال ودَعْكٌ لاجسادنا قبل ان تصير رفاتا وحطاما في مقبل الايام

[email protected]