تونس ndash; عبيده عامر: بعد أكثر من ستة شهور في عمل متواصل وفي ظروف غير طبيعية في التصوير على الإطلاق حسب ما شاهدناه في الفيلم الوثائقي الذي يوثق تجربة سينمائية روائية جديدة حقا ونحن نرى مشاهد الفيلم خلال المكساج، شاهدنا عراقا غير هذا العراق، شاهدنا عراقا يتحدث عنه الذين عاصروه فوثقه لهم المخرج السينمائي والكاتب العراقي قاسم حول في ساعة وأربعين دقيقة من سينما جديدة وصوت يدهم وجدان المتلقي ويبكيه مثل ما يضحكه ضحكات مرة. ينقلنا الفيلم من أزقة بغداد ومقاهيها القديمة ويرمينا في عمق أهوار الجبايش ويرحل بنا نحو كلكامش وأنكيدو وشمخة وسيدوري ثم يدفع بنا نحو الزقورة فيصورها ليلا وسط صفير الرياح وما يدور في خفاياها. حضرنا عمليات مزج الأصوات والمشاهد الساحرة وهي في مراحلها النهائية في تونس وكان لنا هذا اللقاء.

ما هذه الصيغة السينمائية التي غامرت بها ووسط ظروف بالغة الصعوبة؟
-حقيقة لم أكن قد فكرت في إنتاج هذا الفيلم لأن إدارة دائرة السينما والمسرح quot;العتيقةquot; لا تريد ذلك! لكنه حصل ما حصل فيه تفاصيل كثيرة. وأصبح الفيلم الآن حقيقة واقعة سيراها العراقيون قبل غيرهم وأظن أنهم سيتوقفون ويتأملون كثيرا .. أظن ذلك، سيما المرهفون منهم. الفيلم وهو فيلم روائي يقع في ساعة وأربعين دقيقة لم أعمد على كتابة حكاية أو ما يطلق عليه الحدوتة في السينما عن شخص أو شخوص يتصارعون يخلتفون يتصالحون ثم يبكون ويضحكون ويتزوجون وينتهي الفيلم. كلا على الإطلاق. طلقت هذه الحكايات. كانت عندي رغبة قبل أن أعمل هذا الفيلم أن أعمل فيلما عنوانه الحاكي، أتحدث فيه عن رؤيتي لما جرى للوطن، فجاءتني هذه الفرصة لكي أطور الفكرة لأتحدث من خلال فيلم يحمل صيغة روائية مختلفة وكتبت سيناريو الفيلم quot;بغداد خارج بغدادquot; والفكرة التي تلم حكاية العراق هي فكرة الغربة والإغتراب، ليست الغربة بمفهومها الجغرافي بل الغربة بمفهومها الفلسفي وهي الغربة الأكثر قسوة غربة المثقف وغربة الإنسان الواعي وهو يعيش في وطنه الذي يشعر وكأنه سفينة تتلاطمها الأمواج ولا تدري متى وأين سترسو. أنا بشكل عام متأثر بإسطورة كلكامش وما تحويه من أفكار فلسفية فكرية مثل إعجابي بملحمة ألف ليلة وليلة. فشخصية كلكامش الأسطورية وبطولاتها الخارقة مع صاحبه إنكيدو سكتت وتحول كلكامش إلى طفل صغير خائف بعد أن رأى صاحبه في فراش الموت فتركه دون أن يدفنه وبقي على الفراش حتى بات الدود ينخر جسده القوي. كلكامش هذا أستدعيته إلى حياتنا المعاصرة وجلبته إلى نهر دجلة بلاما يعبر في قفته القديمة الشعراء والحسناوات وجعلته شاهدا على أحداث هامة في بنية الوطن العراقي.

وهل تجد الإنتاج السينمائي سلسلا في العراق اليوم؟
-كلا ومن الصعب بناء صرح سينما عراقية، لأن السينما العراقية بنيت على أساس واه خاطئ تماما. لقد بنوا صرح السينما العراقية بالمقلوب ليس الآن بل منذ العهود السابقة العهد الدكتاتوري وما قبله. لقد فهموا عملية الإنتاج السينمائي فهما شموليا، قلدوا شكل العمل وصيغه المعمول بها في البلدان الإشتراكية والأنظمة الشمولية، والتي تتمثل في هيمنة الإيديولوجيا على السينما.
من الخطأ القاتل أن تقوم الدولة بإنتاج الثقافة. إنتاج الثقافة من قبل الدولة هي عملية إغتيال حقيقية للثقافة وللسينما. لاحظوا كم هو حجم المشاكل في دائرة السينما العراقية. المشاكل لا تحصى وتؤدي إلى سينما متخلفة وسينما فيها الكثير من الفساد والإفساد. لقد تحولت السينما بسبب فكرة الحياة الشمولية السياسية والثقافية تحولت إلى كارثة على شتى الصعد! دعونا ننظر إلى تجربة السينما في تونس قبل التغيير وبعد التغيير. هي هي وقائمة على أسس سليمة لأن المعنيين والقائمين عليها يحبون بلادهم ويحبون ثقافتها. تونس التي علمتنا فكرة نوادي السينما وتعزيز الثقافة السينمائية لدى الناس وجدت الناس متشبثين بها ولم يغادروا هذه الإنجازات. الدولة تدعم الثقافة والثقافة السينمائية ولا تنتجها. لديها لجنة متخصصة ينتخبها السينمائيون أنفسهم هي التي ترعى شؤون السينما وهي التي تقر السيناريوها ت وهي التي تدعم المخرج ماديا دون أن تبتزه لأنه لو فعل أحدهم ذلك فستقوم القيامة على رأسه. منذ سنوات طويلة تقاليد نوادي السينما وتقاليد مهرجان قرطاج الثقافية السينمائية وتقاليد دعم الإنتاج السينمائي وتقاليد حرية التعبير والمشاركة في المهرجانات العالمية كانت ولا تزال وتزداد تألقا. وفي تونس هذا البلد الفقير إقتصاديا والثري ثقافيا توجد مدينتان للسينما، ونحن بلاد النفط والكبريت والزئبق الأحمر لا توجد لدينا كاميرا سينمائية والحديث يطول ولا داعي للإطالة فيه لأنه موضوع مر حقيقة مليء بالمرارة، سواء تاريخنا السينمائي او صالات السينما التي تهدمت بفعل الحروب. أظن أن الجواب كاف إلى هنا.

هل ثمة جديد في تجربة فيلم quot;بغداد خارج بغدادquot;؟
-نعم وبدون إدعاء، ثمة جديد سينمائيا وجماليا وفكريا في هذا الفيلم. جديد بكل ما تحويه الكلمة من معنى وبدون إدعاء أو بحث عن جديد من أجل التمايز. كلا ، فالموضوع فرض شكله الجمالي والفني وقمت ببلورة الفكرة وأظن أنني توصلت إلى سينما حلوة وجميلة ومعاصرة وغير معقدة. لعب الجانب الجمالي الفني من خلال الإنارة وحركة الكاميرا وأداء الممثلين دورا هاما في هذه الجدة. لقد تم التعاقد معي بسبب عدم توفر ميزانية لدى الوزارة أو أن أموال عاصمة الثقافة قد نزفت وأستنزفت فأعطوني ميزانية بنصف ما أعطوه للآخرين فيما مشاهد فيلمي وعدد شخصيات الفيلم هي أضعاف ما هو لدى للآخرين . قالوا لي أعمل فيلما طوله ساعة فقط بهذه الميزانية. لكنني كنت مصرا أن اعمل فيلما روائيا طويلاً يغطي عرضا سينمائيا عالميا ونظاميا. فجاء الفيلم بساعة وأربعين دقيقة. لم تكن ثمة حدوته كما أسلفت بل هو حكايات مترابطة ضمن فكرة الغربة والإغتراب. فيلم عن حياة مثقفين يعانون من الخوف والغربة ويعيشون حياة العبث في وطن لا أحد يدري إلى أين هو ذاهب؟ هو فيلم حنون عراقي وأظنه يعبر عن حال المثقف غير العراقي أيضا. هي حالة تاريخية وجدانية ينبغي على الجميع ان يشاهدوا هذا الفيلم. كل من يعنيه العراق عراقيا او غير عراقي ينبغي أن يشاهد هذا الفيلم يتمتع بفكرته الجميلة وأيضا بقيمته الفنية والجمالية. هو غير الأفلام وهو غير أفلامي أيضا. صراحة أنا سعيد به، مع أن ظروف الإنتاج الواقعية غاية في الصعوبة. مرة تم تفجير المطعم الذي نتناول فيه طعامنا. ومرات أطلق علينا النار ونحن نصور بعد أن شاهدوا الرافعة وعليها الكاميرا والمصور فتصوروا نحن بصدد عملية إنتحارية حديثة الإعداد. مرات كثيرة وفي منتصف الليل وأنا أصور في الأهوار وأنقل الكهرباء بصعوبة بالغة تحترق مولدة الكهرباء وينزل علينا المطر ونحن في عتمة وعمق الأهوار بعد منتصف الليل ولا توجد فنادق للسكن قريبة منا. نحن فريق عمل سينمائي كبير من المصورين والممثلين والممثلات وعمال الإنتاج . نحاول تسجيل أصوات الممثلين ولكن الأصوات الخارجية للمناسبات تملأ السماء فيتعذر علينا الأداء وتسجيل الصوت. عملت كثيرا هنا في تونس لتنقية الأصوات وتخليصها من المشاكل والغيت مؤثرات الواقع وصنعت مؤثرات واقع آخر . لا أحد يستطيع ان يتصور كم هي معاناة أنتاج فيلم سينمائي في العراق.

لو طلب منك إخراج فيلم آخر .. هل ستخوض التجربة ثانية؟
-بهذه الشروط كلا .. على الإطلاق

هل ثمة موضوع هام يدور في خلدك سينمائيا للعراق؟
-أولا انا حزين بصدد تاريخ العراق السينمائي والوثائقي المصور حيث وجدته تحت الأنقاض والتراب وهي جريمة كاملة. ثانيا لا شك عندي أكثر من موضوع يشغل ذهني عن العراق. موضوعان يشغلانني عراقيا ولا أوجد إنتاجهما من خلال دائرة السينما والمسرح. وكتبت لهما سيناريوهين هما آخر ما أفكر به. أريد أن أستراح وقتا حتى أطبع مؤلفاتي الكاملة كتب السينما والمذكرات ورواياتي والقصص والمسرحيات. هذا هو مشروعي القادم. ولو حصلت على فرصة حقيقية كما أريدها أنا وبشروطي الكاملة لإنتاج فيلم سينمائي فسوف أنفذ المشروع وفي المقدمة منه فيلم الإمام الحسين عليه السلام.

والفيلم الثاني ؟
- أحتفظ بالعنوان .. حتى وقت آخر.