بغداد:رحل الرجل الذي التصق بالكتب مهنة وبسوق السراي مكانا، رحل عن عمر 89 عاما، وبالتأكيد بسبب الشيخوخة والامراض التي كان يشكو منها والتي عاثت بجسده الضعيف المنهك الذي لا قدرة له على الذهاب الى المستشفى لاجراء الفحوصات والعلاج، وقد كان يمضي ايامه الاخيرة منسدلا وسط الكتب او متكئا على كومة منها او يتمدد متوسدا اياها، رحل.. بعد غاب عن المكان الذي يفترش فيه كتبه الذي امضى فيه سنوات طويلة جدا، طال غيابه لاشهر وخلا المكان منه ومن كتبه التي تتبعثر هناك، ومن ثم جاء نعيه متثائبا لا يقوى على الطيران، فليس هنالك من ينعاه، لكن خبر موته جاء يحوم حول المكان بحزن ليعلم الذي يعملون في سوق السراي / الشارع، ان صاحب هذه المساحة الصغيرة في طرف من الشارع لن يعود، لكنه يستحق الرثاء لانه عرف قيمة الكتاب وان كان اميا، فارتبطت حياته ورزقه بالكتب، يعرف كيف يشتريها مثلما يعرف كيف يبيعها ويتصرف بها وكيف يتعامل مع الاخرين، وقد عرفته منذ اكثر من 30 عاما فلم يبرح المكان وكان كما عهدته جالسا او مستلقيا، قليل الكلام او صارخا من وجع ما.
هذا الرجل.. وجد نفسه على قارعة الطريق في السوق الذي كان يشتهر ببيع الكتب قبل ان يتحول الى سوق للقرطاسية، لكنه ظل يمارس هذه المهنة في ذات المكان فلم تمكنه الايام من ان يكون صاحب محل مثل غيره، وكأنه جذوره امتدت في ارض المكان.
حاورته ذات مرة وكتبت عنه، عن تاريخه واحواله، بعد ان تعرفت عليه منه، اسمه.. احمد حسين، لكنه يشتهر بـكنية (ابو علي)، من مواليد عام 1925، مقره ومستقره في سوق السراي الشهير ببغداد، الخاص ببيع القرطاسية، والذي يقع بجوار شارع المتنبي، وكما يقول انه هنا منذ ستين عاما!!، لم يتزحزح من البقعة التي يجلس فيها وينثر عليها اشياءه، الا بمقدار تحوله من هذه الجهة الى تلك التي مقدارا المسافة بينهما اقل من مترين، وفقا لاصحاب محال الصاغة، وقد استغل غياب احدهم الطويل فجلس في مكانه طويلا.
انه.. رجل اتعبته الحياة كثيرا لكنه ظل صامدا في مكانه الذي يقتات منه على ما يحصل عليه من بيع المجلات والكتب، قوي.. لكن الزمن سرق النور من عينيه فلم يعد يرى الا قليلا، بالاضافة الى سمعه الضعيف، يمتلك روح النكتة، تجد لديه السخرية مثل ممثل كوميدي لا يمتلك سوى السخرية المرة من حياته وواقعه، الذين حوله يعرفون تفاصيل حياته اكثر مما يعرفها عن نفسه.توقفت عنده.. وكان متكئا على حائط امام محل الصياغة المغلق، فكان المكان الصغير واحته التي لا يرى اجمل منها، ليس له علاقة بالدنيا ولا يرتيط بها الا من خلال ابنه الشاب الذي يبيع بالقرب من المرطبات، وثمة ترابط غريب بين الاثنين، ترابط انساني محزن ومثير للغاية، وهو ان الابن مصاب بالصرع وهو لايقوى على الحركة والمشي الا بالاتكاء على كتف ابيه، فهو يستفيد من قوة ابيه ليستند عليها، فيما الاب يستفيد من عينيّ ابنه لتدله على الطريق في الذهاب والاياب من والى سوق السراي، وهما يقيمان في غرفة في فندق في الكرخ!!!، لذلك عليهما كل يوم عبور جسر الشهداء سيرا على الاقدام، ومن الطريف ان تشاهد امامه كتبا ومجلات بلغات متعددة، اتكاءته تحتاج وحدها الى قراءة في فلسفة الوجود، ونظرته الساخرة تحتاج الى اساتذة في علم النفس لتفسيرها!!.
المهم.. انني حاولت ان اتحدث اليه واستل منه الجمل المفيدة، فقال: في هذا المكان صار لي 60 عاما، وكنت قبل ان اجيء الى هنا احمل الكتب في عربات في شارع الرشيد، حين كان سعر الكتاب خمسين فلسا، وكانت امانة العاصمة تطاردنا، كنا بـ(القوة) عايشين، انا رجل (فقري)، وجئت هنا ابيع الكتب التي اشتريها من الناس بالمفرد وبالجملة، وفي الاغلب التي تجلبها اصحابها لي من المحافظات، كنت في زمان الاول احصل على ثلاثة دراهم يوميا وهي كبيرة وتعيش بها عائلة سبعة ايام، وهذا كان الى حد الثمانينيات بعدها لم تعد الدراهم تنفع، ولكن في التسعينيات تحسن البيع عندي واصبحت اربح يوميا (1500) دينار، وانا هنا على الارض لانني لا املك (صرماية) استطيع بها ان افتح دكانا، واستقر به، لانني رجل (فقري) هذا حالي، فأنا ليس لدي سوى ابن عمره (30) عاما اسمه علي لكنه مريض، ونعيش معا في غرفة في فندق قديم بساحة الشهداء في منطقة الكرخ. واضاف حين سألته عن شهادته الدراسية ساخرا: (انا خريج كلية الزراعة ولكن لعدم وجود زراعة تركتها)، وبعد لحظات يقول: انا لا اقرأ ولا اكتب ولكن لدي ممارسة طويلة في بيع الكتب واعرف الكتب الجيدة من غير الجيدة، والمطلوبة من غيرها، اعرف هذا بحدسي ومن حركة السوق، والان احصل على ربح ما بين الف والفين نشتري بها خبزا وماء و (مطلعين العيشة)، اجيء في الساعة الثامنة صباحا واغادر في الثانية ظهرا، واترك كتبي في مكانها بالشارع، اغطيها بقطع الكارتون وهي في امان.
وحين سألته عن الكتب والمجلات الاجنبية قال: الكتب الروسية ليس عليها طلب على عكس الانكليزية، واعرف قيمة المجلات الانكليزية فأبيع كل واحدة بسعر ولكن ليس غاليا، وانا استطيع ان افرق بينها، اعرف ولا تسألني (شلون)، ألتقطت له صورا، لكنه كان يتحدث معي ان عسى ان يقرأ احد اللقاء بعد نشره ويجد لي حلا، بالعامية يقولها (يسوي لي جارة) !!!. (ولم يعمل له احد شيئا).
احد جيرانه من اصحاب محلات القرطاسية تحدث لي عنه قائلا: انا اعرفه منذ زمن طويل، وهو من اقدم الذين في الشارع، رجل لا يضجر ابدا لانه لاعلاقة له بأي شيء، والله يرزقه على مايأتيه، لكن مشكاته انه لايرى وابنه الوحيد عنده صرع، هو يحتاج ابنه حتى يوصيه بعينيه الى بيته، وابنه يحتاجه كي يتعكز عليه، لديه عزة نفس، فهو رغم حالته الصعبة لا يستجدي، ولكن يبيع الكتب والمجلات بذكاء، يستخدم صوته ويمزح مع المارة ويخلق نوعا من الاثارة في الشارع، البعض يأتيه بالكتب مجانا، ذات مرة اهداه احدهم مكتبة كاملة باللغة الروسية باعها بالجملة بسعر بسيط!!، واجمل اللحظات التي انا استمتع بها حينما يجمع كتبه ومجلاته في الزاوية ويغطيها بقطع كارتون ويذهب.
رحم الله ابو علي الذي سيظل مكانه مضيئا وستظل اعين الغادين والرائحين في سوق السراي تتطلع اليه وتتذكره بمحبة، سيفتقدك السوق والقرطاسية والكتب والمجلات التي لم تبعها، وسيفتقدك شارع المتنبي، نم قرير العين ايها الرجل الامي الذي اشترى وباع الكتب ومات ومن جسمه تنز رائحة الحبر.