نظم ملتقى سينما الجنوب للأفلام الوثائقية في دورته الثانية تحت إشراف جمعية ملتقى الجنوب للثقافة والفنون بتطاوين (جنوب شرق) ندوة فكرية حول quot;جمالية المكان في سينما الجنوبquot; بمشاركة عديد الخبراء والنقاد السينمائيين وهواة السينما وممثلين عن الجامعة التونسية لنوادي السينما.
وأوضح مدير الملتقى محمد راشد ورئيس جمعية ملتقى الجنوب للثقافة والفنون بتطاوين لـquot;إيلافquot; أنّ الهدف يتمثل في التعريف بالجهة وتراثها بما فيها من عادات و تقاليد إلى جانب العمل على تقريب السينما إلى المواطن في كل مكان من خلال عرض بعض الأفلام الوثائقية في الساحات العامة بعيدا عن الفضاءات المغلقة.

فضاء تجريبي
أكد مدير المركب الثقافي نيابوليس بنابل و الناقد السينمائي الطاهر العجرودي أنّ quot; اختيار الجنوب التونسي كفضاء تجريبي للدراسة والمقاربة بآعتبار أن الجنوب اليوم، كل الجنوب، أكثر من بطاقة بريدية سياحية يمكن أن تسوّق، أكثر من كثبان للرمال وواحات وقرى ومعمار، المكان في الجنوب التونسي واحات وقرى وأفراد وتراب يلامس الأرض لونا. وإني لأرى وقع القوافل بين الوديان وبين سفوح الجبال. إنه أكثر ما ترى العين، أعتقد أنه أرواح تتنفس، لعله أماكن مهجورة كانت عامرة، وبالمحصلة إنه أكثر من بدو تجمعوا في مداشر تشبه القرى، أكثر من قرى محطمة تشبه المدن اللقيطة لأنّ المعمار في الجنوب التونسي لا علاقة له لا بتاريخ ولا بجغرافيا هذا المكان.quot;.

علاقة المدينة بالفضاء الجغرافي
وطرح العجرودي في حديثه لـquot;إيلافquot; عددا من الأسئلة تبحث عن إجابات : ماذا أضاف الجنوب التونسي للحكاية في الفيلم السينمائي التونسي والأجنبي وتحديدا كمكان أو ديكورات ؟.
هل استفاد صناع السينما من مناخات الجنوب بأرضه و معماره وصوره وبشره وروائحه وطقسه وصوره من خلال حساسية الآلة السينمائية التي تلتقط الصورة في الجنوب التونسي في درجة رطوبة منخفضة ودرجة حرارة مرتفعة ليست نفس الصورة التي يمكن أن نراها و نلتقطها في الشمال التونسي أو الأوروبي ؟
ما هي الإمكانات النفسية والجمالية التي يمكن أن يوفرها الجنوب للصورة السينمائية فهناك مخزون وممكنات ومخرجات لإمكانية الشروع في المطالبة بأن يكون الجنوب التونسي منطقة مغلقة للتصوير السينمائي عوضا عن منطقة صحراوية عسكرية مغلقة وذلك للإستفادة وامتصاص مشاكل البطالة ؟.

مقاربة المكان السينمائي
واقترح الناقد السينمائي الطاهر العجرودي محاولات لمقاربة المكان السينمائي عموما والمكان السينمائي / الأستوديو في الجنوب التونسي مشيرا إلى quot;الجانب المعرفي الذي يتطلب منا الحديث عن المكان فبعض التعريفات تقول إن للمكان دور بارز في السينما لما له من أهمية الكشف عن الزمان والبيئة أو الفضاء الذي تدور فيه الأحداث فقد ظهرت نتائج السينما بعدة أزمنة منها الحاضر والماضي والمستقبل وقد تمكنت السينما من خلق مكان جديد له صلة بهذه الأمكنة، إنه أماكن داخل الأمكنة. quot;
وأشار إلى المكان الإفتراضي الذي يلعب الخيال دورا في نسجه مثل الأفلام الخيال العلمي والأفلام الغرائبية و اليوم تجاوزنا الحديث عن المكان العادي في السينما واختلقنا جماليات جديدة في أفلام الخيال العلمي وأصبحنا نتحدث عن مكانات جديدة (مهرجان مكانات التركي للمسرح والسينما).
ومن الوظائف التي يمكن أن نقارن بها هذا المفهوم الوظيفة التفسيرية للمكان حيث يجري تجسيد مظاهر الحياة الخارجية وأدوات لكشف الحياة الشخصية و النفسية و الثقافية والإجتماعية إلى جانب الوظيفة التعبيرية بالإعتماد على وقع الأشياء والإحساس بها وما تفيده من إحساس لدى المتلقي من خلال الإيحاء و الرمز التي يتم في ظلها بناء المكان من خلال تحديد خصائصه و ميزاته لإيجاد الحلول الجمالية.

الفيزياء في المكان السينمائي
وتحدث العجرودي عن الفيزياء في المكان السينمائي وخاصة في الأفلام التجريبية وأفلام الخيال العلمي والفنطازيا ولعل هذه المقاربة لا يمكن أن تكون بمعزل عن الزمان : المكان مرتبط بالزمان، فالعلاقة بينهما علاقة أساسية تشخص الواقع الفني في حد ذاته والذي يمثل البناء المكاني للصورة السينمائية.ويمثل الزمان بالنسبة للمكان بعدا رابعا فالعلاقة التي تربط الزمان بالمكان هي علاقة جدلية ومن ثمة لا وجود لأحدهما دون الآخر بمعنى أساسية هذه العلاقة لأنها تشخص جدلية في الحياة ففي الصورة،الزمان والمكان متداخلان ويمتزجان وحضورهما دائم قد يستحيل معه تناول أحدهما بمعزل عن الآخر.

جدلية المكان و الزمان
طرح أسئلة أعمق حول جدلية المكان و الزمان معتقدا أنها لم توضع بعد :
bull;هل تم توظيف الجنوب التونسي في كل التجارب السينمائية التي شاهدناها توظيفا بريئا ؟
bull;هل كانت مقاربة الأنتروبولوجية التي تضبط الجنوب بآعتباره مكانا إداريا دورا في تصوير أغلب الأعمال التي نشاهدها سواء في السينما الوطنية التونسية أو في السينما العالمية ؟
bull;هل استطاع المخرجون الخروج من فقر المكان الطبيعي بآعتبار وحدته المغلقة إذ يفتقر إلى الفضاء الهندسي (الألوان والمقاربات الجمالية الأخرى وهنا نذكر فيلم quot;الأرضquot; للطيب الوحيشي والذي يعتبر من المحاولات السينمائية القليلة التي استطاعت إبراز المكان رغم الفقر الجمالي وهو ما نلاحظه في صحراء الجنوب التونسي ) ؟.
bull;هل كان المكان في الجنوب التونسي (تطاوين تحديدا) محايدا أي أنه لم يتدخل بشكل من الأشكال في الأعمال السينمائية التي تم تصويرها ؟ والجنوب التونسي ليس فضاء سينمائيا حكرا على الأعمال التونسية بل هو فضاء أيضا لأفلام عالمية ذات شهرة واسعة ومثال ذلك فيلم quot;حرب النجوم quot; الذي صور في الجنوب التونسي وأصبح ديكوره اليوم معلما سياحيا إضافة إلى الفيلم الأنقليزي quot;المريضquot; والجنوب ليس فضاء مصورا فحسب بل فضاء شعر وأدب ورسم وهذا مجال آخر.
bull;
صورة الجنوب التونسي و السينما التونسية
وأوضح أنه يمكن الجزم أن صورة الجنوب التونسي لصيقة وموازية لميلاد السينما التونسية ونذكر فيلم quot;الفلاقةquot; لعمار الخليفي (1969) ثم فيلم quot;السفراءquot; للناصر القطاري (1979) وتوج في أيام قرطاج السينمائية في نفس السنة بالتانيت الذهبي وكان انطلق بمشهد عام في جبال حمراء من الجفاف مبررا هجرة العمال في مرحلة أولى الى العاصمة تونس في اطار رسكلة حتى يكونوا أفضل سفراء في انتظار الهجرة إلى أوروبا.. وكان البروز القصير للحنوب في هذا الفيلم قويا واعتمد عليه المخرج ليقابل هذه الهجرة وهذا البعد و الإفتراق من مكان إلى مكان آخر أكثر خضرة وماء وجمالا في تناقض غريب بعيدا عن النقاط النفسية والإجتماعية للمكان.
وكان فيلم quot;الأرضquot; (1982) للطيب الوحيشي الذي لم يجسد الجنوب الى المجتمع الغربي كصورة فولكلورية ثم جاء فيلم quot;موسم الرجالquot; لمفيدة التلاتلي وبالتالي هل اختيار الجنوب كفضاء فيلمي هو اختيار المخرج أم يتجاوزه للسطو من داخل السيناريو.

تجربة ورزازات المغربية واستغلال الممكنات
وبيّن العجرودي أنه :quot; رغم أننا كنا متقدمين على التجربة المغربية بمنطقة quot;ورزازاتquot; التي أصبحت اليوم في الجنوب المغربي قطبا وصناعة سينمائية تشكل دخلا قوميا ثالثا بعد السياحة والفسفاط، فلم لا يكون الجنوب التونسي بتضاريسه و جباله ورماله وكهوفه و مغاوره وقراه البربرية الجبلية وواحاته فضاء ومناخا للتصوير وتبقى مشكلة عشرات المخرجين العالميين الذي قابلتهم في مختلف دول العالم تتمثل في التشريعات المعرقلة وقد حاول منهم الكثير القدوم الى تونس لتصوير افلامهم ولكن ما لبثوا أن هاجروا إلى المغرب حيث التسهيلات.
وطالب بآستغلال quot;هذه الممكناتquot; إلى جانب بعث معهد متخصص في تكوين الصناعات الخفيفة للسينما في الصناعات التقنية وملتقطي الصوت والصورة والكومبارس وصناعة تكوين الممثلين لمن يملك الموهبة وله هواية وهؤلاء يكونون جاهزين عند قدوم أي منتج عالمي للتصوير وهذا من شأنه أن يحدث نقلة نوعية ثقافية و اقتصادية في الجنوب التونسي.

المكان : مستقطبا لا منفّرا
أشار أحمد الجلاصي المخرج السينمائي والأستاذ الجامعي الذي أخرج أخيرا فيلما وثائقيا quot;أمراء في بلاد العجائبquot; تحصل على عديد الجوائز و تناول فيها بالدراسة ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تشهدتها تونس والتي أخذت منحى تصاعديا بعد الثورة مباشرة، إلى أفلام الناصر خمير وتوظيف الصحراء من خلال مقاربة المكان انطلاقا من ذهنية المتلقي.
واكتشف الجلاصي من خلال حديثه مع quot;الحرّاقةquot; ( المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا و ايطاليا..) جمالية المكان الذي غادروه بعد سنتين من الثورة، ماذا بقي لديهم من الجنوب التونسي. وقدم مقاربة نفسية اجتماعية لجمالية المكان في متخيل المهاجر التونسي غير الشرعي الذي يريد أن يعود إلى quot;مكانهquot; بعد quot;مقارنة المكان بالمكان quot;.
وأوضح لـquot;إيلافquot; أنّ لهذا المكان بقدر ما هو طارد بآعتبار الظروف المناخية الصعبة بقدر ما هو ساحر ونفسي وساكن في الذات. ولا بد اليوم من الإعتناء به لكي يكون مكانا مستقطبا بدل أن يكون مكانا منفّرا وطاردا للسكان.

الصورة و استراتيجية التنمية
تحدث نجيب منصّر أستاذ المعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة عن المكان كفضاء فيلمي وقدم مقاربة حول النظرة السلبية للجنوب التونسي وكيف تم توظيف ذلك. وأضاف متحدثا عن تجربة الإستشراق من خلال لمحة تاريخية عن المستكشفين الأوائل الذين زاروا ومهدوا لدخول الإستعمار الفرنسي وقدموا صورة ساحرة ومغرية كيف أنه فضاء بدائي ومتوحش قابل للإستثمار ودخول المعمرين وكانت بالتالي وسائل ترغيب.
وبيّن منصّر لـquot;إيلافquot; كيف لعبت الصورة دورا رياديا في استقطاب هؤلاء المعمرين وبالتالي فقد طالب في نهاية مداخلته باستمثار ذلك وكيف يمكن أن نستغل صورة الجنوب التونسي في اتجاه عكسي من خلال تقديم صورتنا نحن كما نراها وكما نرتضيها لأنفسنا لا كما يراها الأجنبي ويوظفها وذلك من أجل استقطاب هذا الزائر لأننا في حاجة إلى التواصل مع الآخر تواصلا و تلاقحا ثقافيا سيضيف إلى مسألة التنمية عن طريق الثقافة اعتبارا إلى أن السينما اليوم هي مكون أساسي من مكونات الثقافة وبالتالي يجب أن تكون عجلة رابعة للتنمية بدلا من أن تكون عجلة خامسة.
وشدّد بالتالي على ضرورة تنظيم هذا القطاع وتحويله إلى تجارة تنتج تنمية من خلال ترويج حقيقي للصورة في اطار منظومة اشهارية ذات منحى تجاري وهو ما يتطلب استراتيجية.