صدرت، قبل أيام، الطبعة الفرنسية لأول أنطولوجيا عن الشعر الصُّوريّ التي وضعها عزرا باوند، عام 1914 قام بترجمتها إلى الفرنسية فيليب بلانشون. لكن أهمية هذا الكتاب اليوم محدودة بالفرنسية، فبعد أن تكشف التاريخ المفصل لهذا التيار الشعري الذي يعتبر نقطة انطلاق الشعر الحديث في انكلترة، لا تعود هناك أهمية كبرى لهذه الانطولوجيا وانما ستبقى ضمن الاطار الوثائقي كأول محاولة لاعطاء صورة عن كيف يجب أن يكون الشعر صوريّا، وكاحتفال بالذكرى المئوية لصدورها. كما أن النماذج التي ضمتها هذه الانطولوجيا ليست جديرة بالتسمية الباوندية المحض لما يجب أن تكون الصُّوريّة، باستثناء قصيدتي الدنغتون quot;الحديقة القديمة، وquot;إلىرخام اغريقيquot;، وربما بعض قصائد واتش دي وايمي لويل، (المكتوبة وفققوانين الشعر الحر المتحررة من الوزن الكلاسيكي... وربما لهذا السبب اختارها باوند). فالانطولوجيا خليط من قصائد متضاربة بين الكلاسيكية،الرمزية، والانطباعية والدينيية والمتأثرة بالصينية كقصائد باوند. وقد ضمّت الانطولوجيا أشعار الدينغتون، أتش. دي.، فرانك ستيوارتفلنت (ربما هو الانجليزي الصوري الوحيد)، كانيل، ايمي لويل، وليام كارلوس وليمز، جيمس جويس، عزرا باوند، فورد ماكس فورد، وقصائد نثر لالين أبوورد والصحافي الروسي الأميركي جون كورنوس. ولم تضم أية قصيدة لاليوت، لأنه تعرّف على باوند بعد صدورها.ومعظم قصائدالأنطولوجيا لاتلبي، أبدا،مفهوم باوند لهذه الحركة الموضوع بثلاثة بنود في مقال فلنت الذي ساهم في كتابتهباوند، جون أن يوقّع:(1/معالجة مباشرة للشيء، سواءكان ذاتياأو موضوعيا، 2/ عدم استخدام أية كلمة لا تساهم في العَرْض، 3/ أما بصدد الإيقاع، فيجب التأليفُوفقَ تتابع إيقاعالمقطع الموسيقي، وليسوفقَ تتابعبَنْدُول الإيقاع). والبنود هذه تكشفعن دعوة باوند إلى quot;الكلمة الدقيقةquot; رغبةًبإنهاء الارث الفيكتوري وبقاياه الرومانسية في الحقبة الادواردية، التي كانتمسيطرة في الشعر باستعارتها المبتذلة ونعوتها التزويقية.

حين وصل عزرا باوند إلىلندن عام 1909، اتصل، فورا،بالكتاب والشعراء الجدد، وبما أنه كان جد مثقف ويعرف لغات عديدة خصوصا اللاتينية والفرنسية والصيينة، أستطاع أن يفرض حضوره القيادي. وقد انضم الى نادي الشعر الذي كان يلتقي أعضاؤه في مطعمquot;برج ايفلquot; فيحي سوهو. ومؤسس هذا النادي كان الشاعر والناقد هولم. وهولم كان أول من قدّم فلسفة هنري برجسون إلى الانجليز، مع عدة مقالات شرحية لنظرية هذا الفيلسوف، لكنهتوفي شابا في الجبهة وترك خمسة قصائد صغيرة طبعها باوند تحت عنوان quot;أعمال هولمالشعرية الكاملةquot;.وكان أعجاب باوند بهولم بسبب اهتمام الأخير بفلسفة برجسون؛ اهتمام بيّن لباوند مبدأ جديدا من الضروري اضافته إلىمفهوم تمرده على رتابة الوزن الكلاسيكيوالتقاليد، هو أن اللغة الشعرية ينبغي لها المضي قدما بصور مرئية صلبة تعطي إحساسات جسمانية مادية.أي أن تتمثّلالصورة مُركّبا انفعاليا وثقافيا في لحظة من الزمن.

المهم، استطاع باوند انْ يلمّ شمل هؤلاء الشعراء تحت يافطة جديدة هي quot;الصُّوريّونquot;. وأواسط 1913 أخذت البيانات والتصريحات تنتشر باسم الصوريين، فتسرّع باوند إلى إصدار هذه الانطولوجياغير المدروسةالتي وضع لها هذا العنوان الفرنسي Des Imagistes quot;صوريّونquot;. والغريب أن الأعضاء الانجليز لم يفهموا لماذا اختار باوند هذا الاسم الفرنسي، فهل يعني بعض الصوريين، او صوريون غير معرفين؟ ناهيك عن أن لا أحد منهم فهم فعلا ماذا تعني الصورية. فها هو الدنغتون، في عرضكتبه عنالانطولوجيا، يتساءل: quot;لماذا نسمّي أنفسنا صوريين؟ لِمَ لا.فهي تفصلنا عن الحشد الكوني، وتبعدنا كذاك عن عصابة الفن التجريدي، كما أنها تزعج مجموعة من الحمقىquot;. لا يوجد أي بعد فكري أو حركي لها في كلامه، سوى أنها فزّاعة.وقد اصدرت المجموعة انطولوجيتين تحت عنوان quot;بعض الشعراء الصوريينquot; عام 1915 و 1916.

في الحقيقة، إن مغامرة باوند الصوريّة لم تدم سوى عامين، إذ سرعان ما أخذ يعيد كتابة مفاهيمه الشعرية في ظل التيار الجديد مع ويندهام لويس المسمى quot;الدوّاميّةquot;. وليس هناك فرق كبير بين الصورية والدوّامية، سوى أن الأولى باهتةتفتقر إلىبعد حركي وتعريف مدرسي دقيق،وquot;لأنها لمتكن بنيانية، فشلتquot;، كما يقول وليامز، أما الثانية فهي أكثر هيكلية وبياناتها أكثر صدامية مما سمحت، في نظر باوند، للشعر أن يدخل معمان التاريخ ودواميته.

على أن مدافع الحرب العالمية الأولى غطت على كل أصوات التحديث الشعري، مما أضطر باوند أن يترك انكلترة نهائيا في مطلع عام 1920. وهكذا بقيت مفاهيمه الجذرية في تحديث آلة الشعر، غير مفهومة لمعظم الانجليز الذين ظلوا انجليزيين، ربما باستثناء الأميركي الأصل تي أس اليوت الذي هو الوحيد الذي فهمعبقرية باوند الشعرية، وخير برهان على ذلك قبول اليوتبالعملية الجراحية التي قام بها باوندلمخطوطته quot;الأرض الخرابquot; التي تحولت إلى أعظم عمل شعري في القرن العشرين، بعد أن مر مشرطُ باوند حذفا وتنقيحا لكل أبياتها.

من بين القصائد المنشورة في هذه الانطولوجيا، تبقى قصيدة باوند quot;العودةquot; هي الأقوى والنموذج الأقرب لتيار الصورية. قال عنها ييتس quot;إنها تعطيني كلمات أفضل من كلماتيquot; (ويقصد بكلماتي، ما جاء في قصيدته quot;المجيء الثانيquot;). ولفائدة القارئ ننشرما كتبه روزنتال من تحليل لها،ترجمه إلى العربية جميل الحسني:

(... إن قصيدة quot;العودةquot; تجسم بصورة رائعة quot;العالم المشع حيث تقطع كل فكرة الفكرة الأخرى بموسى حادةquot;. إن الآلهة الأبطال الذين نعرفهم من الماضي السحيق، والذين لا وجود لهم بالنسبة إلينا إلا عن طريق الأدب، قد عادوا إلينا وقد فقدوا ثقتهم في أنفسهم:

انظر إنهم يعودون، راقب حركاتهم
المرتابة وأقدامهم البطيئة،
والاضطراب في الخُطى
والتردد، والتذبذب.

إن في هذه القصيدة وزنا إيقاعيا يعتبر مظهرا عضويا للصورة التي نتخيلها. فقد زاد الشاعر بعض المقاطع الإضافية الخفيفة على quot;تفعيلةquot; القصيدة من وزن الـ Dactyl. كما أضاف بعض المقاطع المشدّدة في مطلع القصيدة، وأدخل تفعيلة جديدة من نوع الـ Iambic في أول البيت الثالث فكان لهذه التعديلات أثرها المقصود في إحداث أثر الغرابة في بداية القصيدة مباشرة أعقبه تصحيح الوضع بادخال وزن بطيء يوحي بالارتباط العاطفي المشفق مع الظلال الجسدية والنفسية.
أما الجزء الثاني من القصيدة فيتوسع في وصف جبن هذه الآلهة وترددها ويساعد على سرعة وضعها تحت العدسة الفاحصة. وتكتسب القصيدة مزيدا من تأثير الشعور بالحدة من جراء إضافة بعض التفصيلات المثيرة والتشابيه الحية في حين أن الجزء الأول منها يكاد يقتصر اهتمامه على مجرد إحداث تأثيرات عامة توحي بالتردد في الحركة:

انظر، إنهم يعودون، الواحدَ تلو الآخر،
وهم خائفون، وشبه أيقاظ؛
وكأنّ الجليد يجب أن يتردد
ويهمس في أذن الريح،
ثم يعود نصف دورة للوراء؛
أولئك كنّا نعرفهم بالمجنحين ذوي الرهبة
ممن لا يٌمسون أو يقهرون.

والبيتان الأخيران يجعلانا ندور إلى الوراء لنواجه الماضي مباشرة. ثم يأتي الجزء الثاني من القصيدة فيحيي المعنى القديم للوجود البطولي. وبهذه الأبيات السريعة الثلاثة استطاع الشاعر أن يستعيد عالما بأكمله:

آلهة من أصحاب النعال المجنّحة
ومعهم كلاب فضّية
تشمُّ آثار الهواء

وفي النهاية يتبدى انتهاء quot;الرؤياquot; الذي لا مفر منه، ولكنه لا يأتينا دفعة واحدة وإنما في أربعة أبيات يظهر خلالها الإحساس الجازم بذلك. ويؤكد الشاعر معنى quot;الانتهاءquot; باستخدام الفعل الماضي وبذلك تتحول القصيدة إلى رثاء:

هاي... هاي..
هؤلاء كانوا أسرع من أن تمتد أيديهم للتخريب
هؤلاء كانوا ذوي أنوف حادة الشم
هؤلاء كانوا أرواح الدم.

وفي ختام القصيدة تعود الخطوات المترددة من جديد، فنرى هؤلاء الآلهة الأبطال في حالهم الجديد. والأمر الواقعي الوحيد الذي يتبقى لنا هو إحساسنا بالهوة التي تفصل بين الرؤيا والحقيقة:

ببطء يسير المقيدون
شاحبون أولئك المقيدون
.quot;