نظر فيما حوله فلم يجد غير الفراغ. لم ير غير رتابة الأشياء تفرض نفسها فى إصرار مميت. رأى الظل الخانق لكل روح مُهملة، الظل الذى يشنق خيال النوافذ والأشجار. رأى الطرقات ككومة قش تنتظر الحريق المنقذ لها. رأى منازلَ متناثرةً غبية مثل لفة من الصوف المليء بالعقد العصية على الفك.. منازل مقززة كالشوك فى الأزهار. رأى الجنون يحيط به ولا طاقة لديه تعينه على المقاومة حتى وإن كانت وهمية. رأى العجائز الهاربين من الموت ينظرون إليه فى لا مبالاة صريحة. رأى أبناء العجائز لا يدركون ما بداخلهم ويصرون على السير فى طريق آبائهم نحو الفرار من الحياة فى قوراب الموت اللامرئية. رأى نفسه وحيدا، ورأى وحدته تصاحب كلبً ضالاً أو قطة مقرفة متملقة بلا فائدة. رأى وصوله إلى هناك مشابهًا لمغادرته مكانه الأول ndash; اللامعلوم سلفًا. رأى فيما يرى النائم هلاوس الكوابيس التى لا تتوقف تلاحقه مثل ملاحقة كريستوفر كولومبس لمن أسماهم الهنود الحمر والتعمد فى إبادة حضارتهم، رأى... ورأى كل ما يدلل على خساراته القادمة واللاحقة.
هو الزائر الفاقد الاسم والفاقد للماهية والهوية فيما عدا أنه زائر جديد قد حَلَّ فى مدينة الأخطبوط، تلك مدينة منسية هناك، مدينة تكره الغرباء وعابرى السبيل، مدينة بلا ضوضاء أو طموحات، مدينة صامتة ومنازلها مختبئة بين التلال الخضراء.
هو المحال فى دائرة اللااحتمال، هو السفر المتواصل فى السفر، هو المولود ضيفًا فى كل مكان حل به، هو اللاعودة واللاماضى واللامستقبل، هو الحاضر الآنى المكروه دومًا... هو مجرد زائر غريب ولن يتجاوز ذلك أبدا.
النهارات هنا فى مدينة الأخطبوط جاحدة، صلبة، عنيدة، لئيمة، الشمس فيها والظل لاعبان محترفان للقمار والمراهنة، والليالى فيها تخلو من أناسها ما عدا نقيق الضفدع السرمدى، هنا صياح الديك نذير شؤم، وهنا القمر أخرس والنجوم عاهرة لا تفصح عن شيء إلا بمقابل، هنا أرض المقايضة الأزلية، تدفع تنلْ وإلا فأنت محروم للأبد.. هنا الحانة لا تليق بك ولا تغفر لك دخولك رُغما عنها، هنا الزائر وسط مدينة الأخطبوط بلا هدف، فقد جاء لأنه فقط أراد المجيء، ولكنه نسى أن هذه المدينة ترفض إرغامها على شيء، وأن عقابها أشد عذابا ووطأة.
جاء الزائر وصار المنسى فيها، جاء وباتت لغته الأم منسية فيه، هو الآن المنسى فى لغته وحركاته التائهة فى طريق الخرس، وكل ما تبقى له هنا بعض من بقايا اللغة البدائية، اللغة الأصل قبل أن تفرض الحضارات هيبتها عبر حروف يُتعارف على معناها من أجل فرض الهيمنة والسيطرة، بقى له الآن لغة الإنسان لأخيه الإنسان فيما قبل الحضارات، بقيت له لغة الإشارة والحركات اليدوية، ولكن حتى ما بقى له كان محل رفض من العجائز والأبناء والأطفال، فمدينة الأخطبوط عندما تلفظ رجلا ما فلا حيلة تصلح لحل تلك المشكلة.
فقط تلك المرأة البدينة والتى تدعى quot;الريح الثقيلةquot; هى من كسرت قاعدة مدينة الأخطبوط، بل تجاوزت ذلك ودعته لمنزلها، quot;الريح الثقيلةquot; يعرفها الجميع ويتجاهلونها فى ذات الوقت، الكل يعرف أنها تصاحب الشياطين، وأن منزلها مليء بالأشباح، وأنها تستأنس بالجنون ليلا، وكم من الحكايات عُرفت عنها وذاعت كوباء الكوليرا منذ أعوام.. قبل أن يحل الزائر طبعا، وقِيل إنها سبب هجوم الكوليرا على المدينة، وكم من الضحكات الشامتة، الساخرة قُوبلت بها quot;الريح الثقيلةquot; فى الذهاب والمجيء، يقولون عنها هنا أن لها أبًا خلف التلال الخضراء، أب أصابه الزهايمر منذ فترة بعيدة، وأنها لم تكترث بنسيانه لها، أب غريب الأطوار مثلها، يتحدث طوال الليل دون توقف، وينام واقفا، أب يملك كوخا صغيرا فى قمة التل الأخضر، يقولون هنا أنه يأكل التراب والصخور، ويستحم بالهواء، ولا يتغوط أبدا، أب كان يخترع الأساطير ويخطها فى أوراق نتداولها فى الزمن الغابر، أب تُوفى أمام أعينهم ألف مرة وفى كل مرة يصحو ويذهب للتل الأخضر يتحدث دون توقف، الزائر الجديد ndash; بالطبع ndash; لم يدرك بداية كل تلك الحكايات بسبب حاجز اللغة وبسبب أن الريح الثقيلة لم تكن ترى فهمه لهذه الحكايات أمرا ذات أهمية له.
كانت المرة الأولى للزائر التى ينام فيها أسفل سقف وبين جدران أربعة بعد عام ونصف من قدومه هنا، عام ونصف قبل تلك الليلة قضاها فى الشوارع والأزقة وعلى حافة المدينة، عام ونصف حفظ فيها كل سنتيمتر من الطرقات والأرصفة وكأنه مراقب دولى أو حقوقى يرصد انتهاكات الهواء والصمت وطريقة التكيف مع اللاشيء فى مدينة الأخطبوط، عام ونصف راقب فيها الأب فى التلال الخضراء وراقبته quot;الريح الثقيلةquot; وكأنهما لصان يبحثان عن اللحظة الحاسمة للقيام بسرقة كبيرة.
الأب المصاب بالزهايمر أو الرجل الذى يخترع الأساطير كما يُلقب هنا، رجل طويل، يقترب من السمنة ولم يصلها بعد، شعره أجعد وله حاجبان كثيفان كشمسية تظلل عينيه، وعيناه كالصقر دائما، إنه رجل نسى كل شيء ولكنه لا يتوقف عن الحديث عن كل شيء وإن كانت جمله غير مترابطة الموضوع والهدف.
حاولت كثيرا quot;الريح الثقيلةquot; أن تكتب ما يقوله والدها وتقارنه بسابق حكاياته قبل مرضه بالزهايمر بغرض المقارنة ولكنها وجدت حديثه لا يمت بصلة لحكاياته القديمة برغم تكرار بعض الأسماء من حين لآخر، فكفت عن متابعته وأدركت أن شياطين اللغة هى التى تتحدث بدلا عنه.
الزائر والشياطين وquot;الريح الثقيلةquot; فى منزل واحد، شيء يستدعى الانتباه والفضول من جانب أهل المدينة.
quot;الريح الثقيلةquot; لها ابتسامة ساحرة، وتحفظ العالم بين نهديها الكبيرين على حد قولها هى عن نفسها، امرأة من لحم فقط وتخلو من العظم هكذا وصفها الزائر فى لحظة مرح، شيء ما ربط بين الزائر وquot;الريح الثقيلةquot; قد يكون حنينه للأمومة، أو قد يكون الهروب من وحدته وقد يكون رغبته فى معرفة العالم الذى تخفيه فى نهديها وقد يكون من جانب quot;الريح الثقيلةquot; حيث إنها تود الاحتماء فى زائر جديد، زائر أو عابر سبيل قد يتحول لمواطن من المدينة وقد يظل عابر سبيل فيرحل بعد أيام، مرت الليالى التى تجمعهما معا تلك الليالى التى شهدت أصوات مرحة وتأوهات وصلت للعجائز فى عقر دورهم، ليال حاولت فيها quot;الريح الثقيلةquot; معرفة ماهية الزائر من الداخل ولكنها فشلت بسبب حاجز اللغة، وتأكدت أن الزائر مثل أبيها مريض بمرض اختراع الحكايات والأساطير، وعرفت وقتها لماذا كان يراقب الزائر والدها، وبمكر المرأة وبفضولها الذى لا ينقطع بعكس دورتها الشهرية، أخذته للتلال الخضراء وجمعت بين الاثنين وظلت تراقبهما، فى البداية تحدث الاثنان كلٌّ بلغته دون توقف خمس عشرة ليلة، وفى الليلة السادسة عشرة توقف الزائر عن التحدث بينما الأب لم يتوقف، ثم حدث العكس فى الليلة العشرين توقف الأب وبدأ الزائر فى التحدث دون توقف، كانت quot;الريح الثقيلةquot; أثناء نهارات تلك الليالى تعود لبيتها ولشياطينها وسط نظرات متسائلة عن مكان الزائر المختفى، وكانت لا تجيب سوى بابتسامتها الساحرة الماكرة.
فى الليلة الثلاثين وبينما الريح الثقيلة فى منزلها هبَّت عاصفة شديدة وأحاطت المدينة من كل اتجاه، وعلا صوت نباح الكلاب كالسرطان، وهاجت القطط وأصبح مواؤها مقززا وغير متقطع، الضفادع اختفى نقيقها، وصار الهواء محملا بالخوف، العجائز أمام منازلهم ينظرون العاصفة وهم فى رعب شديد، وفجأة عند غروب الشمس عاد الزائر وهو يحمل الأب ميتا على كتفه، وضعه برفق فى الساحة الكبيرة، الريح الثقيلة أسرعت كالبرق وانحنت على والدها وبكت ولطمت خديها وحلت شعرها ومزقت جلبابها، وقفز نهداها لملامسة وجه الأب وأخيرا وضعت حلمتها فى فمه وقررت إرضاعه من جديد، أثناء ذلك كان الزائر يراقب العجائز والأبناء فوجدهم لأول مرة ينظرون إليه باهتمام وتساؤل وحيرة، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على محادثته حتى ولو بإشارة يدوية، انحنى الزائر على الأب ونزع من فمه نهد الابنة وحمله متجها لمنزل quot;الريح الثقيلةquot; ودخل ومن ورائه الابنة المنهارة، وأوصد الباب وراءه وهو يعلم أن الجميع زحف وراءه للمراقبة والفضول.
بعد ساعة عاد الصمت وهدأت العاصفة، وأدرك الجميع أن الزائر ما هو إلا شيطان آخر من شياطين quot;الريح الثقيلةquot; وأن رجل اختراع الأساطير - الأب- سيصحو عند الفجر وسيعود للتلال الخضراء يتحدث دون توقف.. هنا عبرت مجموعة من الحمام الأبيض والأزرق اللازوردى ساحة المدينة الكبيرة دون أن يراها أحد حيث كان الجميع لا يزالون ndash; كعادتهم فى كل مرة يموت فيها الأب ويصحو- واقفين أمام منزل quot;الريح الثقيلةquot;.