بمناسبة صدور كتابه عن "اللهجات الكردية الجنوبية" والفيلية، مع تمهيد موسع حول لهجات وهوية الكرد الفيليين، وعن اللك، واللر، وعن المجموعة اللهجية الكورانية- الزازائية، واختيار الأبجدية، وتوحيد اللغة.
قلما نشهد صدور كتاب بذل المؤلف من أجله عدة عقود من حياته، وكتاب "دراسة اللهجات الكردية الجنوبية" هو أحد هذه الكتب القليلة، وهو يعد من أضخم الدراسات الميدانية في مجال اللغات واللهجات الكردية والإيرانية.
وفي هذه الأيام التي تشارف صدور الكتاب في بغداد بنسخته العربية المنقحة والمزيدة ببضعة فصول ومواد إضافية قياساً بنسخته الفرنسية الصادرة في 2001 في باريس، فقد أجريت هذه المقابلة مع د. إسماعيل قمندار لإطلاع القراء على المضامين الرئيسية لهذا الكتاب الذي سيشكل منعطفاً مهماً في تعميق المعرفة في الواقع اللهجي الكردي، وإسهاماً كبيراً في عالم الدراسات الكردية والإيرانية، وإثراءً لمعلومات وثقافة قراء العربية بعلم اللغات و اللهجات وبالثقافة الكردية.

د. جواد بشارة: هل لك أن تعرض للقارئ فكرة مختصرة عن محتوى هذا الكتاب المهم؟
د. إسماعيل قمندار: تشكل دراسة النظام القواعدي لفروع ولهجات عشرات المدن والمناطق الكردية الجنوبية غير المطروقة أو المدروسة في معظمها، مثل خانقين، مندلي، إيلام، كرمنشاه، وكلام عشائر مثل كلهر، وملكشاهي، واركواز، وبيري، وكردلي، الخ، الجزء الأكبر من الكتاب الذي يبلغ عدد صفحاته الألف وأربعين صفحة. وأقصد هنا بدراسة النظام القواعدي دراسة الأنظمة الصوتية والصرفية والنحوية لهذه اللهجات. بالمقابل يمثل التمهيد الموسع بصفحاته المئة وعشرين كتاباً بحد ذاته، فهو يضم مواضيع مهمة وحساسة تتعلق بهوية بعض الشرائح الكردية التي تعرضت إلى تنظيرات وأخطاء حول لهجاتها أو حتى أحياناً حول انتمائها العرقي، فضلاً عن توضيحات تاريخية ولهجية جوهرية حول الكرد اللك، وعن اللر، وعن المجموعة اللهجية الكورانيةـ الزازائية إلى جانب شروح مهمة وضرورية حول الكرد الفيليين. كما ويحتوي هذا التمهيد الموجه لكل صنوف القراء على موضوعين مهمين مازالا يشغلان قطاعات واسعة من الكرد، وهما مسألة اختيار الأبجدية المناسبة لكتابة الكردية، وموضوع توحيد اللغة الكتابية الكردية.
وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب يتضمن في فصله الأخير قصة "ذات القدم الذهبية" التي تقابل قصة سندريلا. وقد دونتُ النسخة الكردية الجنوبية المقابلة لهذه القصة بكلام خمس عشرة منطقة لهجية جنوبية.

-&ما هي الخصوصيات التي تميز هذه الدراسة عن غيرها من الدراسات التي يمكن مقارنتها بها؟
- يتطلب الجواب على هذا السؤال صفحات طويلة، وسيجيب عليه في المستقبل قسم معين من القراء والمتخصصين، إلا أن ما أستطيع قوله هنا هو إن أبحاثي اللغوية كلها ميدانية، أي أن اللهجات أو التفرعات اللهجية الكردية الجنوبية التي درستها تمت عبر لقائي المباشر وتحليلاتي لكلام الكرد الجنوبيين من مختلف مناطقهم، ودون الاعتماد على دراسة مكتوبة، وذلك بسبب صعوبة الاعتماد عليها.

-&كيف تم اختيار هذا الموضوع تحديداً كمجال لبحثك العلمي؟
-&في الوقت الذي جرت أبحاث لغوية منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين على اللهجات الكردية الكبيرة مثل الكرمانجية والسورانية، إلى جانب الزازائية من قبل مستشرقين غربيين وروس وغيرهم، ومنذ بضعة عقود من قبل عدد متزايد من الكرد، لم تحظ اللهجات الكردية الجنوبية بنفس الاهتمام والفرص عدا كتابات جزئية قديمة حول مناطق محدودة لهذه المجموعة اللهجية. وكان ذلك في النصف الأول من القرن الماضي وبشكل لا يمكن اعتماده كمرجع علمي. وانطلاقاً من هذا التشخيص، فقد بادرت تدريجياً منذ مايقارب الأربعين سنة، وضمن دراساتي الجامعية أولاً، بتبني هذا الموضوع عبر قيامي بأبحاث لغوية ميدانية مع أقسام من متكلمي اللهجات الكردية الجنوبية في الطرفين العراقي والإيراني اللتين تضمان أقساماً من هذه المنطقة اللهجية. ولقد حرصت طوال هذه السنين على تبيان الأهمية اللهجية لهذه المنطقة الكردية الشاسعة التي ظلت مجهولة القيمة رغم التنوع الملفت لتفرعاتها.

-&بعد إنجازك في 1988 لأطروحة دكتوراه الدولة من جامعة باريس حول اللهجات الكردية الجنوبية، أصدرت كتاباً في 2001 باللغة الفرنسية حول هذا الموضوع الكبير الذي قمت بتوسيعه بما يقارب ثلاثة أضعاف المناطق المدروسة في أطروحتك ليشمل أوسع رقعة لغوية كردية ممكنة. وقد صدرت النسخة الفرنسية عن أرقى دار نشر غربية متخصصة في علم اللغات "وهي بيترس"، وأصبح يشكل مرجعاً لغوياً ولهجياً في ميدان علوم الكرديات والإيرانيات في الجامعات الغربية والأمريكية. واليوم قمت بترجمة الكتاب إلى العربية مع إضافة بعض الفصول إليه كما أسلفت ذلك أعلاه. وسؤالي هنا هو: لماذا اخترت اللغة العربية وأنت توجه كتابك بشكل رئيسي للقراء الكرد؟
-&باعتباري ابن بغداد، وأجيد اللغة العربية التي أكملت بها دراستي الثانوية، فإن ذلك ساعدني على ترجمة هذا الكتاب الضخم من الفرنسية إلى العربية، علماً بأن الكرد الجنوبيين العراقيين يجيدون جميعهم اللغة العربية، وكذلك الأمر بالنسبة لجزء مهم من الكردستانيين العراقيين، وكذلك أيضاً لقسم من الكرد الجنوبيين في إيران. وفي هذه الحالة ستكون هناك إمكانية أكبر لترجمة الكتاب من العربية إلى الفارسية، أو من العربية إلى الكردية السورانية، بل وحتى إلى الكردية الكرمانجية، حيث أن ترجمته من العربية إلى تلك اللغات أسهل من ترجمته من الفرنسية. ومن جهة أخرى يهمني شخصياً تعريف القارئ العربي وإطلاعه على جوانب من الثقافة الكردية وإتاحة الفرصة للطلبة وللباحثين العرب والكرد بطبيعة الحال في علم اللغات واللهجات في الجامعات للانتفاع من محتوى ومنهج هذا البحث الميداني الواسع، وكذلك فهم طبيعة اللهجات الكردية.

-&ماهي الدوافع التي حفزتك على اختيار هذا الموضوع الدراسي الواسع؟
-&هناك سلسلة من الأسباب لذلك، وعلى رأسها رغبتي الشخصية قبل البدء بهذه الأبحاث، بفهم لهجتي وثقافة وتاريخ طائفتي الكردية الفيلية ثم ثقافة الشعب الكردي وتاريخه بشكل أعم. وبما إن قسماً مهماً من الكرد الفيليين ومن فئاتهم المتعلمة تسكن المدن الكبيرة مثل بغداد والبصرة وطهران، وغيرها فإن اللغة الدراسية لهؤلاء تتمثل عموماً بالعربية في العراق والفارسية في إيران. وهذا يعني بأن الكرد الفيليين والكرد الجنوبيين عموماً، ورغم تمسكهم بقوميتهم ولغتهم، يجدون أنفسهم في محيط غالباً ما يقطعهم عن المعرفة بالكثير من العناصر الأساسية المتعلقة بتاريخهم الكردي الخاص وعن المعرفة النظرية بأصول لهجاتهم الخاصة. كل ذلك بصرف النظر عن شحة هذه المعلومات التاريخية الضرورية وتناثرها، وأحياناً عدم تناولها من قبل بعض المؤلفين بالشكل الصحيح الذي يقوي روابطهم بالمكونات الكردية الأخرى ولا يجعلهم عرضة للابتلاع من قبل الأكثريات العربية أو الفارسية.

-&باعتبارك من الطائفة الكردية الفيلية البغدادية والعراقية المعروفة بدورها الثقافي والسياسي والاجتماعي في المجتمع العراقي، لا اشك برغبتك عبر هذا الكتاب بتعريف طائفتك والإشارة إلى نقاط أساسية تخص هويتهم وتاريخهم عدا الحديث بطبيعة الحال عن لهجاتهم وتنوعها، وكذلك رغبتك بتبيان موقع هذه الطائفة في العراق وفي الخارطة الكردية العراقية والإيرانية على حد سواء، أليس كذلك؟
- هذا صحيح، وأنا أشعر بالتزام أزاء طائفتي التي عانت ما عانت، وتحدت ظلم الحكومات البعثية والصدامية منذ 1963، وهي التي لم تبخل بإسهاماتها مع بقية اشقائهم العراقيين من كرد وعرب في السعي من أجل ازدهار بلدهم. وهكذا فإنني أشعر بمسؤولية علمية وسياسية في توضيح نقاط مشوشة تتعلق بهوية الكرد الفيليين، وتصحيح أخطاء جسيمة جرت العادة على تداولها، كاستعمال الكردستانيين العراقيين لبعض الاصطلاحات مثل تسمية اللرية لوصف المجموعة اللهجية الكردية الجنوبية في حين تختلف اللهجات اللرية بشكل جوهري عن مختلف فروع الكردية الجنوبية لهجياً وسكانياً. وهناك كذلك في هذا الكتاب تحليلات علمية لمفردات مهمة مثل مصطلح فيلي، وأحياناً لتسميات بعض العشائر الكبيرة مثل كردلي وخزل.

-&أعلم أنك كتبت منذ سنين طويلة حول النقاشات الدائرة في الأوساط الثقافية الكردية بخصوص اختيار الأبجدية الملائمة لكتابة اللغة الكردية، وكتبت كذلك حول توحيد اللغة الكتابية الكردية، فهل لك أن تحدثنا قليلاً عن هذين الموضوعين الذين أضفتهما أيضاً إلى هذه النسخة المترجمة من كتابك؟
- &فيما يتعلق باختيار الأبجدية "الأصلح"، يمكن القول بأن العديد من المستشرقين، منذ أوائل القرن التاسع عشر، وكذلك بعض الشرقيين منذ منتصف القرن التاسع عشر، أخذوا ينادون بضرورة هجر الكتابة بالأحرف العربية وتبني الكتابة بالأحرف اللاتينية، وذلك على حد قولهم، بسبب وجود مجموعة من العيوب المرتبطة بالكتابة بالأحرف العربية، سيما إهمالها لتدوين الصوائت القصيرة، أو عدم ملائمة الأحرف العربية لكتابة اللغات غير العربية، وغيرها من الحجج التي أفضت تدريجياً إلى تبني مصطفى كمال أتاتورك للأحرف اللاتينية في 1929 لكتابة اللغة التركية، وتبني الشعوب الإسلامية السوفيتية في تلك الفترة للحروف السيريلية، ثم للأحرف اللاتينية تدريجياً من قبل أكثر هذه الشعوب منذ سقوط النظام السوفيتي. وقد تكلمتُ في فصل كامل، وبشكل مركز، عن نشأة فكرة تغيير الأبجدية وغيرها من الأفكار المرتبطة بهذا الموضوع، عن التيارات المختلفة التي نادت بهذا التغيير أو الإصلاح. وشرحت بشكل دقيق ومختصر حيثيات وأسس هذه التيارات لكي يكون القارئ على بينة من هذا السجال دون الوقوع في عموميات آيديولوجية تبعده عن الفهم الصائب للإشكالات المطروحة بهذا الصدد. وقد عبرت في هذا الفصل عن موقفي الذي لم يتغير منذ عقود، على الأقل فيما يخص اللهجات الكردية الجنوبية والوسطى، والداعي للاحتفاظ بالأحرف العربية المعدلة أو التقليدية مع الالتزام الصارم بتدوين الصوائت القصيرة والصوائت الخاصة بالكردية. وهذا الموقف لاينبع من اعتقادي بسهولة أو إمكانية استسهال هذا الأمر، ولا نكراني لوجود بعض المشاكل عند استعمال الأحرف العربية، و لا من اعتقادي بقدسية الكتابة بهذه الأبجدية، بل لأن حروف الكتابة تشكل عند الكثير من الشعوب جزءاً من تاريخها وحضارتها، وحتى من نظرتها الجمالية التي لا تُمحى بالآيديولوجيات وبالفتاوى. وأما عن فصل توحيد اللغة الكتابية الكردية، فإنني أناقش من خلاله بعض الاراء المطروحة بهذا الخصوص منذ ثلاثينات القرن الماضي، وأحاول فيه استشراف الموقف الأكثر واقعية في التعامل مع هذا الموضوع العسير بعيداً عن الحلول السحرية والقسرية مع اعطائي لنماذج من تجارب بعض الشعوب وطريقتها في حل هذه القضية. وأضيف بهذه المناسبة كلمة أخيرة، وهي إنني حاولت في معظم فصول ومراحل كتابتي لهذه الدراسة، وكذلك أثناء ترجمتي لها، أن أبسط ما يمكن تبسيطه لكي ينتفع منها، ليس فقط فئة محدودة من المهتمين والباحثين وطلبة الجامعات، بل الشريحة الواسعة من المتعلمين وقراء العربية، وخاصة القراء الكرد الجنوبيين الذين كانوا على الدوام نصب أعيني، والذين من أجلهم أولاً التزمت بإنجاز هذا العمل. ولايخفى عليك بأن معرفة اللغة أو اللهجة تشكل العمود الفقري لديمومة الشعوب والمجاميع السكانية سيما تلك المعرضة لفقد هويتها أو للاضمحلال التدريجي تحت ضغط وتأثير القوميات الأخرى.

-&من المعروف أن اللغة الكردية تنطوي على تنوع لهجي واسع يمكن تقريبه من التعدد اللهجي في العربية، وذلك على عكس اللغة الفارسية الأقل تنوعاً من الناحية اللهجية، فكيف تفسر ذلك؟
-&كما تعلم، فإن معظم الوطن الكردي يتشكل من جبال تمخضت عنها بمرور الزمن زيادة الفوارق اللهجية بين ساكنيها الكرد. وغني عن البيان بأن التضاريس الجبلية تتسبب في عزلة أكبر بين المجاميع السكانية، وتؤدي إلى توسيع التباين الكلامي بين هؤلاء الأفراد. وعلى صعيد آخر، تسبب الغياب التاريخي لوحدة سياسية بين التكوينات الكردية المختلفة إلى تنامي هذه الفوارق اللهجية، وإلى صعوبة وتعسير القدرة على التواصل& اللغوي بين متكلمي اللهجة الكردية الكرمانجية في تركيا ومتكلمي اللهجة الكردية السورانية في العراق. وتزيد هذه العقبات اللهجية المهمة على نحو أعمق بين الكرد الكرمانج ومتكلمي& الكردية الجنوبية. وتختلف هذه الحالة كماً ونوعاً مع تلك التي تميز اللغة الفارسية الحديثة التي تطورت منذ مايزيد قليلاً عن الألف سنة، فهي نجحت إلى حد بعيد في تحقيق وحدتها الكتابية بالرغم من وجود ثلاثة أنماط للغة الفارسية، وهي فارسية إيران، وفارسية أفغانستان (الدَرية)، وفارسية طاجاكستان. ولكن هذه الأنماط الفارسية تظل متقاربة جداً لغوياً، وغالباً لاترقى الاختلافات النوعية الموجودة بينها إلى تلك الموجودة داخل المجموعة اللهجية الكردية الواحدة. بالمقابل يمكن تقريب المعوقات اللهجية الموجودة بين المجموعات اللهجية الكردية مع تلك التي نشهدها بين اللهجات العربية الشرقية واللهجات العربية المغاربية، وخاصة الجزائرية والمغربية. ويمكن كذلك إجراء مقارنات وتشبيهات بين الوضع اللهجي الكردي والأوضاع اللهجية داخل اللهجات الإيطالية واللهجات الألمانية أو الجرمانية ، وغيرها من بعض اللغات الكبيرة.
&