"العالم هو بمثابة مسشفى للأمراض العقلية، نحن جميعاً نزلاؤه!. هذا الاعتقاد كان ولايزال هو القوة المحركة أبداً لعملية الخلق في مسرحي".&&&

ولد تاداشي سوزوكي عام ١٩٣٩ في مرفا مدينة شيميز Shimizh في مقاطعة شيزوكا Shizuoka اليابانية، وترعرع في منزل كانت تُسمع فيه الموسيقى الغربية الكلاسيكية على الأرجح مثلما كانت تُسمع الأغاني التقليدية لمسرح الدمى.
التحق بجامعة طوكيو "واسيدا" عام ١٩٥٨ لدراسة علم الأقتصاد السياسي، وتخرج منها عام ١٩٦٤ بعد أن ترك أثراً مميزاً وسط أقرانه وأساتذته بما عُرف عن شخصيته المولعة بالجدل وبأفكاره اليسارية المشتعلة غضباً. في غضون فترة دراسته الجامعية تلك انضم إلى النادي المسرحي التابع للجامعة والمسمى "مسرح واسيدا الحر" WFS) Waseda Free Stage) حيث انهمك يومها في دراسة منهج ستانسلافسكي وقام بإخراج بعض النصوص اليسارية المترجمة عن مؤلفين روس.
١٩٦٠- ١٩٦١ أصبح سوزوكي رئيساً للجنة المسرح الحر مشدداً على الهموم الفنية أسوة بالهموم السياسية، وأخرج خمسة نصوص، ثلاث منها لآرثر ميللر وتشيخوف وسارتر، وإثنان لزميله في النادي المسرحي الكاتب مينورا بيتسوياكو Minoru Betsuyaku. وكانت نصوص كتابّ مسرح اللامعقول "يونسكو، أداموف، أرابال وأدوارد ألبي" يومها قد ألهبت مخيلته لاسيما في استخدامها تقنيات تجريبية في ما يتعلق بعنصري المكان والزمان المسرحيين.
شّكل سوزوكي وبتيسوياكو فرقتهما المسرحية عام ١٩٦١ وكانت الفرقة هي جزءاً من تلك الفترة المزهرة التي كانت تدعى بـ (المسرح السري).
كان سوزوكي يبحث عن طريقة للفرار من واقعية مسرح شينجيكي المعاصر ذو التأثيرات الغربية، وقد استطاع أن يبلور أسلوبا أكثر تخييلية ونأياً عن الواقعية.
نصوص بيتسوياكو المتضمنة لغة مبتكرة وتلميحية، والطريقة الإخراجية لسوزوكي المعتمدة على تفجير الطاقة الجسدية اتحدتا معاً لخلق توليفة جديدة أثارت الانتباه للفترة ما بين ١٩٦٢- ١٩٦٧ وهي الفترة التي أخرج فيها سوزوكي خمس مسرحيات لبيتسوياكو لعل مسرحية "الفيل" عام ١٩٦٢ هي الأشهر.
كان سوزوكي يُخرج، وبشكل متواز، مسرحيات قديمة ومعاصرة، ومن هذه الأخيرة "عربة اسمها الرغبة" لتنيسي وليمز عام ١٩٦٧.
في العام ١٩٦٦ استبدل سوزوكي اسم فرقته المسرحية بتسمية جديدة أخرى حملت اسم (فرقة مسرح واسيدا الصغير) مدشناً ريبورتوارها بنص لبيتسوياكو بعنوان "البوابة"، وبعدها في ذات العام أخرج للكاتب نفسه مسرحية "زواج الطفلة الصغيرة" العرض الذي حقق نجاحاً كبيراً للكاتب والمخرج على حد سواء. يومها شرعا معاً في تشييد إستوديوهما المسرحي الصغير على سطح مقهى طوكيو والذي كان يضم ١٢٠ كرسي. كان الأستديو صغير جداً ومن دون ستائر أو أجنحة وبخشبة مسرح من الطراز القديم، استخدمت مداخله السفلى كأجنحة مركزية.
سعى سوزوكي منذ تلك الفترة إلى تجنب الكثير من الخدع المسرحية جاعلاً من الممثلين وسيلة تعبير (جسدية وصوتية) بالقدر الممكن. وقد ارتبط أسلوبه إلى حد ما بإسلوب المسرح الفقير لجروتوفسكي.
لقد ابتدأ سوزوكي التركيز على تأسيس طريقة جديدة ومبتكرة في فن التمثيل. فقد طبق طريقته تلك على نسخ منقحة اقتبسها من القصص اليابانية القديمة ونصوص جديدة لكتاب الأفانغارد اليابان أمثال ماكوتو ساتو وجورو كارا.
لقد أراد سوزوكي أن يحل بدل النص المنطلق من واقعية شينجيكي Shin-Geki، مسرحاً مركزه الممثل المّفكر والجّيد التأسيس والذي تخضع أفكاره إلى الكثير من التعديلات المتنوعة.
لقد بدأ في أواخر الستينات يؤمن بأن التمثيل يعني مواجهة الممثل لقدراته التعبيرية الذاتية، وليس لتفسير أو ترجمة النص المسرحي للكاتب.
تحت تأثير نفوذ الفلسفة الوجودية فسر سوزوكي سلوك الممثل في مواجهته للمتفرج على أنه نوع من إثبات الذات. فمن خلال تلك المواجهة بين الممثل والمتفرج، يكتشف الاثنان إنسانيتهما المشتركة المثقلة بالخراب والأسى.
النموذج الأول والرئيسي لأسلوبه المبتكر كان عمله الخاص "آنذاك،آنذاك ماذا بعد ذلك؟" وهو نص مسرحي ساتيري لمسرح الكابوكي الشعبي والذي أعدّ لغرض إظهار المناهج المضادة لمنهج ستانسلافسكي، وقد تضمن عرضه استخدام الإعلانات التوضيحية التي تفوح منها النكهة البريختية.
لقد أنجزت فرقة سوزوكي العديد من العروض التجريبية والمرتجلة معتمدة على مواد استمدت من المسرحيات الغربية واليابانية الحديثة وكذلك من مسرح الكابوكي علاوة على الأدب غير الدرامي، إلا أن مسرح الكابوكي، على وجه الحصر، كان قد ترك تأثيراً كبيراً وحاسماً على أعمال المخرج السابقة واللاحقة.
كان الارتجال الهدف منه ليس التعبير عما أراده المؤلفين عبر حواراتهم، إنما وظف لغرض ارتباط الممثلين بكلمات ذلك النص على المستوى ما دون الوعي. بناءاً على ذلك فإن الكلمات والطرق التي يُجسد فيها ذلك النص في مجرى العملية، تتخذ دلالات جديدة وغير متوقعة.
يعتقد سوزوكي أن مهمة المخرج وعملية الإخراج معاً هدفهما مساعدة الممثلين للتعبير عن علاقتهم الشخصية بالدور عبر العثور على طرائق مبتكرة حية تجعل أرواحهم الخلاقة من الداخل تتبنيّ وتستوعب مغزى نتائج تلك التمرينات باستخدام نهج استعير من السورياليين يسمى بـ (التشويش) يجري بمقتضاه جمع تلك التمرينات وتشكيلها داخل كولاجات درامية أدائية.
النموذج الأول عبر عنه من خلال التحليل الفولكلوري لمسرحية غوركي "الحضيض" أو "الأعماق السحيقة" ١٩٦٨، والذي يجسد فيه سكنة حضيض غوركي شخصيات نزلاء ملجأ يمثلون مشاهد درامية لغرض التسلية، تسلية أنفسهم بالطبع. الممثل هنا يحتل الأولوية
بالطبع مقارنة بالنص المسرحي، لذا فالمنجز التمثيلي المتعدد والمركب كان معروضاً على الأنظار. الشيء المثير للدهشة والإعجاب كان عمله (الآلام الدراماتيكية للسيد المسيح ج1) عام ١٩٦٩ وهو عبارة عن كولاج لمشاهد شهيرة أخذت من مصادر مسرحية غربية وكابوكية نظمت بطراز سوريالي يفتقر إلى الشكل، والذي هو رغم ذلك يبقى ملتحماً ومتماسكاً من خلال ارتباطه بالوضعية المركزية، حيث تنتقل تلك المشاهد من بيئاتها الأصلية إلى بيئات جديدة تبتكر تحت توجيه سوزوكي.
الديالوج غالباً ما يتعارض أو يتباين مع السلوك، خالقاً إحساساً أو مغزى من التشويش واللامنطق، إلا إنه في ذات الوقت يُنتج قوة من الإدراك وعمق البصيرة.
كايوكا شايراشي الممثلة التي مثلت في هذا العمل والذي كان هذا العرض هو الأول الذي رسم ملامح مميزة لها، أصبحت مثالاً لإمكانيات منهج سوزوكي، حيث كان لطاقاتها الصوتية والجسدية والعاطفية وقعاً ما دعى النقاد العالميين اعتبارها واحدة من أعظم الممثلات في العالم!.
تابع سوزوكي عام ١٩٧٠ الجزء الثاني من عمله (الآلام الدراماتيكية للسيد المسيح) والتي لعبت فيها كايوكا شايراشي دور امراة مجنونة تتخيل نفسها وقد تحولت في أوضاع درامية متنوعة من مسرحيات الكابوكي.
(لابد من التنويه هنا من أن الشخصيات المجنونة تتكرر في أعمال سوزوكي، وإن نزعاتهم من أجل لعب الأدوار يقدم الأساس المنطقي للمشاهد الدرامية الممزوجة والمتعددة الأشكال).
كانت فرقة "مسرح واسيدا الصغير" دعيت لحضور المهرجان الوطني للمسرح في باريس بدعوة من رئيس المهرجان جان لوي بارو والذي من خلاله استطاع ممثلو سوزوكي إحراز شهرة عالمية واسعة. أما سوزوكي فقد بوغت بـحقيقة أن "المسرح المعاصر"، وهو المسرح الخاص بجان لوي بارو، كان يقع في المنطقة السكنية للمشاهدين، مما دفعه وشجعه على البحث عن مكان شبيه له في اليابان لبناء مسرحه. وهكذا وفي عام ١٩٧٦ شيّد سوزوكي مسرحه في منزل مصنوع من القش في مزرعة تقع في قرية جبلية صغيرة ونائية في ولاية تويمان تدعى "توغو"، هناك حيث أقام مركزه الرئيسي والذي يبعد عن العاصمة طوكيو حوالي ٤٠٠ ميل. قراره هذا واقع الأمر كشف عن ضرورة أخرى وهي أن المسارح اليابانية ينبغي بل ويمكن أن تشيّد في القرى والأرياف وليس بالضرورة أن تكون متمركزة في العاصمة، على الرغم من أن فرقته التي أعيد تأسيسها عام١٩٨٠ كانت اتخذت من العاصمة طوكيو مقراً لها.
العرض الأول الذي دشن به سوزوكي مسرحه الريفي آنذاك هو الجزء الأول من كولاج "المساء والمأدبة" وهو عبارة عن مواد مزيجة من تشيخوف وبيكيت ويوربيدس.
قام سوزوكي عام ١٩٨٢ بتأسيس مهرجان المسرح العالمي (توغو) الذي صار يأمّه الكثير من الفنانين المعروفين في العالم سنوياً، وكان البيت الذي يقع في المزرعة هو عبارة عن مسرح خشبي جميل يحتوي على مائتي مقعد سمي بـ (مسرح توغو سامبو) وهو شبيه إلى حد ما بمسرح (نـو)، والذي توسع فيما بعد ليحاط ببحيرة من كل جانب وهو يستوعب ٨٠٠ مقعداً. وهذه الأماكن بالنسبة لسوزوكي هي بمثابة أماكن مقدسة وهو الذي كان شيّد مسرحاً يحيط به أهالي قرية توغو.
لقد انهمك ممثلي سوزوكي في توغو وتحديداً من عام ١٩٧٥- ١٩٨٠ في تدريب مكثف ومضاعف حسب منهج سوزوكي، تلك الطريقة التي اقتبست الكثير من التقنيات الكلاسية لمسرح (نـو) و (كابوكي) فضلاً عن استفادتها من الفنون القتالية اليابانية والتزامها بنظام تدريب صارم للجسد والصوت.
كان من عادة سوزوكي وهو يجري تدريباته مع الممثلين حمل سيف من الخيزران بيده وضربه على الأرض بقوة وقسوة. تقول الممثلة ماريا ميكرسكوف: "سوزوكي شخص صارم، وفي بعض الأحيان استبدادي، إلا أنه يمكن أن يكون أنيساً مرحاً وعذباً وأقل حّدة وصرامة.
إنه شخصية انتقادية إلى أبعد الحدود حين يرى عيوباً في التمثيل حتى وإن كانت طفيفة، وهو لا يتردد أحياناً في توجيه الشتائم أو الإهانات إلى الممثل، بل ويمكنه أن يصرخ بشكل وحشي.
تمريناته تندمج وتتوحد في سلسلة من العروض المبتكرة كان قد استمد العديد منها من مصادر كلاسية غربية لذا فهي تُظهر دمج وصهر طرق التمثيل الشرقي بالدراما الغربية. إن التركيز والتشديد ينتقل من اكتشاف الذات إلى براعة الحركة والنطق".
الكلمات، حسب سوزوكي، تتجسد عبر جسد الممثل وليس من خلال مجرى العملية الذهنية. الجسد والصوت ينبغي أن يكونا شيئاً واحداً. إنه يريد من ممثليه ان يكونوا اشبه بالممسوسين يتماهون تماماً وكهنة الشامان.
إن طريقته تتطلب حركة القدم الواسعة مع جسد يستخدم المركز الأدنى لجاذبية الأرض والاستخدام الكبير لتشكيلة واسعة من الضربات بأخمص القدم والسقطات الحادة وجر القدمين على الأرض والانزلاقات والرفسات. لقد كان يطالب أن تكون تمريناته مؤسسة في المقام الأول على الشكل الياباني للحركة، إلا انه صار فيما بعد يعيد تشكيل تمريناته لتأخذ طابعاً شموليا أكثر هذه المرة.
في عروضه تتوحد الحركات مع ديكور بسيط، عروض الواجهة الأمامية، الرقص الإيقاعي، موسيقى النقر التي هي عادة ما تصم الآذان لشدة ضجيجها، ومقدار كبير من السرد الكلامي المتحول إلى مونولوغات طويلة تستخدم سلسلة واسعة من التعبيرات بحدها الأقصى.
لقد طبّق سوزوكي منهجه في العمل على تراجيديات إغريقية مختلفة معيداً تركيبها وتنظيمها من جديد للتعبير بشكل ضمني عن الأفكار ذات الصلة بالموضوعات الاجتماعية. ومع ذلك وعلى الرغم من أمانته لتلك النصوص أو الأصل إلا أنها بدت من خلال موشوره الرؤيوي كما لو أنها مرايا لليابان المعاصرة وللعالم بشكل عام.
لقد أعاد سوزوكي بعث الحياة في بعض النصوص الإغريقية منقحاً إياها بطريقة مبتكرة، أمثال "نساء طروادة" ١٩٧٤ ليوربيدس، "الباخوسيات" ١٩٧٨، "كليتمنسترا" ١٩٨٠، "ديونيزيوس" ١٩٩٠.
"سقوط منزل أتريوس" المعدة عن كليمنسترا عرضت عام ١٩٨٣ على قاعة المسرح الإمبراطوري ذو الـ ١٩٠٠ كرسي في طوكيو.
"الباخوسيات" و "كليتمنسترا" قدمتا باللغتين اليابانية والأنكليزية وكان تأثير ذلك جذاباً وهاماً.
أما العمل الأكثر أهمية من بين جميع أعماله الأغريقية فهو "نساء طروادة" التي تعتبر ثيمة مضادة للنزعة القومية والتي عبر عنها سوزوكي بأسلوب المسرحية داخل المسرحية كما هو الحال مع "الباخوسيات".

في الحلقة الثانية والأخيرة نص محاضرة القاها تاداشي سوزوكي عن "التقاليد والقوى الخّلاقة في المسرح"