ترجمة: عبد الرحمن الماجدي: يوصف الشاعر والروائي بي. إي. فيليمونوف P.I. Filimonov أنه شاعر صعبٌ، تسترعي قراءته تمعناً بين سطور& نصوصه وفقه غايات معانيه التي قد تصدم القاريء بتناقضاتها وإصراره على الغموض.

ولد فيليمونوف في العاصمة الاستونية تالين عام 1975 من أصلٍ روسيّ، وتخرج في جامعتها بعد دراسته فقه اللغة الانكلزية و يعمل مدرساً حتى الأن في مدرسة اللغات في العاصمة تالين.

شكّل مع زميله إيغور كوتيوغ جسراً يربط بين الثقافتين الاستونية والروسية، فأصولهما الروسية لم تمنعهما من الاندماج في المجتمع الاستوني والانتماء لثقافته وكتابه جل إبداعهما بلغته جنباً الى جنب مع اللغة الروسية.
بالإضافة الى الشعر والقصة والرواية يكتب فيليمونوف المسرحية والمقالة، ويواظب على ترجمة الشعر الاستوني الى اللغتين الروسية والانكلزية.

نال عام 2007 جائزة أفضل كتاب باللغة الروسية في إستونيا عن كتابه الشعري "تعويذة من الدرجة الثالثة"، ونالت، بعد هذه الجائزة، في نفس العام روايته "منطقة الهندسة غير الاقليدية" الصادرة عام 2007 شهرة واسعة.
صدرت له ثلاثة كتب شعرية منها "تعويذة من الدرجة الثالثة" و "آلهة عاطلة"، وروايتين ومجموعة قصصية وكتب مجموعة من المسرحيات& نشرت باللغتين الروسية والاستونية.

تُرجمت قصائده الى عدد من اللغات من الروسية والانكليزية والفنلندية واللاتفية، وهنا أول ترجمة لقصائد مختاره من شعره الى العربية.

منطق

بردٌ، لأنهُ الخريف.
حزنٌ، من صداعِ الكحول.
نعاسٌ، لأنها الخامسة فجراً.
ترامٌ غامضٌ عالقٌ في إشارةِ مرورٍ سوداء وبيضاء.
فيسكونتي* بدلاً عن فيندرس*،
الموسيقى التصويرية خيّبت الآمال وحسب.
ما من أحدٍ يطلق النارَ على النوافذ،
مع أنهم ينتظرون...
ـــــــ
*لوتشينو فيسكونتي كاتب سيناريو إيطالي. م
* فيم فيندريس مخرج إلماني. م

***

اختراق اللوح

مابين "يالهُ من فتىً جميلٍ"
و "يالهُ من عجوزٍ رائعٍ"
أصبحتَ شخصاً غير مرئيٍّ،
تنظرُ من هناكَ
للفتيات، يُرنّمنَ كل أغنيةٍ بلحن "ناشا"،
للرجالِ، يَلعبونَ طاولةَ الزهر،
للاصحابِ، مازالوا يأملونَ بشئٍ آخر،
للأزواج الغرباء
يتهيأون جميعاً كي يلجوا هذه الكتلة غيرَ المرئية،
اندمجْ معهم،
واقبض على ابتسامة فلسفية في صفحةِ الوجه.
أوقف التصفيقَ،
قلّل السرعة،
ليسَ خوفاً من العقاب،
وليسَ لأنَّ في العجلةِ الندامة وفي التأني السلامة،
(كلّ شيءٍ باقٍ في مكانه)
بلْ من أجل التقاط أفضلَ منظر للطبيعة.
لا تمح الرذاذَ،
كي تبقى النوافذُ معتمة،
وانت تنتقلُ من مكانٍ الى آخر،
تفكّرُ فقط في كمية الوقودِ المستهلك للرحلة،
وأقاربُ موتى
ينتشرونَ على جانبي الطريقِ السريع.

***

في الهواء الطلق

هلالٌ مسلمٌ يذوبُ في ضبابٍ حبشي،
وصورةٌ جميلةٌ تخبرنا عن الأسى،
عن الأسى، الذي تبثهُ صورةٌ جميلة،
حيث تطير وريقات الثلج، محلقة نحو البداية.

كلُّ شيءٍ جميلٌ بذاته، كلُّ شيءٍ وهمٌ جميل.
العري لايكفي، يصرخُ، ممزقاً القميص،
كلُّ هذا لعبٌ، كلّه يسيرُ، منقاداً،
كلُّ شيءٍ، يمضي، بأي حالٍ، مثلَ قراراتِ تلامذةٍ مستجدين.

هلالٌ حبشيٌّ، هيولى متصادمة،
لوحٌ أبديٌّ يفترسُ بلا حدود.
انظرْ الى الكفّين، كنْ حذراً حتى يتقلصان.
الانعتاقُ داءٌ، يكابدهُ مشتاقه.

طلاّبٌ نشطاءُ يدونونَ في الهواءِ اقتباساتهم،
واضعينَ علامتِهم في الانترنيت، مرفقةً بمقاطعَ من رسائلهم.
كومةُ رمادٍ على الرصيف و أنت في قمة النشوة.

***

على الدرجِ رائحةُ ملفوفٍ متعفنٍ وورقةٌ محترقة،
كانَ يمكسها بين ذراعيه ويلفها.
أصواتُ قيثارةٍ كهربائيةٍ قديمة.
"ألم تكن في العشرين؟" سألتْ هي.
لا تذهبي الى الحمّام عارية" أجابَ.
"يالها من مسخرةٍ فترةُ منتصفِ العُمرِ" فكَرتْ الجارةُ،
مختلسة النظرَ إليهما.
رجلٌ عالقٌ في المصعدِ يتحدثُ عن نفخة البطنِ؛
"هذهِ من مزجِ التفاحِ والحليبِ" كان يوضحُ.
"لا تذهبي إلى الحمّام معافاة".
هانيلورا تنادي هانيلورا.
"لا تذهبي الى الحمّام صاحية".
على الدرجِ ذي الدعامةِ الممزقةِ تدحرجَ العقيقُ
يرقصُ يرقصُ
محلقاً في هواء آب،
مستنشقاً لعابَ الشمس وزَغبَ شجرِ الحور.
كم كانَ رائعاً.

***

وجود

-أنا سعيدةٌ للغاية
تقولُ الفتاةُ الفنلدنيةُ البثراءُ.
"أين يمكنني قتل ساعتين أخريين؟"
يفكّر رجلٌ روسيٌّ في منتصفِ العمر.
-ماأسمه؟
تسألُ الفتاةُ الفنلدنيةُ البثراء.
"زرٌّ منتزع"
فكّر الرجلُ الروسي
- يونس، تردُّ صديقته.
"الشِعر مرةً أخرى"-& يفكر الرجل الروسي
-هيا اظهري، يا أليسا
تسأل الفتاة الفنلندية
"ولماذا لا أقود مع يورغنوف موليسكن؟"
يفكّرُ الرجل الروسي
- لن أظهرَ، تقولُ أليسا.
"هوذا رجلٌ يكتبُ" يفكّر الرجلُ الروسي
"مالذي حصل؟" تسألُ الفتاةُ الفنلندية
" كلاّ، الرجلُ يرسمُ" يفكُر الرجلُ الروسي
تتهشمُ الفتاة تماماً.
"ياللمهندسِ المجنون" يفكّرُ الرجلُ الروسي
مضيفاً "مهندسٌ مجنونٌ بقبعةِ كاوبوي،
جاءَ الى المقهى من أجلِ إثباتِ نظريةٍ جديدة".
-أنتَ ياهذا- ترى من أنتَ؟
يقولونَ من أرومةٍ الآشوريين،
حتى أن لديه زرٌاً.
الحياة تعودُ الى طبيعتها،
الفتاةُ تنادي يونسَ،
المهندسُ يلعبُ بشاشةِ اللمسِ،
آشورُ بانيبال يشتري الكعكَ.

***

بين شقّي الرحى

مرّتْ ألفا سنةٍ، ذهبَ مرةً أخرى الى الساحة.
لم يتغيّر الاّ القليل،
سكانٌ أصليونَ كانوا يبيعونَ الشاورما،
سيداتٌ يدردشن وأقدامهن في النافورة،
متسابقونَ مستعدّون.

على نصبِ كولومبوس حطّ طائرٌ غريبٌ،
نظرَ& إليه بشفقة،
فتأسف لأنه لم يحلقْ ذقنَه هذا الصباح.

في البدء، لم يسمعْ صراخهم،
أيديهم المفلفوفةُ باللدائن لفتت انتباهه،
ضربٌ متناغمٌ سريعٌ بعشراتِ العصيّ على الطبل.
مثلُ يومِ المدينةِ السنوي،
عيدُ غزلِ البناتِ،
والمعاطفِ النسائيةِ الطويلةِ الموشاة،
والجواربِ البيضاءِ المقزّزة.
كانَ يريدُ أن يصفرَ من الشرفة،
لم ينلْ سوى نفخٍ الهواء و إشششش!

غيرَ عدوانيين بدوا من بعيدٍ،
ما إن اقتربوا ،
حتى ظهرتْ شعورهم المتوسطيّة موشاة بالملحِ والفلفل،
شفاههم قرمزيّة لاهبة،
لاطمينَ العيونَ،
وميضها الأبدي لا يُطاق،

"إقرأ" كانوا يصرخون: "إقرأ".

***

عقدة

النادلةُ تعودُ إليك،
وأنتُ تنظرُ الى زاويةٍ واحدة.
النادلةُ تعودُ إليك.
أنتَ تتحدثُ عن شيءٍ ما.
النادلةُ تعودُ إليك.
ستكونُ أمسيتك أليمة.
النادلةُ تعودُ إليك،
أنت راضٍ بالحياة كما هي.
النادلةُ تعودُ إليك.
قليلاً من الغيرة والبطاطا المقلية.
النادلةُ تعودُ إليك.
رغم ذلك مازال هناك من لايهتم لأمرك.
النادلةُ تعودُ إليك.
أولئك الذين لم تكنْ مهتماً بهم.
النادلةُ تعودُ إليك.
إولئك الذين يعرفون مايجب عليهم.
النادلةُ تعودُ إليك.
لن تواجههم.
النادلةُ تعودُ إليك.
تحاولُ أن لا تنظر.
النادلةُ تعودُ إليك.
الطريقُ مرسومةٌ.
كلماتٌ معدودات.
أفعالٌ موزونة.
رغباتٌ معثورٌ عليها.
النادلةُ تعودُ إليك.
يَحدثُ أنَّ
شيئاً ما متشابكٌ.
النادلةُ تعودُ إليك.
أنتَ الشخصُ الوحيدُ الذي يلاحظ هذا.
فلا ضرورة لمزيدٍ من الغيرة،
أو المساء الأليم،
أو البطاطا المقلية.
النادلةُ تعودُ إليك.
ومن سيهتم لأمرك؟
فاستمتعْ.

***

في ذلكَ الوقتِ، حينَ وقعتُ في الحبِّ ترتّبَ كلُّ شيء.
لم أحتفظْ بصورَ فتياتِ الأحلام.
واحدةٌ مع شريحة بطيخٍ،
وأخرى تحتَ المطر.
واحدةٌ في كومة أوراق صفراء في حديقة خريفية،
وواحدةٌ رومانسية جداً تعدل شعرها محاولة الوصول لفمها.
وأخرى بملامح معقدة،
وأخرى بملامحها المعقدة جداً تغدو شخصاً معقداً في الحال،
خلاقة ومفكرة.
واحدةٌ في المنزل بنعال مضحك على أريكة قبيحة،
وأخرى ممددة على الرصيف مرة اخرى بشعر منثور.
واحدةٌ فارعة بتسريحة جديدة،
وواحدةٌ جميلة جداً في المترو بقبعة زرقاء.
واحدةٌ عارية،
تماماً مثلما عشتُ حياتي دونَ انستغرام،
مع مئةِ غرامٍ من الرعبِ وحسب.
لا أتذكرُ الوجوهَ.
ما من أحدٍ أريه أوراق الشجر والحدائق،
ذكرياتي مفككة ومضحكة.
كمنفضةٍ منشطرةٍ، أو لجامٍ ممزق.
إصلاحُ الحياةِ يُفضى الى نخرها.

***

الجماهيرية

ركبنا الأمواجِ، نهضنا عند المرسى،
كنّا نفكّر، العالمَ مأثمةً.
جرافتنا المزمجرة
انفجرتْ دونما سببٍ.
حينَ نموتُ، لنْ نتوقعَ مرثياتٍ،
لنْ توقدَ شموعٌ كثيرةٌ لنا.
أيّها العقيدُ القذافي، لا فائدةَ من الغضب،
في ليالِ ليبيا الباردة.

مروحتكَ- باقةُ زهوري،
خَلّكَ- حليبي.
في الصحراءِ المقفرةِ عابرو السبيلِ نادرون،
لكنّنا لنْ نذهبَ بعيداً.
سنظفرُ بسطورٍ من أيّ سيرةٍ ذاتية-
من سُوَرِ الحبرِ المطمئنة.

إنّها تحبكَ هكذا، أيّها العقيدُ القذافي،
مثلي حينَ لمْ أحب أحداً من قبل.

أستُدعينا عبر موجةٍ قصيرة.
الأختام تهتزُّ.
الطائرةُ تحلّقُ. قنبلةٌ تحتَ المقعد،
وحزامٌ ناسفٌ لشهيدٍ فوقي.
لنْ تكونَ لنا قبورٌـ ولنْ يعثروا على صورٍ-
لنْ نتركَ أيّ أثرٍ.
أيّها العقيدُ القذافي، أنتَ لا تطاق،
مثل أيلٍ، مثل ماءِ الحياة.

&