الحي القائم عند باب السوق، حيث اصوات الباعة تجول مقتحمة البيوت و الغرف، انقله الى برلين بما فيه: بهيجة و شجرة التين، البلبل المغرد في اشتباكات الغصون، بل حتى القطة المتربصة، بيت ناهضة و بنتها، و حيدتين بقيتا، بعد ان مات من مات و غادر من غادر، مريم الصغيرة الصاخبة التي تزور بهيجة و تصرخ عبر السكايب "و ينك؟ اريد ان أرى صورتك... مريم تزورك باستمرار بهيجة و تزيح عنك هم الوحدة؟ تزعجني احيانا فأضربها بـ "شطبة" الى جانبي... كيف تضربينها بهيجة، ألا تنزعج امها؟ لا، لا تنزعج تقول لي: عليها ان تتربي جيدا، انت ايضا بمقام امها.. اضربيها كلما اساءت التصرف.... انقل كل شيء" بيت حِسِن الذي انهد لإنصراف الورثة، بنت كشاف التي نسيت اسمها (تذكرت اسم ابيها، اسم خالتها كاشفة و اخوتها)، تعد قدر "الدولمة" لبيهجة الوحيدة و تسلمه اليها غير مطبوخ: "ضعيه اولا على النار بدون ماء، سوف ينز من ماءه وانتظريه حتى "يتكتك" ثم اضيفي اليه الماء المخلوط بمعجون الطماطة"... لا تكثري من الماء، بمستوى المواد و إلا ستكون عجينة، " طبعا عصير الطماطم الطازج سيكون افضل!، و لكننا لسنا في موسمها".... و هل تجزينها بالمواد؟ أسأل انا بهيجة، اقصد هل تعطيها السلق و البصل و الرز و اللحمة؟.... لا، لا، لا شيء... هي تتبرع بكل شيء، كلما طبخت "دولمة" جهّزت لعائلتها قدرا كبيرا و إلى جانبه لي قدرا صغيرا، آكل منه يومين... تغديت به اليوم و البارحة".. افرح كثيرا.... كيف تتسوقين ؟ من يجلب لك المواد من السوق، بهيجة؟.... زوجة كرم، خلودة، تأتي اليّ مرتين في الاسبوع و تقول: هل انت بحاجة الى شيء من السوق ، اقول لها أطال الله عمرك، فأعطيها مبلغا و سلة،.... سلة... سلة خوص... أما زال لديك سلة؟... نعم ، سلة، بل من شطب الرمان، و هل تكون السلال من غير الخوص أو شطب الرمان... سلالكم البلاستك لا تعجبني... تضحك.... موجودة لدي احتفظت بها... (كان ضياء يعمل السلال و الاطباق من الخوص او شطب الرمان و الكراسي و الاسرّة و المناضد من جريد النخل فتترامي اسطوانات صغيرة من خشب الجريد المثقفوب تطرز الممر الترابي اليه جنب النهر... امه عملت مهفات من خوص النخيل، احيانا طرزتها بالوان فاقعة كلون "الكبلي" فنتبرد بها، و تحوم الوانها حول الوجه في قيض طهيرة ما قبل الكهرباء)... أليست خلودة ابنة حسن رحمه الله؟.... كان ضخما احمر البشرة، قالوا مات بنزيف المعدة و شعرت بالرعب كيف يموت انسان، بهذه الضخامة و بهذه البشرة النضرة، بسهولة.... تقول ـ نعم انها هي.... الاخرى، الكبيرة، تزوجها ابن عمتها ، ما أسمه؟.... لم اعد اتذكر... اتذكر انا شيئا و أسأل: ألم يكن نائب ضابط في الجيش؟ نعم هو، هو بعينه! يا الهي ما اسمه؟... لا يهم لا تشغلي بالك... اخوه كان اسمه منعم، مدرس.... اظنه مدرس لغة انكليزية.. نعم صحيح، مات قبل سنتين... تستمر بهيجة تروي احداث الحي، الحي الذي لم يكن حياً، بل زقاقا صغيرا غير نافذ، له مدخل واحد... في نهايته بيت صبرية، اجره ابي حينها و شرب فيه مع اصدقاءه، حينها لم يكن الله متشددا جدا....كان فيه أيضا و قبل ان يهاجروا، بيت احمد الداغم، شهاب، جعفر، سامي كريم و كثيرٌ من الاخوة و الاخوات، يضجون في ساحة البيت الكبير، يلعبون بمرح، ابوهم كان طيبا صبورا، لم اسمع انه خرج عن طوره...كان بقالا جوالا، يجول في الارياف على حصانه حاملا سلالا مليئة ببضاعة المدينة: سكر، شاي، اقشمة... يجلب ازاءها البيض، البيض المدفون بالقش، القش اللامع كالذهب (يقول منعم حين كنا نعبر سكة القطار باتجاه موقف ا لسيارات: يمكن اخراج القطار عن السكة بكوم قش!) بيض القرى المتناثرة، يفحصه على ضوء الشمس و حين حلت الكهرباء، حل محل الشمس صندوقٌ فيه مصباح و حفرة في الغطاء الخشبي على شكل بيضة...اُطلق سراح عبد الوهاب، و عرفنا انه كان سجينا سياسا، و احتفلنا هنا ايضا و جاء فاروق ابنه الذي عاش في بغداد طويلا ليحل علينا و يثير فينا الفضول....جلب معه كرة من الجلد بقيطان كما في الاحذية و لعبنا بالكرة الثقيلة بدلا من الكرة البلاستيكية (ام الثلاث دراهم).... و ام حاكم، اما زلت تزورينها؟... قبل قليل كنتُ عندها، الاولاد توزعوا على مشاغلهم، البنات، تزوج بعضهن.... بقيت هي مع القليل من بناتها و ابن واحد، و زوجها بات يختلف الى مقاهي السوق بعد أن كد و اوصلهم جميعا... عم تتحدثان؟... عن كل شيء ، تطلق ضحكتها المجلجة عبر السكايب، عن كل شيء... تدخل مريم الصغيرة بضجيجها... (شلونك؟)...زين؟ انتِ شلونك؟ اني زينه... وين صورتك ماكو...اكبس على زر الكاميرا لكي تراني.... اقول لها: النت ضعيف، مع الكاميرا سوف ينقطع ، تقول بهيجة ، كبران، شعرك شاب.... نحن لا نصغر بهيجة، كلنا نكبر....
هذا الحي، هذا الزقاق الذي يعيش بسلام مع نفسه، فيما تتناهي من بعيد و قريب اصوات القذائف و الاطلاقات و يرمدُ السماءَ فوق الحي احتراقُ البساتين، السماء التي كانت يوما صافية، نمرح لحلول الخريف فيها حين يأتي الغراب و يطرز السماء بنقاط سود، كما النمل على الارض.... يصرخ "غاق، غاق" فنغني : "يغراب، يغراب.. ما شفت ابويه... يم الكببجي... ياكل و يبكي... بيده شمعتين، واحدة للعباس و واحدة للحسين" هذا الحي الذي بقي متصالحا مع نفسه، فيما يسود الدمار كل مكان و كل شيء، اجد فيه جزيرة لذكرياتي و لتوق الامان، هذا الحي انقله بأكمله الى برلين بمن فيه، بهيجة و بيتها الذي لا تحب أن تفارقه، شجرة التين، البلبل الساكن تشابك الاغصان و القطة المتبرصة، مريم الصاخبة، ام حاكم ناهدة و ابنتها.. الزقاق باكمله ببيوته و اضعه هنا... أين اضعه؟ في المكان الخالي عند اطراف برلين بين شارع (مارين فيلدر و محطة القطار عند بوكور شوسيه) اتركه كما هو، جزيرة خاصة بطقوسها ، لكن بدون اصوات الرصاص و دخان القذائف..
تخرج بيهجة من الزقاق الى خضرة برلين و تتعجب: كل شيء هادئ هنا!
برلين 24 تموز 2014
&