تونس: في العدد الثاني عشر من مجلة "مواقف" لسنة 1970 كتب المفكر الفلسطيني هشام شرابي:" لا يكون الفكر عملا إلا حين يرتبط الفكر بواقعه الحياتي، وهو يبقى مجردا- يبقى إنشاء ووعظا و خطابة – عندما يفقد علاقته بالواقع الحياتي،& بهذا تظهر أزمة المثقفين العرب على أنها في صميمها أزمة مفكرين قبل أن تكون أزمة فكر بالذات.. المهمّ،& كما قال سارتر،& أن يتكلم المثقف الراديكالي "بآسم جماعة من الناس منغمسة في الممارسة الفعلية". المهمّ أن يخرج من حدود "الأنا"،& وأن يتجاوز عالم الفكر الذاتي. بهذا المعنى يصبح الكشف عن الوقائع،& كما قال سارتر،& والممارسة العملية شيئا واحدا..ولعلّ أكبر تناقضات المثقف العربي ليس في أنه لا يعيش الثورة كمقابل بل في أنه لا يعيشها كمثقف." هكذا يقدّم الكاتب الطاهر أمين صاحب "بؤس الثورة " و " بؤس الثقافة" و "بؤس الهوية" مدخلا لتشريح كتاب الإعلامي والكاتب الصافي سعيد "المضاد الحيوي: مخاضات بين زمنين ما قبل الثورة.. ما بعد الثورة" في أمسية ثقافية حضرتها "إيلاف".

المثقف العربي و الثورة
أورد الطاهر أمين موقف شرّابي لقناعتي بأنه يصلح أن يكون منطلقا وأساسا لحوار فكري عميق حول علاقة المثقفين بالثورة: أختلف مع شرابي لأنه ليس مطلوبا أن يصبح المثقف ثوريا، ولأن الفكر ليس انعكاسا مرآويا لواقع المثقف الحياتي، واتفق معه في أنّ "أزمة المثقفين العرب"هي"في صميمها أزمة مفكرين قبل أن تكون أزمة فكر"، وفي أنّ المثقف العربي لا يعيش الثورة بوصفها أفقا للحرية.&
وفي كتابه"المضاد الحيوي: مخاضات بين زمنين ما قبل الثورة..ما بعد الثورة" الصادر عن منشورات عرابيا في طبعته الأولى/تونس فبراير 2013،& يأخذنا الصافي سعيد إلى ما يسميه بـ"الأسئلة المشاغبة" داخل مفارقة الأمة الكبرى، التي يلخصها بقوله:"حتى أن أسئلة الأمس البعيد لا تزال هي نفس أسئلة اليوم المعاش..".السؤال هو"رغبة الفكر"،& يقول "موريس بلانشو" في كتابه"أسئلة الكتابة"،& ولكننا عندما نفتح السؤال على أمراض الأمة:"المسماة مرة "بالعربية" ومرة أخرى"بالإسلامية"وثالثة"بالعربية-الإسلامية"(إنها فضاء سلعيّ مفتوح إلى آخر مدى ومنذور للتشظي للهباء والتندّر)" كما يقول الصافي سعيد" نكتشف معه أن الأسئلة لا تتعلق بالفكر فقط، بل بالمجتمع، و السلطة، واللغة،& الأسئلة تبدأ بنا، ونحن لا نملك إلا أن نبدأ بالأسئلة المؤجلة،& لذلك نندفع إلى صرخة أدونيس في كتابه "زمن الشعر":"اطرح الأسئلة، إنها قوتك الوحيدة". أنا أؤمن أنّ السؤال هو أفق الثقافة العربية المستقبليّ،& إذ ليس أمامها سوى أن تعلن أزمتها، من أجل أن تنخرط في السؤال بوصفه تجربة بحث عن آفاق جديدة، ولكنّ الصافي سعيد يتعامل مع السؤال بوصفه لعنة،& عودا أبديا أي صيرورة من التحول غير الهادف طالما أنّ كل شيء يعود ويتكرر. لذلك يكتب:"وما يبدو ملحّا هنا، هو ذلك السؤال اللعين في عوده الأبدي الذي أربك الجميع:لماذا كانت الغلبة دائما "للواقع" وليست "للمثقف"(صانع الأفكار)؟ولماذا تصرّ "الإيديولوجيا" على "إعادة" تركيب وإنتاج "التخلف"في كل مشروع تنويري، أو إصلاحي، أو تحرري؟ وكيف يمكن تكسير هذه الدائرة الميتة والمغلقة؟".

الولع بالسؤال
الطريف هو أنّ الصافي يتقن لعبة طرح الأسئلة. إنه ينوّع على سؤاله المركزي إشكالية أكثر من سؤال،& فيكتب:"يمكن أن يترتب على هذه الإشكالية سؤال آخر غير بسيط: كيف قرأ مثقفونا تاريخ أمتهم؟"،& ثم هو يمارس لعبة التخابث مع سؤاله،& فيكتب: لنتجاوز الآن حدود السؤال بطريقة خبيثة. ما الذي حصل حتى ترتمي مصر ذات النخب العريقة والتجربة الحداثية، في أحضان الجماعات السلفية؟. وما الذي حصل حتى يعود "العراق القومي والعلماني" على أعقابة إلى دائرة الهوس الديني و العشوائي؟ بل ماذا حدث في فلسطين الثورة المفتوحة على التراثات العلمانية حتى تصبح "حماس السلفية" في موقع القيادة؟"(ص102). ولكن الصافي لا يذهب الى نهايات سؤاله –المتاهة إلا من أجل أن يدشن بداية جديدة لسؤاله، يكتب:" هنا يظهر الوجه الآخر من سؤال الأزمة: لماذا كل الردّ دائما يأخذ طابع الإرتداد؟ هل تمكن محمد بن عبدالوهاب الطهوري أو عبد القادر الجزائري الأصولي،& أو الأفغاني الليبرالي،& أو خير الدين التونسي الإصلاحي من كسر تلك الدائرة؟ ولماذا كانت ولادة "الأمة الجديدة" منذ اللحظة الأولى في كفن قديم؟"(ص102).
لا يمكن أن نتابع رغبة الصافي سعيد في تنويع السؤال. نحن نقرأ الآن مقالته "تحوّلات المثقف و الدولة: معضلة الردود والإرتدادات"(من ص101 إلى ص107) من القسم الأول:فوضى الفراغات: ما قبل الثورة ". لقد قادني الفضول إلى إحصاء خمس وثلاثين علامة استفهام طرحها الصافي إثباتا لإشارة لا يمكن تجاهلها.
إنّ ولع الصافي بالسؤال ليس مجانيا،& والدليل تشديده على القول:"إنني لا أظن أنه من السهل إيقاف وابل"الأسئلة المشاغبة"،& ولو لبرهة من دامت "الأجوبة المريحة و السعيدة" قد احتلت الفضاء السياسي/الثقافي لهذه الأمة."(ص101).والجواب هو"شقاء السؤال"كما قال بلانشو، أي محنته وموته، فكيف إذا كان الجواب مريحا وسعيدا؟ أي كيف إذا قذفت بنا "الأجوبة المريحة والسعيدة"في مستنقع الإستقالة الفكرية،& والصمت المريب، وإغماض الأعين عن هذا الرعب الدموي الذي يمشي في شوارع سوريا، شوراع بغداد، ومخيمات اللاجئين في الصومال؟.
إنّ الولع السؤالي الذي يمارسه الصافي سعيد بمكر مدهش، لا يحجب حرصه على تمرير مواقفه/مقدماته داخل غابة الأسئلة الكثيفة:

المقدمة الأولى تلخص موقفه من الإسلام: "لقد كان الإسلام،& بكل تنويعاته(من الحداثية إلى السلفية) هو حقل الإيديولوجيا الذائع، والواسع لدى هؤلاء جميعا(محمد بن عبدالوهاب الظهوري، عبدالقادر الجزائري الأصولي، الأفغاني الليبرالي، خير الدين باشا التونسي الإصلاحي)، بيد أنّ هذا الحقل قد بدا عاجزا عن انتاج"العضوية التاريخية"بين المثقف وواقعه."(ص102).
المقدمة الثانية ترتبط بنظرة الصافي إلى علاقة الإلتباس بين الثقافي والسياسي:" إن النتيجة الحاصلة كانت دائما هيمنة السياسة على الثقافة.فحتى لو كان المثقف صاحب المشروع، فإن السياسي في الأخير هو صاحب السيادة.".وسواء ذهب السياسي بذلك المثقف إلى الماضي أو قفز به إلى الخارج فإن المثقف غالبا ما يتموضع داخل ما هو ايديولوجي أو ما هو زائف إلى الحدّ الذي يصبح يتصور فيه نفسه أنه (الدولة)،& لا بل يصبح عدوا للحرية وصديقا للدولة... من هنا بدأ الإنحدار. وهو ما جعل أولئك المثقفين يتخلون عن أفكارهم ويندمجون في دولة السياسي.. ويطرح الصافي علاقة الإلتباس بين المثقف و السلطة من منظور آخر،& حيث يصبح السياسي ضحية الثقافي،& ويكتب:"فالدولة الحديثة هي ابنة ذلك المثقف (فكرته وتصوراته واغتراباتها منذ عصر النهضة). وبذلك فإنه لم يستطع أن يتخلص من جاذبيتها وسحرها وجبروتها واستبدل عضويته التاريخية مع المجتمع بعضوية أخرى مع الدولة،& وبات جزء من ماكينتها الضخمة. إنّ المثقف هو الذي هيّأ الطريق لسيادة السياسي ثم أصبح السياسي هو الذي يحدد مواقع ذلك المثقف.. إنّ محنة المثقفين العرب لا تضاهيها إلا محنة الدولة التي اخترعوا فكرتها بالتعاون مع الخارج.".

المقدمة الثالثة تقود نظرة الصافي إلى سلبية ما اصطلح على تسميته بالمعارضة:" وبآختصار،& فإن الشيء الذي ينشأ من "المعارضة" ليس دائما ثوريا،& بل سرعان ما يسكن في البيوت المحافظة و الواطئة. إنّ هشاشة النخبة المعارضة تدفع الصافي الى الإعتراف:"إننا نعرف جيدا كم من المشاريع الجيدة قد أفسدتها "الإنتلجنسيا"،& لعدم تجاوزها للسياسي الراهن، أو لخوفها من المستقبل. كما نعرف كم من النذالات التي ارتكبها الحكام بالتحالف مع صمت المثقفين،& أو التي ارتكبتها الإمبريالية بالتعاون مع المثقفين.".

المقدمة الرابعة تعكس موقفه من النخبة: النخبة التي "عوضت.. سلاح نقدها بنقد سلاحها،& حسب تعبير ماركس"،& وهو موقف نقدي بالغ القسوة ومشحون بآحتقار خفيّ: "وإلى أين يمضي "مثقف" محبط وعاجز ومولع بالخارج؟.. يمكن أن يطرح هذا السؤال بالكيفية نفسها عن الليبراليين العرب و السلفيين العرب والإصطلاحيين العرب القدماء منهم والجدد وكذلك الشيوعيين العرب بجميع أطيافهم. أليسوا جميعا نسخا باهتة لتكرار المهزلة؟(المهزلة في تكرارها مأساة)".
نسأل الصافي: وأين نقرأ وجوه المهزلة ؟ فيجيب عبر عنوان معبّر"المثقف ذلك الزنجي الصغير:الإسمنت المسلح لغباء الدولة" لمقالة كتبها في جريدة عرابيا بتاريخ 03 يونيو 2012:"إن رجل الثقافة يبدو وكأنه مريض بوعيه الزائف. فهو لا ينسى الماضي بسهولة ولا يرقى لمستوى اللحظة النابضة،& ولا يعرف كيف يخفي الحزن من عينيه،& بل هو لا يعرف لا كيف يواجه خصمه ولا كيف يصمد أمام إغراءاته. وكل تلك الحالات هي سمات للحرب الباردة و الحاقدة،& الحرب الدفينة في وعي المثقف التي يخوضها عبر قوالب جامدة،& وهذا ما يمكن أن يسمى "بالوعي الجامد" أو"الوعي السائد" أي التابع".
هذه المقدمات التي تقوم الصافي سعيد بصياغتها من داخل"غباء الواقع ورداءة الإجابات" تسمح لنا بتجاوز الطرح السائد لمسألة المثقفين بوصفهم فعالية مطلقة أو هامشية مطلقة. إن النقد الصارم جدا الذي يمارسه الصافي سعيد ينطلق من حسّ تاريخي غارق في التراجيدية. هذا يعنيأنّ وعي التاريخ لدى الصافي هو الوجه الآخر لقوله:"إنّ نفي التاريخ هو الذي أنتج البعد اللاتاريخي"في العلاقة التي يقيمها المثقف العربي بواقعه. لقد كانت الردود التي أحضرها للإجابة عن أسئلة الواقع و الزمن و التخلف تحمل في أحشائها العنصرين الأكثر حسما من عناصر الردّة وهما: السلفية الماضوية و الإنتقائية التقدمية".

الأنتلجنسيا و المثقف العربي
تبدو صورة المثقف العربي بالغة القتامة، وهي بالفعل كذلك،& كأن الصافي سعيد يتعمد محاكمة الأنتلجنسيا رغم إيمانه بدورها وفعاليتها. "فالقوة الروحية،& ذلك "المحرك النفاث" الذي يدفع بالأمم إلى الأمام تتشكل من تلك الطبقة التي تسمى "الأنتلجنسيا". وتضمّ هذه الطبقة(الرقية و الناعمة و الواقية) جميع العناصر التي تعمل في حقول وفضاءات المعرفة المتعددة والمتنوعة. فهي الحاملة و الحاضنة للمتيرات و المعاني و المفاهيم و القيم الجديدة و الناطق بآسم الضمير المستتر للأمة.". والمحاكمة تجري داخل الأسئلة التي تتضمن أجوبتها،& لذلك يندفع الصافي الى السؤال:"ببساطة لنسأل: كم من المثقفين العرب الذين ناصروا الشارع الفلسطيني في مناهضته للعدوان الإسرائيلي؟ كم من هؤلاء قادوا مظاهرات (كما يفعل عادة مثقفو الغرب) لتأييد تلك الإنتفاضات التي شكلت الربيع العربي،& وكم من المثقفين العرب قد خرجوا الى الشارع محتجين ضد القمع وضد غطرسة الدولة؟ هل قرأنا لمثقف عربي (وقد نستثني البعض) ما يمكن أن نعتبره نصا مرجعيا لفهم إشكالية المثقف مع الدولة المستبدة؟. نعني هنا الأسماء الكبيرة،& تلك الأسماء التي امتلأت صدورها بالأوسمة مثل الجنرالات. بل هل يدّعي مثقف من أولئك (الجنرالات) أنه يملك تصورا مختلفا لما يحدث أو يسوّق في غرف السياسيين،& أو في مخابر رجال الأمن في بلاده.".
إنّ كتاب "المضاد الحيوي" يفترض قارئا ذكيا يعيد ترتيب المقدمات والنتائج،& إذ لا شيء يربط بين عشرات المقالات سوى - يقول الصافي- " ما أسميه بخيط الأمل" وهو "المضاد الحيوي" لكل تهاون،& أو تشاؤم،& أو فساد روحي. لذلك اخترت أن أجمعها في كتاب.".

أزمة حقيقية
هناك أزمة حقيقية،& والصافي يقدم مضاده الحيوي. إنّ خطاب الأزمة المتراكم عربيا لا يتجاوز في معظم الأحيان دلالة الإستعمال الطبي الموروث عن أبقراط بوصف الأزمة "اللحة التي يخضع فيها المرض لتغيير جذري،& سواء كان هذا التغيير إيجابا أم سلبا،& يقود إلى الشفاء أو الموت".
صحيح أنّ الأدبيات السياسية لا تكف عن القول بأن الوجود العربي يعيش مرحلة مصيرية وحاسمة،& ولكنها تتحايل على الحقيقة المشددة على "أنّ وجود أزمة يحتّم وجود ضغط بلغ حدّه الأقصى".
يعي الصافي سعيد أزمة الأمة ليس بوصفها مجرد"اللحظة التي يخضع فيها المرض لتغيير جذري " كما يقول ميريام ريفو دالون،& بل بوصفها "مخاضات بين زمنين" طويلين. لا فرق بين الأزمة والمخاض،& إذ كلاهما ألم،& وكلاهما قد ينتهي إلى ولادة ما أو نهاية ما.
من هو الصافي سعيد ؟:
يعتبر الإعلامي و الروائي الصافي سعيد من أهم رجال الرأي في تونس حيث عمل محررا في مجلة "الهدف" و صحيفة "السفير" ومجلة "العرب" و "المجلة" و"الشرق الأوسط" كما عمل رئيس تحرير لـ"الرواق4" الأسبوعية و مجلة "أفريكانا" الشهرية و "جون أفريك" بالعربية و "جيوعرابيا" الفصلية المختصة وأخيرا رئيس تحرير لصحيفة "عرابيا" الأسبوعية.
وللصافي سعيد عديد المؤلفات التي كانت ممنوعة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي منها& "بن بلة يتكلم – 1981" و"مثلث الشياطيني الاستيوائي – 1986" و " سنوات المتاهة: على مذبح القرن 21 – 1994" و " الحمى42: لا أنبياء ولا شياطين – 1995" و "العتبات المدنسة في الشرق الأوسط – 1999" و " كازينو + (رواية) – 1997" و " بورقيبة سيرة شبه محرمة (بروتريه) – 2000" و " حدائق الله (رواية) – 2001" و " خريف العرب: البئر والصومعة والجنرال – 2005" و " عودة الزمن الإمبراطوري ونهاية الأوطان – 2006" و " سنوات البروستاتا (رواية)- 2011" و " حوارات الثورة – 2011" و " المضاد الحيوي: مخاضات بين زمنين – 2013".