&بعد روايته "مجانين بوكا" التي كشف فيها عن أهوال معتقل "بوكا" الرهيب في العراق، يقدم الروائي العراقي شاكر نوري تجربة جديدة من نوعها في روايته الثامنة "جحيم الراهب" الصادرة أخيرا عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت، يغوص فيها بأعماق راهب، عاش الجحيم في كل من باريس وبغداد ودمشق وروما، باحثاً عن ذاته، من خلال مجموعة من الآباء الآشوريين الذين هربوا من بلاد الرافدين وأسسوا دير الأيقونات في بيروت من أجل الحفاظ على هويتهم المهددة وسط تصاعد العنف الطائفي وتطرف الجماعات المسلحة.
الرواية الثامنة بعد: نافذة العنكبوت، نزوة الموتى، ديالاس بين يديه، كلاب جلجامش، المنطقة الخضراء، شامان، مجانين بوكا، هي رواية اسحاق، الشخصية الاشكالية الذي لجأ إلى دير الأيقونات في بيروت، والذي انشأه الأب جوزيف الراعي الآشوري الذي هرب من قريته مركا في سهل الموصل، إثر دفاعه عن نفسه في وجه لصوص عشيرة أخرى، مما قررت أن تنتقم منه بقتله في ساحة القرية، إلا أنه يهرب بمساعدة مطران قرية مركا في الموصل إلى بيروت، ويتحوّل إلى راهب، ويتعلم الموسيقى، وثم التفت حوله مجموعة من الرهبان الهاربين، من أجل المحافظة على التقاليد الآشورية وكنيستها المتميزة على الرغم من تعارضها مع الفاتيكان. وهي التي آوت الأب اسحاق، الذي كان مسلماً واعتنق المسيحية في ظروف خاصة، ولكنه في الأصل رسام فقد روحية الرسام. ولعل لقائه بالأب جوزيف كان حاسماً في اجراء التغييرات على أحوال الكنيسة التي أخرجها من ثالوثها الذي هيمن على أرواح الرهبان: العزلة والبتولية والفقر.
استخم شاكر نوري أسلوب "الفلاش باك" أو استعادة الذاكرة في استحضار حياته على مدى رحلته من بيروت إلى روما حيث يذهب لقبوله في جامعة الفاتيكان. ثلاث ساعات يعيشها الأب إسحاق في رحلة الطيران من بيروت إلى روما، وهو يتلمس طريق الفاتيكان، لكنها هذه الساعات تختزل أربعة عشر عاماً عاشها بين باريس وبغداد ودمشق وروما، بحثاً عن ذاته في عالم مكتظ بالأوهام. فهو مسلم انخرط في المسيحية لظروف قاهرة، لكي يحصل على أوراق ثبوتية، وعاش سنوات طويلة بين سجن القلعة في دمشق، وميناء بيروت ودير الأيقونات، عند الآباء الآشوريين الذين هاجروا من بلاد الرافدين خشية القتل ومن أجل التعبير عن روح كنيستهم الآشورية التي عاشت هي الأخرى جحيماً بين المتطرفين وتفجيراتهم والمحتلين وبربريتهم والفاتيكان وضغوطاتهم المذهبية.
لم يشارك إسحاق حياة الآباء الآشوريين حياتهم فحسب& بل عاش معهم آلام سقوط الأمبراطورية الآشورية. فارتبطت حياته بحياة هؤلاء الآباءُ الآشوريون الذين اتحدت أرواحهم مع هذا الدّير: الأب إلياس، والأب جوزيف، والأب سامر والأب إيلي والأب شربل، والأخت سيسيل، والمطران مار يوسف.تعلّقوا بهذا الدّير باعتباره الحصن الأخير لهم في مواجهة الأرثودكسية، التي أرادت، بشتى الوسائل، أن تهدم أركان كنيستهم. وعمل الأب إسحاق مع الأب جوزيف، رئيس الدير على تغيير هؤلاء الرهبان بمعاونة آباء آخرين تفتحوا على الحياة، وينجح في نهاية الأمر من& نقل هؤلاء من ثالوث الفقر والبتولية والعزلة، الأوهام التي عاشت عليها المسيحية دهوراً.
إن رواية "جحيم الراهب" التي جاءت في 224 صفحة من القطع المتوسط، تلقي الضوء على معاناة المسيحيين بين صراع المذاهب والأفكار والذهنيات.. وينجح إسحاق أن يتوصل إلى فكرة الخلاص عن طريق& الغور في أعماق ذاته، والتحرر من جميع الأوهام، وعلى مدى ثلاث ساعات تكثّف الزمن لكي يعيش جحيماً لا مثيل له: الاستمرار في البحث عن الله أم البحث عن ذاته؟& سؤال فلسفي أجابت عليه الرواية عن طريق سرد حكاية الآباء الآشوريين في بطولة جماعية غيّرت مفهوم البطولة الفردية.
يرى الكاتب أن "الرواية بكاملها قائمة على الخيال. وربما أن اختلاف رواية (جحيم الراهب) عن الروايات الأخرى التي تعاملت مع موضوع المسيحية، أنها ليست قائمة على قصة مبنيّة، ومحكية، ومؤسسة من قبل، ولا تعتمد على النمط الجاهز".
ويؤكد أنه "لم يتم اضطهاد المسيحيين إلا بعد الاحتلال الامريكي في 2003 لأن وجود دولة القوية هي الضمانة الوحيدة لحماية المكونات الصغيرة، لأن المكونات الكبيرة قادرة على حماية نفسها من خلال مليشياتها كما هو حاصل حالياً".

مقطع من الرواية
لم أتنكر بجبّة الرَّاهب من أجل خداع أحد، ولم أنخرط في دين لكي أؤذي الآخرين من بني البشر، مثلما لم ألجأ إلى هذا العالم من أجل الاهتمام بشؤون الآخرة يوماً ما، هكذا أنا من دون حسابات، وجدتُ نفسي مختبئاً تحت ثياب الله، أو اللباس الكهنوتي كما يُطلقون عليه، ومعلّقاً على صدري الصّليب الذّهبيّ، الذي كنت أشعر بثقله لأنّنا لا نعرف ما هي قيمة هذه القلادة ولا رمزيتها، فالمسلم لا يعلّق على صدره أي شيء خشية أن يُتّهم بالأنوثة، وهي معيبة عندنا، لكنّني لستُ ذلك المخدوع إلى الأبد، فقد اخترتُ اللحظةَ التي أتخلّص فيها من هذا العبء الثّقيل، لأنّني وبكلِّ بساطةٍ، لا أرغب في تكرار الطّقوس ذاتها إلى ما لا نهاية، فروحي تقبل التّجريب وترفض الرّتابة، وليس في مقدوري أن أغيّر طقوس أمةٍ كاملةٍ بكل قوانينها الصّارمة، فلعل ذلك من دوام ثوابتها.

شاكر نوري
ولد في جلولاء/ ديالى/ العراق. درس الأدب الإنجليزي جامعة بغداد والسينما والمسرح في جامعة السوربون بباريس. دخل ميدان الصحافة وعمل في عدد من الصحف والمجلات أهمها: المحرر، والرياض، وكلّ العرب، والأقلام وآفاق عربية والشرق الأوسط والبيان والصدى. سافر إلى فرنسا وأقام فيها من 1977 وحتى 2004. حصل على درجة البكالوريوس في عام 1972 من كلية التربية / جامعة بغداد والماجستير في عام 1979 من المدرسة العليا للدراسات في باريس والدكتوراه في عام 1983 من جامعة السوربون بباريس. قام بتدريس السينما في جامعة السوربون. وعمل مذيعاً في إذاعة مونت كارلو. نال جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات عن كتابه "بطاقة إقامة في برج بابل. يوميات باريس" 2013.&
&