&
هي كالمدينة، شظايا منها مُكللة بسواد بقايا حرائق. لا دخانَ، ولا نسمة يبتردُ بها وجهٌ من الوجوه التي تجولُ أمام باصرتي. هم غرباء في مدينتهم مثلما أناغريب فيها. لكنّي كنتُ أحد أبنائها حين غادرتها. الآن عدتُ اليها وليست هي إياها يوم تركتها، متخمة بالكرنفالات والموسيقى والوفاق. لكنْ، لمَ احترقت هذه الحارات والأسواق ببيوتها ومحالها ومظاهرها العمرانية؟ هي الآن بقية جنون غشيها وأحالها الى رماد عاتم. وكأني بي يحتويني مكانٌ في اللامكان بممرات وقاعات ممرّغة بالسواد، تحوّلت مناضدها ودواليبها وكتبها واسقفها الى كتل مبعثرة. الوجوهُ ليست وجوهاً، ولا أحدَ مُكترثٌ بأحد، أو يسألني عن بُغيتي، ولستُ راغباً في السؤال عمّا حدث. زمنٌ أسودُ من اللايقين واللامبالاة هو كلّ ما يتمرأى لي. تركتُ صالة محترقة ورميتُ قامتي في رواق طويل مكدّس بأثاث متفحمة. وثمة أشباحٌ مموهون يتحركون خلل الأنقاض، لا نبأة، لا صوت، صمتٌ كالحجر السابت، تُرى ما الذي يجري، وما أصاب هذه الدنيا ؟ لا أدري لمَ جئتُ ومَن أروم لقاءه. لقد أنستني المفاجأةُ السوداء كلّ شيء. ربّما كنتُ أحلمُ، لكنْ لمَ غشي أجواءه كلّ هذا السواد : الجدران والأسقف وبقايا الأثاث المحترقة. فالوجوه التي التقيها خلل هذا الدمار والدخان والأبخرة والرائحة النتنة لم ترفع أنظارها تجاهي. أنا داخل وقت يحتضر ودنيا متعبة.كل مكان ارتاده أشبه بالذي تركته. توخيتُ أن أجد أحداً أعرفه ليُعلمني بالذي حدث، ثمّ حملتني خطاي من مكان لمكان، وتذكرت أني جئتُ أسأل عن أخي، كان يعمل في هذه المؤسسة المحتضرة الملتفة بالسواد. وجدتُني ألهث ُ من الونى، من لا جدوى البحث، من النزول والصعود عبر درجات طويلة. وقبل أن أختفي وتختفي هذه المشاهد التقيتُ أحداً أعرفه ويعرفني، لم أرد الحديث معه، لكنّه وقف في طريقي، في ممرّ ضيّق. ألست......؟ / بلى، أكاد أعرفك لولا هذا السوأد الذي يغشى سيماءك. / حتماً جئتَ تسأل عن أخيك / أجل، كيف عرفتَ؟/ هكذا خمنتُ / لم أسأله عمّا حدث، ولم أرد أن أجرح انكساره وحزنه، حسبُه أنّه يعرفني ويعرف أخي. التفت الى الوراء وأشار بيده الى مبنى وسال صوتُه: / لجْ بابه انه في الغرفة الثالثة على اليسار. ثمّ وضع يده على كتفي ومضى. هبطتُ بضع درجات، وتجاوزتُ حوضاً ذا مياه داكنة تطوف فوقه أوراق شجيرات الزينة والأزاهر المحتضرة السوداء. فالحرائقُ تقتلُ الألوان والشذى والنضارة مثلما أحرقت الأبواب والنوافذ والأسقف الخشبية. كنتُ امشي فوق الأنقاض وشظايا الزجاج وبقايا كراس وطاولات. امتلأ صدري برائحة الدخان. الخارجُ كالداخل، فثمة على الميمنة والميسرة أشجار أكلتها النار، أكشاك سوداء، فوهات الدكاكين فاغرة تكتظ ببضاعة محترقة. قطعت مسافة مئة متر تقريباً وولجتُ باب المبنى المحترق. على ميمنتي وميسرتي شرفات وأبواب، وفي نهاية الممر الثالث باب فاغر فاه عراه السواد. الغرفة المقصودة واسعة ومحتوياتها محترقة، بيد أن طاولة كبيرة على اليمين لم تصلها النار، وثمة أوراق فوقها وضعت بعناية. يتوسطها جهاز حاسوب، وما أن وطأتُ بلاط الغرفة حتى رنّ الهاتف الموضوع على المنضدة. ترددتُ في رفعه، الا أن استمرار الرنين جعلني اندفع صوبه وأرفعه، وتناهى الي ّ صوتُ اخي :/ أنا آسف، ربّما لن تستطيع ملاقاتي، فأنا منشغل وبعيد، لكني سعيد أن أسمع صوتك وتسمعني بعد سنوات طويلة، الزمنُ يفرق بين الأحبة وقد نلتقي في يوم ما. أنت لم تزل ذلك الأخ الذي كان يجمعنا فراشٌ واحد، ننام في تلك الغرفة الفقيرة الباردة المليئة بالصراصر والفئران، اتدثّر بك وتتدثّر بي. ونخاف الليل ويستمد أحدنا من الآخر الشجاعة. كنا في حاجة الى حنان الأبوين، وأبونا موجود لكن في غرفة أخرى منشغل باسرته الجديدة/ أخي يتكلم وأنا اصغي اليه. والماضي الذي يتحدّثُ عنه ينثال انثيالاً عبر حديثه. ماض مسكون بالشجن وغياب الأمل. وإذ يأخذني الخيالُ في التفاصيل الماضوية حتى يُفاجئني صوتُه ثانية :/ أتسمعني؟ ينبغي أن تعلم أني احبك أكثر من أولادي، هكذا أخبرتهم، بوسعك أن تسألهم، لمَ لا تزورنا؟ / أنا في صقع وأنت في صقع، / أقاطعه بحزن: / لقد جئتُك وأنت غير موجود/ جئت في وقت غير مناسب، المهم أني أسمعك وتسمعني. أعرف أنّك بعد قليل ستغادر، ستكون في مكان آخر، لقد تركتُ لك رسالة تحت الحاسوب اقرأها جيداً، وفيها رقم هاتفي تستطيع أن تتصل بي متى شئتَ. فوداعاً أخي ودم في عزّ وسلام / رفعتُ جهاز الحاسوب والتقطتُ رسالته ومضيتُ الى حيث دلتني، خارج اطارهذا الزمن، وقفتُ امام باب حديد كبير، ورأيتُ خلاله حديقة واسعة وراءها بيت كبير من الحجر حديث الطراز. ولم أكد أقف حتى خفّ نحوي رجل في الستين وحياني وترامى اليّ صوته :/ انها تنتظرك أيّها الأستاذ/ استغربتُ الأمر فأنا لم أخبرأحداً بمجيئي سوى أني التزمتُ بما ورد في رسالة أخي، تبعتُ الرجل الى حيث دلتني، احتوتني صالة واسعة مفروشة بالسجاد، وثمة مقاعد حمراء، وغير بعيد بابٌ، ولم أكد أجلس حتى اندلق من الباب سربٌ من النساء، فوضعن أمامي كوب الشاي والواناً من المعجنات والفاكهة وغادرنني. وقبل أن احسو شيئاً ظهرت امرأة مديدة ذات شعر طويل ووجه جميل مليء بالفرح، تقدمت نحوي وصافحتني، جلست الى جواري :/ لقد دلني أخوك عليك وكذا تناهت الينا أخبارُك، أنا سعيدة لأنّك ستدرّسُ ولديّ، ان ذكاءهما فوق المتوسط، وكلاهما يحتاج الى المعرفة واتقان اللغة، آمُلُ أن توافق على تدريسهما، وسيكون لك بيت الى جوارنا، ينطوي على مستلزمات راحتك. بوسعك الاتصال بي كلما احتجت اليّ وستبدأ معهما في الرابعة عصراً. ولك أن تحدد وقت تدريسهما / غادرتني وبدأتُ احسو من كوب الشاي. بعد قليل عادت برفقة الولدين، هما توأمان في السادسة عشرة ومن الصعب أن تميّز بينهما، قدما نفسيهما: الأول: صادق، والثاني صديق. تبادلتُ معهما كلاماً مقتضباً ثمّ نهضا وتركا الصالة، بقيتُ الأم جالسة وسمعتها تخاطبني: / ستلتقي شخصاً لا تتوقع رؤيته/ عندئذ ظهرت زوجتي ترتدي ثوباً مخمليّاً له حواشي خيطية رفيعة، تُرى كيف ولجت حلمي تروم مشاركتي في حناياه، قالت المرأة:/ هي صديقتي من أيام الجامعة التقينا في السوق /........................&&

أحياناً أراني في أمكنة غريبة ترميني المصادفة الى أتونها على الرغم مني، ومن دون ارادتي، بيد أني لا اعترض ولا أتذمر أبداً.....&
&