ترجمة عبد الرحمن الماجدي:&ولدت الشاعرة والمترجمة والصحافية الاستونية Maarja Pärtna عام 1986. درست الأدب الانكليزي في جامعة تارتو وأكملت دراستها الأدبية العليا، في ذات الجامعة.

لفتت نصوصها النقاد لما تتضمنه من حساسيةٍ تجاه اللغة واهتمامها بالتفاصيل وجمعها بين الموروث والحديث، فنالت عام 2013 جائزة "يوهان لييف"* بوصفها أصغر شاعرة في إستونيا.&

قصائدها لا تخلو من التناص مع قصائد يوهان لييف خاصة تلك التي تتخذ من تقلّب طبائع الفصول في إستونيا موضوعاً مركزياً لها.

مجموعتها الشعرية (عبر جذور العشب) صدرت عام 2010 و مجموعة (جذوع ومطبّات) في العام 2013.

تقرأ نصوصها، في الغالب، بمصاحبة آلة الغيتار أو فرقة للموسيقى الفلكلورية، إذ باتت تنتشر هذه الطريقة في قراءة الشعر داخل وخارج إستونيا.

ترجمت قصائدها الى اللغات الفنلندية والانكليزية والروسية والهنغارية.&

تعمل مديرة تحرير جريدة (الملصق) الأدبية.

هنا أول ترجمة، لعددٍ من قصائدها، الى اللغة العربية:

ــــــ

*يوهان ليف: أشهر شاعر استوني ولد عام 1864. عُثر على جثته متجمدة عام 1913 بعد أن أنزل عنوة من القطار في منطقة مهجورة في شهر كانون الاول لعدم امتلاكه تذكرة الركوب. م


حاجةُ النظرِ الى الخلفِ تأتي من حقيقة أن شيئاً ما بات مفقوداً، ثم انمحى، وضاع.

العلاقةُ بين الدالِّ و المدلولِ لم تعد قائمة.


فما بينَ المعرفةِ والجهل:

غموضٌ، إحساسٌ غيرُ أكيدٍ بالوجود،

كتلة دون ملامح أو أبعاد،

شعورٌ هشٌّ

لكائنٍ نصف نائمٍ ونصف مستيقظ..


حين تتأملُ، يستيقظ،

والمساحاتُ الفارغة بينَ الحروفِ تصبحُ مرئية،

إنّما في النومِ ميلٌ

لملء الثغراتِ في النص.


ثمة مكان،

بينَ ما كانَ وما سيكون.


كلمة،

مثلُ جسرٍ

لعبورِ الهوّة بينَ قطبين متعاكسين.


***

الليلُ كائنٌ في كلِّ مسألةٍ. حين ينتهي اليومُ

تنمو من لبِّ شجرةِ الكمثرى فروعٌ رقيقة،

تخرجُ من الأرواقِ الشابّةِ الخضراءِ، من ذاتِ اللونِ الأخضرِ للغاية.


نسيرُ تحتَ الاشجارِ العاليةِ المستقيمةِ (إنهُ حلمٌ).

حينَ نتحدثُ، تكتسي الكلماتُ غرابةً، يظللها غموضٌ،

&فلا نقول إلاّ القليلَ جداً.


حينَ نتوقفُ وننهضُ وندورُ حولَ بعضنِا بعضاً،

أرى الظلامَ يعبرُ ملامحَ وجهكَ.


ألتقي الظلامَ الذي اتخذ شكل أيدٍ-

تلتحمُ مع بعضها بعضاً.

حان وقتُ الليلُ،

العالم أنهى تحوله،

منقلباً من الداخلِ الى الخارج.


***

مايجعلُ الأصوات- حين يجلسُ الجميعُ حولَ مائدة الافطارِ- تتشابه:

قعقعة الأكوابِ والملاعقِ، وأصواتٌ من المطبخ،

الباب تفتحُ وتُغلقُ،

محادثةٌ على الطاولة،&

خطواتٍ تسيرُ نحو الماضي.


مايجعل الألوان تتشابه:

ملابسُ تتوهجُ في ضوءٍ ناعم،

أو تندغم مع الجدران.

أثاثٌ تلقي ظلالاً طويلة.

النظرة عبر الطاولة تأملٌ، رمادي.


مايجعل الكلمات تشابه ويفعمها دفئاً:

شكراً،

مرحباً بك، عُدْ قريباً،

حسناً،&

أراك قريباً.


***

نهايةُ شهرِ آب باتتْ وشيكةً،

وصولها لا مفرَّ منه.


النجومُ سوف تسقطُ وتقتربُ السماءُ أكثر،

والأصواتُ تتعثرُ بالأَوراقِ المتساقطة.


إنّه وقتُ العودة الى:

السيرِ بخطواتكَ البطيئةِ المحسوبة،

التملسِ بيديك،

والنظرِ بعينيك.


أنها تمطر كما لو أنّ الأرضَ عطشى

لا ترتوي.

أينَ تذهبُ كلُّ هذه المياهِ؟

يقيناً ثمة من يحتاجها.


المحاصيلُ دُمرتْ، وسوّتْ الحقلَ بالأرض.

الأشجارُ تدورُ غضبى حولِ نفسها.


الوقتُ يمضي، لامهربَ منه.

إنّهُ شهرُ آب،

ستحينُ خاتمته قريباً.


أوقظْ حواسك،

كي تتغلبَ على التغيير،

عدْ الى المرجِ، وتأهبْ للبقاء هاهنا في الشتاء.


***

في الخريفِ

ينكسرُ، مؤقتاً،&

اتحادُ الأغصانِ والأوراق.


الأفكارُ

تبرحُ المفكرَ،

ممارسةً الدورانَ

نحو مركزها المشترك في:

عينيكِ الحَجريتين في بحرٍ رمادي،

نقطتين ثابتتين على بُعدِ مترين.

نحنُ نقطتان في محيطٍ بطولِ مترين.


أرمي حجراً في المياهِ، يقفزُ قفزتين،

ثمَّ يضيعُ بين موجتين.


عيناكَ حجرانِ في بحرٍ رمادي

نظرتان جامدتان، من بعيدٍ،

تبدوان عائدتين من خارجِ الوعي.


***

بردٌ وريحٌ يجولان بين البيوت في أوزوبيس*.

الأشجارُ عاريةً تقفُ،

والسماءُ تمطرُ،

ساعةَ وصلتُ آخرَ مرةٍ ها هنا.

مقهى الهواءِ الطلقِ

كانَ مفتوحاً،

النهرُ لمْ يتجمدْ بعدُ.


ميلوش الشاب** كتب قصائدَ ها هنا في المنزل رقم 30 س.

قبلَ انتقاله الى وارشو،

حيثُ الحربِ،

وسنواتِ منفاه.


بعضُ المنازلِ تبدو متهالكة.

للماضي سطوةٌ تحثُّ على الشعورِ بالذاتِ.

أوزوبيس تمضي في مسارِها الخاص،

وفي ذاتِ الوقتِ

تشعرُ بنا، وتعلمُ

أننا نعلمُ كيفَ يتجعدُ العشبُ على الخطى التي تقودنا

وصولاً الى النهر.


نتسلقُ أعلى التلّ،

أو نركبُ القاطرةَ المعلقةَ نحوَ البُرج،

نودُّ أن نكونَ

أحدَ هؤلاءِ الناسِ في الشارع،

كي نجرّبَ المدينة&

من خلالنا،

ونختبرَ بعضنا بعضاً.


عندَ المغادرة،

لايتبقى سوى القليلِ من الصورِ

العصيةِ على التفسير،

حنينٌ،

وذاكرة.

____

* حي في مدينة فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، ويقع في البلدة القديمة في فيلنيوس. هذا الحيّ مصنف على قائمة التراث العالمي التابع للأمم المتحدة. ويعني اسمها "على الجانب الآخر من النهر." م

** الشاعر البولندي تشيسلاف ميلوش ولد في 1911 في ليتوانيا وتوفي في بولندا عام 2004. م

&

***

بالرائحةِ، نميّزُ بعضنا.

نستنشقها في-

حَيوانين صغيرين في أخدودٍ

تحتَ سقفٍ (واقٍ) من جذوعِ الأشجارِ،

الأنفان يلامسان طرفي بعضهما،.


نستنشقها في-

ريحٍ تدورُ تحتَ الشُجيرات،

قلقٍ واضطرابٍ يموّجان الفروع.


مَنْ كانَ يسأل هو القلبُ لا البحر،

هلْ يشبع من سفنِ المشاعرِ الغرقى؟

الريحُ هائجة، والسطحُ المخضرُّ بالأوراقِ

يجمعُ الأمواج موجةً بعدَ موجة.


العاصفةُ تحتدمُ فوقَ الجزيرة.

لنْ تصلَ الى هنا، في هذا الظلام،

ما من فناراتٍ.


ميّزنا بعضنا ها هنا

بالرائحة.


***

في الداخلِ


في أبوابِ النوافذِ صريرٌ حاد.

في صفحاتِ السماءِ-

في المطرِ

عددٌ لا يُحصى من القطراتِ، في كلّ واحدةٍ منها

حصةٌ من الكمال.


الريحُ تدخلُ،

العالمُ قريبٌ من ها هنا.


قمصانٌ جافّةٌ على حبلِ الغسيلِ

مقلوبةٌ،&

في داخلها-

جفافٌ منتظرٌ،&

سينقلها بعنايةٍ الى خزانةٍ مظلمة،

في فسحةٍ دافئةٍ وممتعة.


ابتسامتكَ تبدأ من العينينِ،

تتأخرُ قليلاً حينَ تصلُ الفمَ

وتختفي مرةً أخرى- كأنها تحتَ مياهٍ رمليةٍ

رُسمتْ على الوجه،

وتُركتْ مرةً أخرى.


عينانِ تصبحان جادّتين

حينَ تمضي الابتسامةُ،&

بعد أن كانتا مثلَ ضوئين تحتَ الماءِ.


بطنٌ أبيض فوقَ الماء،

وجهٌ آخر للحجرِ،

صورةٌ مقلوبٌ داخلها للخارج.


شخصٌ ما سيجلبُ البياضاتِ من الحبلِ

ويحملها داخلَ المنزل، مساءً.

أمطارٌ غزيرةٌ، كما في كلِّ ليلةٍ.

&

&