"الرسم أكل الدهرُ عليه وشرب، والرسام نفسه من مسلّمات الماضي غير المُمحَّصة" (ماليفيتش)

&بمناسبة المعرض المقام حاليا في تيت غاليري، لأعمال كازمير ماليفيتش، نعيد نشر هذا المقال الذي نشرته إيلاف ايار 2013:

ولد كازيمير ماليفيتش عام 1878 في مدينة كييف الروسية، وتوفي عام 1936 في موسكو. بدأ الرسم متأثرا بالانطباعية، ثم تحول إلى التكعيبية. كان من المعجبين بعمل الفنان الفرنسي فرناند ليجيه، وخصوصا بمحاضرته التي القاها، عام 1913، في موسكو "اصول الرسم المعاصر وقيمته التمثّلية"، وأكد فيها بأن "عمل الفنان لن يكون جديدا لأنه كَسرَ الموضوع أو وضعَ مربعا أحمر أو أصفر وسط اللوحة، عمله سيكون جديدا في اللحظة التي يستوعب فيها الروح الإبداعي لهذا المظهر الخارجي".
غير ان الواقع الفني الروسي، في بدء العقد الثاني من القرن الماضي، اصبحت فيه المستقبلية كلمة مرادفة للفن الحديث المتمرد... وذلك بسبب الفضائح والنقاشات التي كانت تثيرها مجموعة "إهليا – المستقبلية التكعيبية" والتجارب التي تجريها، والترجمات التي كانت تنشرها توسيعا لمبادئها في الفن والأدب والحياة... ناهيك عن أن هذه المجموعة كانت تدعو إلى حسية جديدة وقطيعة مع الأكاديمية والماضي، بحثا عن شيء ينتمي إلى المستقبل. وهذا عين ما كان يفكر فيه ماليفيتش: رسم يتخلص من الماضي ويكون حقيقة المستقبل. شعر بآصرة مع هذه المجموعة، فانضم اليها. وبما أنها كانت تعتمد على النشاطات الجماعية المشتركة، اقتضى أن يعمل ماليفيتش مع أحد أعضائها: الكساي كروتشونيخ صاحب نظرية "الزاووم" (ما وراء الادراك)، على أوبرا "الانتصار على الشمس" التي بدأ بكتابتها كروتشونيخ. ولهذا السبب سافر، مطلع 1913، إلى فنلندة مع كروتشونيخ ليقضيا وقتا في منزل الموسيقار الروسي ماتيوشين الذي أسندت إليه مهمة كتابة الموسيقى ليتدارسوا أمر اخراج هذه الاوبرا. وكان ماليفيتش من أشد الدعاة إلى نظرية كروتشونيخ "الزاووم"، وكان يفهم أبعادها الحقيقية، في ان لها دلالة وبنية وليست مجرد انفعال أو شيئا مضادا للثقافة. ففي رسالة كتبها عام 1913 إلى ماتيوشين قال فيها: "لقد رفضنا العقل لأننا تصورنا شيئا آخر يمكن، مقارنة مع ما رفضنا، أن يُدعى "ماوراء الإدراك"، وله هو أيضا قانون، بنيان ومعنى، وما إن ندركه حتى يكون لنا عمل مبني على قانون جديد حقا؛ ماوراء الإدراك".
وتسلم ماليفيتش مهمة انجاز تصميم ملابس المسرحية وديكورها، فرسم ماليفيتش تصميمات لأشكال هندسية تتقاطع بالأبيض والأسود، ملغزة وغامضة على شكل مربعات، مثلثات، أسهم، صناديق مربعة؛ تصاميم وتخطيطات تتقاطب وروحية المسرحية الخارجة عن نطاق المنطق، "لإجبار المشاهد على هجران المنطق التحليلي لصالح التجربة المباشرة". واللون الأسود الذي استخدمه في "الانتصار على الشمس" هو رمز انتصار الظلمات. "عاشت الظلمات. والآلهة السوداء. الشمس ابنة العصر الجليدي ماتت. وجوهنا كالحة. الضوء داخلنا". ورفض النور والايضاح والوضوح والعقلانية في المسرحية له دلالة عميقة ألا وهي معاكسة التقليد المسيحي الذي يلصق باللون الأسود صفات الشر وقوى شيطانية. أما الأبيض، هذا اللون التصوفي -الإثارة الخالصة، الذي يلعب دور الخلفية، الاطار، فإنه يقدس الغاء النظام الفضائي المنظوري.&

&وهكذا، في أثناء إعداد الديكور للأوبرا، اكتشف ماليفيتش اللبنة الأولى لما سيعرف في تاريخ الرسم بـ"السوبْرِماتية" (بتسكين الباء مع كسرة تحت الراء لأنها مشتقة من suprem وليس من super). فأبقاها سرا يعمل عليها بعيدا حتى عن أعين أصدقائه. وانتظر ما يزيد على السنة ليعلن على الملأ دعوته الفنية الجديدة

صفر- عشرة

العقل للفنان هو قيد محكوم بالأشغال الشاقة، لذلك أتمنى لكل الفنانين ان يفقدوا عقولهم.

عندما نفقد عادة رؤية الزوايا الصغيرة للطبيعة، فينوس فاحشة أو صور العذراء، متمثلةً في اللوحة، عندها إذن، سنرى العمل التصويري لا غير.

لقد تبدّلتُ إلى صفر الأشكال، وانتشلت نفسي من دُوّامة فضالات الفن الأكاديمي.

أزلتُ طوق الأفق وخرجت من دائرة الأشياء، من طوق الأفق الذي ينحبس فيه الرسام وأشكال الطبيعة.

فهذا الأفق اللعين كلما يكتشف أشياء دائما جديدة، فإنه يُبعد الفنان عن هدف الغاية.

لا ينخدع، لدى الفنان، سوى جبن الوعي وفقر القوى الخلاقة، مما يؤسسان فنهما على اشكال الطبيعة خوفَ أن يُحرما من الأسس التي أقام عليها الوحشي والأكاديمي فنهما.

إن اعادة انتاج الأشياء وزوايا الطبيعة الصغيرة المفضلة، لهي أشبه بلص ينظر بإعجاب إلى رجليه المقيدتين.

الفنانون البلداء والعجزة لاغير، يخفون فنهم تحت حجة الاخلاص.

في الفن، المطلوب هو الحقيقة وليس الإخلاص.
من أجل الثقافة الفنية الجديدة، تتلاشى الأشياء كالدخان، والفن يتجه صوب الغاية في ذاتها؛ الإبداع، صوب السيطرة على أشكال الطبيعة.

كازيمير ماليفيتش

&

إلى نبذ الرسم الأسير لقوانين تمثّل العالم الطبيعي، لصالح الالتجاء الى ضرورة خلق أشكال من اللاشيء؛ أشكال صافية جديدة حيث كل عنصر يشكّل كُلا مستقلا: "إذ كلُّ شكلٍ هو عالَمٌ"... وبعد هذا الانتظار – التبرعُم النظري والعملي- انتهز فرصة اشتراكه في المعرض المستقبلي العاشر والأخير: "صفر- عشرة" (وعنوان المعرض يرمز إلى اعمال عشرة فنانين فقط همهم الرئيس هو الذهاب إلى ماوراء الصفر)، الذي اقيم في بطرسبورغ عام 1915، ليميط اللثام عن "السوبرماتية"، كفن ضد المنظور والواقعية، بعرض مجموعة مكونة من 39 عملا لا تمثّليا عُلقت على نحو منحرف واحدة قرب الأخرى، على حائطين متجاورين، وبتوزيع كراس مرفق عنوانه: من التكعيبية والمستقبلية إلى السوبرماتية: واقعية تصويرية جديدة"، يؤكد فيه سوبرماتية non-figuratif اللاتمثّلية (اللاتشبيهية أو اللا تشخيصية)؛ شكلا جديدا من أشكال الفكر، يُعرب عنه في الرسم بأشكال لا تمثّلية، محررة من أية صلة تمثّلية أو رمزية". ذلك أن ماليفيتش لم تعد له رغبة في إعادة انتاج واقع محسوس وملموس، في لوحاته. فهدفه، من الآن فصاعدا، هو أن يتجاوز الواقعي بغية العثور على كون تصويري لا تمثلي؛ على عالم بلا أشياء؛ بعيد جدا عن نطاق الأكاديمية التي لا تنوي سوى تمرئة الواقع. إن الفن اللاتمثّلي، الذي شنّه في هذا المعرض المستقبلي الأخير، نظام بذاته؛ الشكل البسيط للمربع هو خليته البدائية، الدائرة والصليب، عناصر أساسية. على عكس فن كاندنسكي التجريدي، فلم يُصمَّم الموضوع على نحو غنائي ولا يضمحل خطوطا لونية شِعرية. من هنا، صدم الفنانون والمشاهدون الذين زاروا المعرض. إذ شعروا وكأن ماليفيتش يصرح لهم بأنه حتى الفنانين الطليعيين من مستقبليين وتكعيبيين، هم ايضا أصبحوا قدماء وكلاسيكيين، مقارنة بأعماله الجديدة التي لا تنطوي على أي تمثّل للواقع، للطبيعة أو حتى للأحلام والهلوسات: وانما على أشكال هندسية فقط: مربعات، مستطيلات، دوائر، صليب ومثلثاث، لا غير. وعُلِّقَت لوحة عنوانها "مربع أسود على خلفية بيضاء"&وحرفيا: مربع أسود رباعي الزوايا فوق خلفية بيضاء، في زاوية الحائطَين المتجاورين، قريبا من السقف لكي تبرز أكثر وكأنها ايقونة&قديس.

هناك نادرة تتعلق بماليفيتش: إذا كان رسام النهضة باولو أوتشيلو قضى لياليه في محترفه ليكتشف قوانين المنظور، فإن ماليفيتش قضى لياليه بلا أكل أو شرب، لتدمير المنظور. ذلك أنه يقي صافنا أمام لوحة كان يعمل عليها، لم تعجبه الأشكال المرسومة عليها، وفجأة ادخل فرشاته في اللون الأسود وأخذ يغطي كل ما كان مرسوما في اللوحة الى أنتهى أمام مربع أسود يتوسط سطح اللوحة. فشعر عندئذ أن ايقونة حديثة قد ولدت كنافذة على عالم تصويري جديد. فهذه اللوحة تمثل مفتاح التحرر الذي يدعو إليه ماليفيتش: "كل رسم الأمس واليوم وما قبل السوبرماتية؛ نحتا وأدبا وموسيقى، كان عبدَ أشكال الطبيعة، وبالتالي كان ينتظر ان يتحرر لكي يعبر عن نفسه بلغة ملائمة". ووفق بعض معاصريه، سمى ماليفيتش مربعه الأسود هذا "الوليد القيصري" مشيرا إلى المسيح! لكنه شرح، في كتالوغ المعرض، معنى وضع اسم للوحة: "بإطلاق اسماء على بعض اللوحات، لا أريد أن اظهر بأنه يجب علينا البحث عن أشكالها، وإنما أردت أن أبين بأن الأشكال الحقيقية تم اعتبارها من قبلي ككومة من الكتل اللاتشبيهية، واعتبارا منها تم خلق لوحة تصويرية ليس لها علاقة بالطبيعة".

تتميز السوبْرِماتية بمرحلتين: المرحلة الأولى (1915-1918)، هي السوبرماتية، والرسم هذا يقوم على ثورة جذرية في عمق الفن التصويري. كتب موضحا: "إن سطح اللوحة الذي كوّن المربع كان مصدر السوبرماتية، واقعية اللون الجديد بصفته إبداعا لا تشبيهيا". فهو يريد التخلص من عبء تمثّل مواضيع، أشياء متعارف عليها (تفاحة، وجه، منظر، نافذة الخ). ذلك أن الشيء الوحيد الذي يمكن لفن السوبرماتية تمثله هو وسائل الفن فقط، فهو يستغل بشكل خاص العناصر الهندسية (خط، مربع، دائرة، مستطيل، مثلث، صليب...)، والكتل، والألوان وينتج قطيعة مع تاريخ الرسم الذي لم ينشد لقرون سوى محاكاة الطبيعة وتقليدها ليكون شَبَهها. والمرحلة الثانية هي: السوبرماتيّة الخالصة حيث يتخلص من اللون لأنه "ما زال يعكس العالم ويتمثّله"، فيختار انعدام اللون، الأبيض، فولدت لوحته الشهيرة: "مربع أبيض على خلفية بيضاء" (انظر صورة رقم 3). في الحقيقة، إن أعمال ماليفيتش في كلتا مرحلتيها تطرح تعريفا اونتولوجيا للرسم السوبرماتي يعتبر نظام دلالة مستقلا بذاته، ذاتي النقد ومكتفيا بذاته. إن بناء هذا النظام الذي يكوّن فيه اللون والشكل العناصرَ التركيبية العملية، يؤدي إلى ممارسة ماليفيتش السوبرماتية الخالصة التي لا تشوبها أية شائبة لونية أو مواضيعية، بل وإلى عمله النظري الذي خصص معظم وقته له بعد ان هجر الرسم؛ "الريشة المنتفشة"! مما ستثير نظرياته حنقَ الرسامين المرتدين على السوبرماتية لصالح مجموعة البنّائين، لأنه لم يترك لهم سوى هامش ضئيل لا تكفي لاسقاطاتهم التمثّلية.
عندما سُئل ماليفيتش، كيف أبتكر هذا النظرية الفنية الجديدة، أجاب: "لم ابتكر أي شيء جديد. كل ما في الأمر هو اني لمحتُ الليلَ في داخلي، وعندها استشعرتُ الجِدّة التي اسميها السوبرماتية". والنظرية هذه تقوم على أسس التصميمات الهندسية: الدائرة والمربع واختراق التعدد اللوني الى اللون الأحادي حيث تبلغ ذروة النقاء، أو نقطة صفر الرسم؛ التجريد المطلق: هاوية الكائن!
"إن رسم الشكل المرئي للأشياء"، في نظر ماليفيتش، "لا يقودنا إلى مكان ما، مهما عمل الرسام. فهناك أشياء لا تحصى، وطرائق لوصفها لا تحصى. فليس هناك من وصف يقربنا من طبيعة الواقع الحقيقية. إذ بقدر ما نستخدم الأشكال التمثّلية (التموضعية والتشبيهية)، فإن التقدم صوب الحقيقة الكبرى يصبح مجرد وهم. إذ دائما ثمة أشياء أكثر فوق الجبل التالي. والأشياء تشد الذهن إلى أشكال العقل المحدودة. فالذهن عاجز عن التقدم مع الأشياء، وقد فشل في احداث تلك القفزة نحو الواقع الأكبر. لذا على الفنان أولا أن يمرّ بما كان متروكا للمشاهد فقط: تبدّل الوعي، حتى يسمح لإدراك حقيقي أن يصبح واضحا على سطح اللوحة مرة أخرى. وهذا يعني ان ييدّل الفنان نفسه، خصوصا عادته القديمة في النظر إلى الأشياء". وأول الأسلحة لهذا التبدّل الباطني هو الحدس، لكن الحدس ليس بمعناه كمقاربة سلبية مضادة للتفكير، ولا كغريزة. وإنما بمعناه الجديد كمبدأ خلاق نشيط، وهو أمر مشروع.
ماليفيتش يعتبر الرائد الأول في اكتشاف طاقة وعظمة التعبير عن كائنية الفراغ، من أجل الوصول إلى الرسم المطلق حيث يتحرر الفنان كليا من كل مرجع، واستذكار تمَثّلي لأشكال محددة المدلول. فالسوبْرِماتية هي خلق واقع جديد للون؛ تحرير اللون من التلوين؛ وأن تكون له كينونته؛ اكتفاؤه الذاتي. وهكذا تكون أشكال السوبْرِماتية الحياةَ ذاتَها التي تمتلكها أشكالُ الطبيعة.
لقد اعتمدت في كتابة هذا المدخل على كتابات اندراي ناكوف وترجماته، وعلى دراسات ومداخل جان كلود ماركاديه وتراجمه لأعمال ماليفيتش، وعلى "ماليفيتش: مقالات مختارة" التي اشرف على اعدادها بالانجليزية تي اندرسون. وقد شرح ماركاديه بأنه من الخطأ ترجمة الكلمة الروسية bespredmetny بـ inobjectif كما فعل المترجم الانجليزي، فهذه الترجمة تخلق تشويشا، فالمقصود في الكلمة الروسية هو: "الخالي من الأشياء، أو بلا أشياء" والمقصود عدم نقل أو تمثّل أي شيء له خاصية موجودة في الطبيعة أو الحياة. لذا اقترحَ مقابلا فرنسيا أضمن وأوضح واقرب الى المعنى المراد في فكر ماليفيتش: non-figuratif وأقترحُ بدوري مقابلا عربيا هو "اللاتمثّلي". والمقصود هو أن الفنان الكلاسيكي وحتى الحديث، عادة ما يحاول أن يتمثّل الشيء الموجود في الطبيعة، فإذا أراد ان يرسم لاعب كرة قدم، فإنه يحاول أن ينقل بصمة لاعب بكرة القدم، وجهه، جسده، الكرة والساحة، بينما السوبرماتي لايحاول نقل/ إعادة انتاج رجل يلعب بكرة القدم. وإنما يخلق حركة اللاعب بكرة القدم، عبر توزيع أشكال هندسية (انظر صورة رقم 4). فالحركة، في نظر ماليفيتش، تُعتبر أساس الفن السوبرماتي (فن اللاتَمثّل لمواضيع ذات دلالات محددة). حيث كل واقع فيزيائي يتحول الى حركة، والحركة هي أصل كل شيء.