"علينا أن نقوم بعمل يشبه وخز الشرايين بالأبـر" (برووك إلى ممثليه)

&إن انبثاق الشكل وميلاد الحدث المسرحي هما العنصران الجوهريان لبنية أي عرض مسرحي، ففي تناغمهما واستجابة أحدهما للآخر، يجسدان وحدة العناصر الفنية والتقنية والفلسفية للفكرة المراد عرضها على خشبة المسرح.
هاتان المعضلتان كانتا موضوع تجارب وأبحاث المخرج المسرحي البريطاني بيتر برووك منذ أربعينات القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن، وقد تجلت حلولهما في كتبه الثلاث: "المساحة الفارغة" 1968 و "نقطة التحول" 1987 و"ليس هناك من أسرار- أفكار حول التمثيل والمسرح" 1993، وأيضاً في كتابه الأخير "الباب المفتوح" 2004، كذلك في رؤاه المتناثرة في طيات لقاءات ومقالات متفرقة هنا وهناك، تلك التي أصبحت جميعاً مراجع أساسية للمختصين في هذا الميدان الرحب، من ممثلين يواجهون جمهورهم كل مساء، ومخرجين عثروا فيها على مفاتيح لأسئلتهم المستعصية، شرعت أمامهم الأبواب نحو المطلق المحسوس لولوج أسرار هذا الطقس المقدس الذي هو: المسـرح.
"الحدث المسرحي" وفق رؤية بيتر برووك، هو أحد أهم عناصر تجسيد العرض المسرحي، فهو لا يولد كما "الشكل" فقط عبر التمرينات على خشبة المسرح، إنما يجتاز تلك المرحلة ليعبر إلى الضفة الأخرى، وأعني بها القاعة التي يجلس فيها الجمهور، لكي يستكمل فترة تكوينه الجنيني عبر التفاعل ما بين المتفرج والممثل والطاقة المسرحية. هذا التفاعل الذي يفضي بدوره إلى نتيجة تشبه الى حد ما، النتائج العلمية لعملية الاحتراق، تلك التي تنتج عنصر الضوء في المصباح الكهربائي.. وميلاد الضوء هنا هو ميلاد الحدث. وخلافاً لذلك، لن يحدث أي شيء على الإطلاق!.
ولأجل العثور على حدث حقيقي، حسب برووك، لا يكفي أن يكون ذلك الحدث محاكياً لحدث ما يجري في الحياة، حيث الكثير من الأحداث اليومية في معظم الأحيان تتوقف عن أن تكون أحداثاً حقيقية، ولذا فقد ابتكر برووك مصطلحاً سمّـاه "المسرح المُهلك" أو بتعبير أكثر دقة (اللا - حدث) تمييزاً له عن الحدث الحقيقي، والذي هو بمثابة الخطوات الأولى التمهيدية للكشف عن الحدث ذاته.
إن شكوكية برووك بعدم مصداقية ولا حقيقية الكثير من الأحداث التي تجري في الحياة وخطورة نقلها إلى خشبة المسرح مصدرها أن الكثير من تلك الأحداث تفتقر إلى الحرارة والحيوية ويجري محاكاتها بطريقة آلية على المسرح، ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود اشتراطات عديدة في كل عرض مسرحي تفترض ميلاد ذلك الحدث، إلا أنه غالباً ما لا يحدث أي شيء! ولا شيء يدنو من الهدف، تماماً مثلما هو الحال في الحياة ذاتها، فثمة الكثير من اللقاءات التي تجري بين الناس هي ليست بلقاءات، وليس بمقدورها أن تنتج حدثاً. وتسويغ ندرة الأحداث الحقيقية تلك يرجعه برووك لأفتقارها إلى التفاعل الذي ينتج عملية الاحتـراق.
ولأجل إضاءة هذه النقطة يورد برووك مثالاً على ذلك بقوله: (.. ذهبت امرأة إنكليزية مرةً لأحدى العرافات لتقرأ لها طالعها، فبعد أن تأملت العرافة تلك
المرأة وتسللت الى مخابئها ومواطن أسرارها، أخبرتها بحذر واحتراس قائلة:
"شيء واحد فقط أود قوله لك، وهو أنه لن يحدث أي شيء في حياتك.. لا شيء على الإطلاق!!!"... وقد كان وقع ذلك على تلك المرأة قاسٍ ورهيب!..).
ولتوضيح ماهية عملية التفاعل تلك التي تنتج الحدث الحقيقي، يجري برووك نوعاً من التماهي بينها وبين عملية التفاعل العلمية.. يقول: "دعنا نأخذ ظاهرة الانفجار كمثال. فلو مزجنا، وفقاً لمواصفات علمية دقيقة، عدداً محدداً من العناصر فإن التفاعل الذي سيتم بينها هو الذي سيُحدث حتماً عملية الانفجار تلك. لكن، إذا إتحدّت تلك العناصر نفسها، بطريقة مغايرة، فإننا في هذه الحال لم نفعل أي شي على الإطلاق!"
انطلاقاً من هذا المثال، يؤكد برووك على ضرورة وجود شرطين جوهريين يتطلبهما ميلاد الحدث، أولهما، عملية الانفجار، أي، جملة التغييرات التي تطرأ على درجات الحرارة، التي تنشأ عبر المواجهة أو التماس بين طاقتين، أو بين قطبين. أما الشرط الثاني فهو، إن عملية التماس في حد ذاتها تقوم بتوليد "الفعل"، والفعل هنا يحمل أهمية استثنائية بسبب مغزاه، وهذا الفعل هو الذي يطلق عليه بروك تسمية "الحدث الحقيقي. بمعنى، إن التماس بين هاتين الطاقتين هو أشبه بذلك التماس الذي يحدث بين المتفرج والممثل، ومع ذلك، فإن المسألة ليست بهذه الآلية أو هذا التبسيط، فهي في الواقع أكثر تعقيدا ًوصعوبة من ذلك.
ولشرح هذه العملية يسوق لنا برووك مثالاً آخراً بسيطاً من ميدان الفيزياء، ألا وهوعنصر الضـوء، قائلاً: "حين يتلامس قطبا مصباح كربوني، تحدث تغييرات في درجات الحرارة، وهذه التغييرات الحاصلة هي التي تنتج عملية الاحتراق. أما المحصلة النهائية والمدهشة، فهي ميـلاد الضـوء !.. هذا المخطط البياني هو شبيه إلى درجة كبيرة بذلك المخطط الذي يوّلد الحدث.."
وحين ننقل هذه المعادلة من ميدان الفيزياء إلى ميدان المسرح، فإننا سنعثر على ذات القطبين الأساسيين، ألا وهما المتفرج من جهة، والممثل من جهة الأخرى، فكلا القطبين يمثل مصادر عديدة ومتنوعة للطاقة، إلا إن مصادر الطاقة تلك، وقبيل تفاعلها، تكون في حالة من التجزئة والتشتت، وتفتقر إلى التمركز والكثافة.
بمعنى آخر، إن وحدات الطاقة التي يختزنها الممثل نفسه، تكون منفصلة، وهذا بدوره، يعكس حالة الانفصال بين طاقته المشتتة من جهة، وطاقات جميع أعضاء الفريق التمثيلي معه، والتي لم تتبلور أو تتكشف بعد، من جهة أخرى.
في المقابل، إذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى، وأعني القاعة "الجمهور" نجد أن طاقة الجمهور هي الأخرى مشتتة، وحجم الطاقات هنا هو بحجم عدد المتفرجين في القاعة بالطبع. فكل طاقة مخزونة في كل متفرج على
انفراد، تكون في حالة منفصلة ومشتتة ذاتياً، من جهة، وهي منفصلة موضوعيا عن مصادر الطاقة الأخرى، تلك المتمثلة ببقية المتفرجين. أي أن هذه الطاقة الكبرى (الجمهور)، هي غير مكثفة وغير متمركزة بعد، فهي تتدفق وتتبدد على انفراد، وبشكل مستقل بعضها عن بعض، دون وحدة أو تناغم.
يشّبه برووك حالة الجمهور هذه بحالة المصباح الكربوني الذي يفتقر إلى الكثافة. فكل وحدة من الجمهور، وهي هنا المتفرج الواحد، هي عبارة عن طاقة مستقلة، أو وحدة من الطاقة الكلية التي هي (الجمهور)، غير قادرة لوحدها أن تكون سبباً للكثافة بسبب أنها لم تتمركز بعد.
وهكذا، يصل برووك إلى استنتاج مفاده هو أن الحدث يظهر فقط حين تتناغم كل واحدة من هذه الآلات المنفردة وبشكل هرموني، وبعدها، سنحتاج إلى تحرير تلك الذبذبة المنفردة وتسريبها إلى القاعة ليحدث شيء ما. إلا أن هذه الذبذبة ستواجه ألف قيثار وقيثار، كل يعزف على حدة، دون تناغم أو توتر موحـّد.
إذا انتقلنا من القاعة إلى خشبة المسرح، حيث الممثلين، فإننا سنواجه ذات الحالة. لذا فإن الخطوة الأولى لبدء العرض المسرحي تتطلب، قبل كل شيء، تجميع وتكثيف لتلك الطاقات المشتتة للمتفرجين، والتي هي تباعاً، تعكس الطاقات المشتتة للممثلين.
إن وضع الممثلين في حالة مواجهة مع المتفرجين، هي غير كافية لميلاد الحدثن ذلك إن الأفعال ذاتها يمكن أن تجري على مستويات متباينة من حيث الشدة والكثافة، وهذه هي إحدى الحقائق الجوهرية في المسـرح. فإذا ما تضاءلت أو تشتت تلك الشدة وتلك الكثافة، فلن يحدث في المقابل أي شيء على الإطلاق!..

&نـو اليابانـي
ولأجل حل هذه المعضلة الخطيرة في المسرح، يتجه برووك إلى دراسة أحد أهم مصادر المسرح الأساسية، كأسلوب عرض مسرحي نموذجي، ألا وهو مسرح "نـو" الياباني، محللاً مراحله الرئيسية الثلاث، تلك التي يتم عبرها ميلاد الحدث المسرحي.
وهذه المراحل هي بالشكل التالي وعلى التعاقب: (JO-HA-KYU)

&(البدء من الحس صعوداً إلى العقل)
إن المرحلة الأولى (JO) تمثل البداية أو الاستهلال، والتي تنحصر وظيفتها الأساسية في شد انتباه المتفرج حالاً وبصورة مباشرة.
وتتطلب هذه المرحلة استخدام الشكل المباشر والبساطة المتناهية، مع الأخذ بعين الأعتبار، المستويات الإدراكية والحسية المتباينة لطبيعة الجمهور. وهنا يسوق برووك مثالاً على تطبيقاته لهذه المرحلة من عرضه الشهير للملحمة الدينية الهندية (المهابهاراتا)* حيث يقول:
(... لو إن أحداً ما عرض هذه الملحمة بشكل معقد وبمستوى عال جداً يتلائم وأعمال الآلهة، فإنه يكون قد عالج عملاً طقسياً روحياً عظيماً. لكن عملاً يبتدء بكيفية كهذه، كيفية تفتقر إلى البساطة والمباشرة، سيكون نصيبه من النجاح ضئيل جداً، بل أستطيع القول أن من الصعب جداً إنجاز عمل كهذا.
لو كان العرض مكرساً لجمهور هندي مثلاً، وهو المطّلع على تفاصيل هذه الملحمة سلفاً، لكان الأمر أهون، أما إذا قـدّم العرض إلى جمهور فرنسي أو غربي، وهذا ما قمنا به، فالمسألة هي أشبه بمجازفة بليدة. أعني، إن المتفرج الهندي يمتلك عنصر الاستعداد والتهيئة لمواجهة أحداث الملحمة، ومن ثم التفاعل معها دون حدود، أما متفرجنا، فعلينا أولاً أن نخلق لديه ذلك الاستعداد.
ولذا، فإن الطريقة التي استخدمناها لخلق ذلك الاستعداد، كان مصدرها مسرح "النـو" الياباني، الذي كان يمارس روح الدعابة المحضة والشعبية، لخلق ذلك الاستعداد. وهكذ فقد ابتدأنا ملحمتنا بالراوي، وبأسلوب القص الشعبي، حيث يقوم ذلك الراوي برواية تكوين الخلية التناسلية وعوامل الإخصاب!.
إن هذا الإسلوب الذي اتبعناه، منح المتفرج فسحة من الاسترخاء، مالبث ولفترة قصيرة أن اصطدم بالمفاجئة التي ستمسك بتلابيـبه. الاسترخاء ثم الصدمة. هذا هو أسلوبنا الذي استخدمناه في الملحمة وقد استخدمناه أيضاً في عرض "مؤتمر الطيور"**، والذي ابتدأناه هو الآخر بمزحـة!.
الاسترخاء الذي توّلده تلك المزحة، والمفاجئة التي تتسلل ذبذبتها بسرعة أحدثتا نوعاً من التهديد المصحوب بالخوف عند الجمهور، أثار فيه إحساساً بالتـّرقب لاحتمال حدوث فعل مقدس ومهيب. وهذا ما كنا خططنا له منذ البدء ونجحنا فيه في النهاية..).
المرحلة (JO) تعني بالنسبة لبروك، الدعابة المحضة، شيء ما يخاطب وجدان المتفرج وينأى به عن عقله، وهي الخطوة الأولى لوضع الطعم في السنارة.. وهذه المقدمة في رأيه، تسهم في إنتاج حدث صغير، صغير جداً. لذا فهو كثيراً ما ينصح المخرجين بعدم إغفال أو الاستهانة بممارسة وتطبيق هذه المرحلة، والتي تعني البدء من الحس صعوداً الى العقل، وليس العكس. وخلافاً لذلك سيكون العرض مملاً ومضجراً.
هذه البساطة المتناهية والمباشرة في التخاطب ستشّيد جسراً يتيح للمتفرج والممثل، على حد سواء، العبور من خلاله إلى الضفة الأخرى، وبالعكس. شيء يشبه خطوات الراقصين، أو حسب تعبير برووك: (.. شيء يشبه لعبة التنس.. المتفرج سيُرجع الكرة التي ناولها له الممثل، وبالعكس. بدون هذه البداية في خلق التماس، لا يمكننا الذهاب أبعد.).

حسناً، إذا كانت وظيفة (JO) تتمحور في شد انتباه المتفرج واشراكه في مجرى العرض المسرحي، فما هي ياترى، الأساليب والطرائق التي تسهم في تحقيق هذه المرحلة؟
يعتقد برووك إن الأدوات والأساليب كثيرة ومتعددة وليس من الضروري تقنينها وتحديدها. وهكذا يمكن استخدام أي شيء، وكل شيء، شرط أن يتضمن عناصر كالدهشة والبساطة والمرح، وأن يكون ذلك الشيء مليئاً كلياً بالطاقة.
ويورد برووك بعض تلك الأساليب دون حصر، مثل الأسلوب الساخر الذكي، والشكل الكاريكاتوري، الذي يمكن استعارة عنصر الإثارة فيه من ميدان السيرك أو الكوميديا الموسيقية أو حتى الرقص المجازي!.
الشيء الجوهري عند برووك هو إظهار القدرة المادية لعنصر المشاركة، بشكل مباشر وتدريجي وفي آن، ما بين جسد المتفرج وقلبه ورأسه!.
يقول برووك : (.. لو أننا قدمنا مسرحية "هملت" وكنا منذ البدء قد استخدمنا أسلوباً يلامس عقل المتفرج وليس مشاعره، فسوف يفقد العرض المسرحي، ومنذ البداية، مغزاه وهدفه، وبالتالي سيتلاشى ذلك التماس الحقيقي بوجودنا كله، ويقيناً سيواجه المتفرج صعوبات جمة في التناغم مع العرض).
إن إحراز النجاح في إنجاز مرحلة (JO) سينشىء حالة نوعية من التناغم والإصغاء، فيها تتدفق وحدات هائلة من الطاقة الإنفعالية، شيء ما يشبه انتقال وحدة من الطاقة، وبشكل مفاجىء، إلى خزان الطاقة المركزية.

&(بعث الحيوية في روح العرض)
هذه النتيجة ستنقلنا بسيولة ونعومة إلى المرحلة الثانية (HA) وذلك عبر حاجز الصوت، أي الانتقال من طور التمهيد إلى طور الأسطورة، إلى القصة المروية ذاتها. وهذه المرحلة هي المرحلة الوسطى، مرحلة النمو والتغير والتفتت والانتشار. وهي تشكل خطوة أكثر تعقيداً وعمقاً في مسرح " نـو" الياباني، وهي تكاد تشبه القفزة
الفجائية، لكنها ليست حركة معوقة لحالة المخاض التي سيولد عبرها الجنين الذي هو (الحدث).
في هذه المرحلة يحّذر برووك من خطورة كبرى، وهي احتمال أن تفقد الثيمة حيويتها، أو من الممكن أيضاً أن يكون تفسيرها غير صائب. وإذا ما حدث هذا، فسينهار كل شيء، وعلينا البدء من جديد.
أما الخطورة الأخرى، فهي إمكانية إنقطاع الصلة بين المتفرج والممثل "حتى ولو لبرهة " عندها سنضطر إلى العودة ثانية إلى البدء، أي إلى المرحلة JO)!.
على هذا المستوى، يرى برووك أن ثمة نقطة ساحرة ومدهشة يمكن أن تحدث في حالة نجاحنا في الاحتفاظ بتلك الصلة حتى النهاية، ألا وهي أننا سنشهد ذلك الرباط المقدس بين المسرح كانعكاس للحياة، وبين الواقع اليومي ذاته، تلك الصلة التي تربط بين عالمين، عالم المخيلة وعالم الواقع!.
وعودة إلى مثال برووك ومصباحه الكربوني، فإن ما يحدث على خشبة المسرح هو إن رقعة المكان تأخذ في الاتساع والتمدد بدرجة أكبر تصل حد التضخم، عندها يبدأ الإشعاع في إنتاج الطاقة الكهربائية أو المسرحية. وهنا يحذر برووك من الوقوف طويلاً عند ذلك المستوى من الاتساع والتضخم، أي أن على حركة التمدد تلك أن تتراجع لتخلي المكان إلى عملية الانكماش.
بكلمة أخرى، لو أننا ذهبنا بعيداً جداً مع إحدى تلك الحركات، التمدد أو الانكماش، فإننا بذلك سنضل الطريق، ونضطر حينها إلى التقهقر نحو الوراء باتجاه المرحلة الأولى (JO) ثانية. بمعنى، إننا سنحرق الكربون، وبعدها لن يعود ثمة وجود لشيء اسمه الضوء..
إن وظيفة هذه الحركات في الواقع هو إقامة الصلة بين هدفين، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي. وبروك يعثر على رديف لتلك الحركات في عالم السينما،
في حركات الكاميرا السينمائية: لقطات المتابعة، اللقطات المتوسطة، واللقطات الكبيرة والكبيرة جداً "كلوز ، وكلوز آب". كذلك يعثر على وجوه لها في بنية شكسبير لنصوصه المسرحية، وفي ذات الوقت يجد لها قريناً في سياق البعد البريشتي، ذلك الذي يمنح المتفرج القدرة على استرجاع خطوة إلى الوراء، لغرض إدراك الفعل في سياقه الإجتماعي والسياسي والإنساني الكوني. ويعثر أيضاً على مرادفات لذلك بتلك الحركات المتنقلة بين هدفين عند راقص السيرك، الذي يثير الضحك بحركاته البهلوانية الساخرة، والذي يثب بشكل مفاجىء منتقلاً إلى الاتجاه المضاد، كأن يحيل نفسه وبشكل حاد مثلاً إلى
وحش مفزع. برووك يشير هنا إلى وجود عدد هائل من أساليب التعبير عن هذه النقلة، سيكولوجية وغير سيكولوجية..
إن هذا التباين بين هذين الهدفين "القطبين" يظهر بجلاء في المرحلة (HA)، وهي نقطة انتقال تتسم بطابع الاستمرارية، وهي نقطة غنية وخصبة تتغذى على تناوب وجهات النظر، تلك التي تسهم عملياً، في بعث الحيوية بروح العرض المسرحي.
في هذه المرحلة يتم تكثيف وتمركز كل شيء وبشكل مفاجىء، وبالتالي يمكننا أن نشق طريقنا بيسر صوب المرحلة الأخيرة (KYU)، والتي تعني النهاية، السرعة، الذروة، الباريكسيزم أو النوبة الحادة.

&(لقاء الممثل والمتفرج، هو بمثابة لقاء بين عاشقين)
يرى برووك إن هذه اللحظة المفعمة بالطاقة، يمكن تحقيقها في بعض الأحيان، ليس عبر الصوت فقط، بل عن طريق الصمت، والصمت المطلق!. يقول:
(.. لا شيء يستطيع أن يعكس هذه المراحل المتباينة، بشكل أكثر سطوعاً، مثل ما تفعله الدرجات المتباينة للصمت: الصمت الإعتيادي، الصمت الأكثر إنفعالاً، الصمت الذي يمكن قطعه بسكين!.). مضيفاً في مكان آخر:
(.. ومن المحتمل تحقيق تلك اللحظة المفعمة بالطاقة أيضاً، عبر موجة الغضب، غضب الجمهور!. ومن المحتمل جداً أن المتفرج، وهو في طريقه للعبور إلى الضفة الأخرى "خشبة المسرح"، يتحول هو بدوره إلى ممثل!..).
إن تماس المتفرج والممثل، هنا في هذه المرحلة الأخيرة، يشبهه بروك بلقاء عاشقين:(.. الأرض تتفجر، وبعدها فجأة، يشعر الواحد، أن كل شيء جائز وممكن!.).
في هذه المرحلة بالذات، أي (KYU) يولد الجنين أو (الحدث)، أما ماسبقه من مراحل، فما هو سوى حالة من الاستعدادات أو شعلة الفتيلة، أو شيء يمكن أن نطلق عليه (الحدث الثانوي). وهكذا، وبعدها وبشكل مفاجىء، تحدث عملية الاحتراق. أي، أن ثمة شيء ما ينطبع أوينقش بعمق في إحساس ووجدان المتفرج.
في ملحمة مهابهاراتا، يسأل الشاب الشاعر: لماذا كتبت هذه القصيدة؟ يجيبه الشاعر قائلاً: "كي تنطبع الفضيلة في قلوب البشر!". هذا المقطع لوحده،
مثلاً، يعتبره برووك غير قادر على توليد الحدث، وهو ليس أكثر من مجرد انطباع، قائلاً:
(.. لكننا لو نجحنا في إحداث عملية الاحتراق، وهي لحظة ميلاد الضوء، عندذاك فقط، يمكن أن تنطبع الفضيلة في قلوب البشر!..).
يعتقد المخرج الياباني Zeami، إن الانفصال إلى هذه المراحل الثلاث (JO-HA-KYU)، لا يقتصر فقط على العرض المسرحي، بل يمكن تطبيقه أيضاً على كل جملة مفيدة ملفوظة، كل لحظة، كل خطوة، وكل كلمة.
وهكذا، وعبر هذه العلاقة الجدلية بين المراحل الثلاث، عبر هذه التجربة المشتركة، بين المتفرج والممثل والطاقة المسرحية، تنبثق لدى المتفرج حالة إدراكية نوعية لتمييز الحدث، تساعده على الغوص عميقاً لسبر أسراره، متابعاً إياه باتجاهات سيره صوب تلك التخوم التي يتلاشى عندها ذلك الخط الوهمي الذي يفصل ما بين المخيلة والواقع اليومي...

&(العبور إلى الضفة الأخرى)
دعونا الآن نعبر إلى الضفة الأخرى لنطلّ على ما يدور على خشبة المسرح، ولنرى برووك وهو يعمل مع ممثليه أثناء التمرينات. إن مايفعله بيتر برووك هنا، بل يكاد يكون جوهر عمله مع الممثل هو (الارتجـال Improvisation) سعياً منه، في الجوهر، إلى تفجير "الحدث الحقيقي". فهو يقول:
(.. الارتجال على المسرح هو عنصر فانتازي لا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً، فهو يّعلم ويكشف عن الطاقات والفعاليات الخصبة لأولئك الممثلين الذين يبحثون عن الدرجات القصوى للحرية في عملهم، لكن ممارسة هذا العنصر دون مران وضبط ودقة ومراقبة وصرامة، ستكون نتيجته صفراً، أي، لا شيء على
الاطلاق. وهذا الأمر، يشبه إلى حد بعيد، بحثنا عن الحدث، دون وجود إدراك كامل لمغزى وحقيقة اللا- حدث. لذا فإن الشيء الجوهري والإلزامي في
ميدان الارتجال، هو وجود إدراك غني وممتلىء بالواقع، وبخطورة أي شيء يحدث أمامنا.الارتجال وجب أن يكون نشاط بحث يدار من قبل شخص يسعى في محاولة منه إلى تفجير طاقاته الكسلى. يمكن، بالطبع، أن يكون الواحد في حالة من الهمود المطلق واللافعالية، رغم هياجه و عنف وقوة حركته وتنقله على المسرح.
بمعنى آخر، يتعين على الممثل أن يؤدي دوره ضمن حلقة العلاقة مع شريكه الممثل الآخر، تماماً كما في لعبة التنس، الممثل يرى شريكه ويلامسه عبر الفعل الذي يؤديانه معاً، ووجب على كل منهما أن يستجيب للآخر.
أما العناصر التي تخلق ذلك التماس فمركزها الجسد والقلب والروح. إنه نوع من الطقس، يشبه إلى حد ما، تلك المجاميع من الشعراء اليابانيين الذين يرتجلون القصائد الواحد تلو الآخر، في جو ينطوي على المخيلة، وعلى الحاسة الموسيقية وعلى الروح والفطنة والموهبة!. ولهذا السبب، على الارتجال أن
يمركز نفسه حول أكثر الأشكال الفنية صرامة ودقة، كالرقص أو الموسيقى الكلاسيكية.. الخ..).
الحرية التي يمنحها برووك لممثليه في بدء التمرينات على المسرحية وعبر عملية الارتجال، تولـّد لديهم إدراكاً لمشاكل وأسرار العمل، وذلك عبر التشذيب المتزايد لخاصية التوسع وحرية التعبير عن المشاعر والأفكار، وحسن إصغاء الممثل لشريكه الآخر، لدرجة تصبح تلك الحرية، وبشكل تدريجي، قاعدة استثنائية للانضباط والصرامة مع النفس والعمل ككل. بعدها، وفي غضون أي عرض مسرحي، يستطيع الممثل أن يرتجل بالحد الأدنى أو الأقصى. وكل ذلك يتوقف على المعالجة والرؤية المسرحية للموضوع. المسألة الجوهرية هنا، هي تكثيف الطاقة وإعاقة إنتشارها وتشتتها عند الممثلين.
مرة أخرى يعطينا برووك مثالاً من اليابان فيما يتعلق بممارسة الارتجال وتحقيقه بشكل صائب. فهو يشبّه الممثل الذي يسعى لتعّلم هذا الدرس في
الارتجال بمّعلم التدريب الياباني لفن الرماية. وبهذا الصدد يقول:
(.. إن الرامي يكون في حالة ارتجال، في كل مرة يسحب قوسه ويطلق. والحدث الجديد والحقيقي يولد فقط، حين يصيب السهم هدفه!. فلو أن الرامي ارتجل بطريقة غير متقنة، طريقة تفتقد إلى الحساسية، فإن الحدث سيختل ويكبو، مثلما يحدث للممثل حين يفقد اتجاهاته أو كلمات دوره، كلاهما يفتقر إلى عنصر جوهري، كل صغيرة فيه، تشبه إلى حد ما، الشيء العلمي اللانهائي بدقته وحساسيته.. ربما نستطيع أن نطلق عليه في ميداننا، بعنصر الرشاقة المصحوبة بالتركيز. وهكذا، بارتجال بارع ورشاقة محددة، يستطيع الرامي أن يطلق ويصيب هدفه ولو بعينين مغلقتين.).
سأتوقف هنا عن متابعة عنصر الارتجال حيث سأتعرض له في مكان آخر ضمن سياق موضوعة انبثاق الشكل المسرحي. إن الجوهري بالنسبة لبرووك فيما يتعلق
باستخدام كل هذه الأساليب والطرائق، هو البحث عن تلك التأثيرات التي تشد انتباه المتفرج أو تشتته. لذا فإن الفكرة التي تعتبر الحدث هو كل شيء هي فكرة ناقصة! فالحدث عند برووك، على العكس من ذلك تماماً، هو لا شيء في البدء، ولايُفترض سلفاً على الإطلاق.. كل شيء سيولد بالتدريج..
الشيء المفاجىء وغير المتوقع، هو أخذ العناصر من الحياة نفسها ومحاولة تحريرها من الابتذال والعادية وكل أنواع الضجر. محاولة بث النشاط في تلك العناصر من جديد وإعطائها ألوانها وضياءها مرة أخرى.
كل هذه العوامل تشكل العصب الرئيسي في خلق الحدث، وشد انتباه المتفرج، وبالتالي مشاركته الفعلية في سير ذلك الحدث حتى النهاية.
حين يقول برووك إن الحدث هو لا شيء في البدء، يستخدم بدلاً عنه تعبير اللا- حدث، الذي يعني، سلسلة من الاشتراطات والمعايير المحددة علمياً، كخطوات أولى أو رسم بياني لميلاد الحدث، ذلك الحدث الذي يمكنه محاكاة الحياة، فقط حين يحتوي على حرارة الحياة نفسها!.
كل شيء في المسرح عند برووك يتخذ شكلاً اختزالياً وسرمدياً، متجهاً برؤاه على الدوام صوب النواة والمركز في الحياة. وقد كتب مرة:
(.. المسرح هو شيء سرمدي.. أما الموت فهو ليس سوى مظهره الخارجي أو قشرته..).
إن مركز النشاط الإبداعي لبيتر برووك هو التجديد والابتكار، فهو يعتقد إن على رجل المسرح أن يمتلك شيء من صفات الصحفي أو مصمم الأزياء، فكلاهما يخضعان لقانون التجديد، وعملهما يتطلب على الدوام عنصر الإرضاء والإغواء، وإلا تعرّض ذلك العمل إلى البلى والتمزق. فلأجل أن يصبح رجل المسرح جاداً، ينصحه برووك أن يعرف كيف يكون لعوباً!.

هامش:
* المهابهاراتا:
الملحمة الدينية الهندية، قدمها بيتر برووك عام 1985 في أحد مقالع الحجارة بالقرب من مدينة أفيسنون الفرنسية مع فريق تمثيلي متعدد الأعراق والثقافات، واستغرق عرضها مدة تسع ساعات وأعيد العرض ثانية في مانشستر عام 1989..

** مؤتمر الطيور:
قدمّ برووك هذا العرض هو وفرقته التابعة إلى المركز العالمي المسرحي ومقره باريس عام 1989 في جولة لبعض الدول الأفريقية وفي الهواء الطلق، ومن بعد عرضت المسرحية في باريس وضواحيها.
المسرحية مرتجلة، وكانت معمولة تحت تأثيرات مسرح القسوة (أنتونين آرتو). عنوان المسرحية يوحي أن برووك كان قد قصد به "المخيلة المشتركة لثقافة الشعوب"..

مراجع:
(1)The Empty Space, The Shifting Point,There Are No Secrets, Peter Brook.
(2) Peter Brook and The Mahabharata by Yoshi Oida. (3) Peter Brook and Tradition Thought b Basarab Nicolescu.
(4) Peter Brook and The Mahabharata by Yoshi Oida.
(5) On the Art of NO Drama by J. Thomas Rimer Yamazaki Masakazu.&
&
&(القسم الثاني يتبع)
&