أبي عبد الله الصغير
&وهو في آخر الموكب عند نهاية أول تل، إلتفت في صمت، وفي غفلة عن الجميع؛ كي ينظر - لآخر مرة - إلى أسوار غرناطته العالية والجميلة، محاولا بكل ما في قلبه من قوة أن يواري سوءة الرجال عن إحدى النساء قربه، لم يستطع، فأجهش باكيا كما أي صبي الصغير.
& لم يصدق المسكين أبدا ولا أحتمل أن تلصق باسمه أخطر تهمة في تاريخ مسلمي الجزيرة، تهمة تسليم فردوس المسلمين لألذ الأعداء.
كانت أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل ترتطم بجمجمته الكبيرة: "ماذا ستقول عني الأجيال القادمة؟ كيف سيذكرني المؤرخون؟ وبأي نعث قادح به في تآليفهم سيسمونني؟ لمن تركت الزهراء ونافوراتها؟ وكم أعوام نسيان يحتاج لدفن عاره من ذاكرته؟ " أسئلة كهذه، وأخرى لا داعي لحصرها في هذه القصة القصيرة جدا، جعلت دموعه تنفجر في فمه، ناسيا أنه ملك وابن ملك من سلالة الملوك، والملوك كما عرفهم وكما حكت له كذا جارية لا يبكون.
&أمه عائشة أقرب الناس إليه، بالقرب منه كانت. وبنظرات قاسية، وكلمات لم تترك لمن سيأتون بعده ما يتفوهون به ضده، اختصرت كل ما سيقول المؤرخون فيه بجملة لا ترحم كما نظراتها القاسية زحفت كسكين غاضبة شرسة في دواخله المرتجفة: »إبكِ مثل النساء ملكاَ مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال«.

- "Cervantes/Cidi hamed Benjeli"
جالسا قرب الأمير، أسرد له حكاية الفارس المعتوه الذي اختلط عليه الخيال بواقع الأجداد الحافل، ومعه صديقه يد عونه. كنت أنظر مرة مرة إلى خادم إفرنجي بيد واحدة، يدون ما أسرده من خيالات يجود بها جنوني، ليتوقف دفق السرد الذي بحنجرتي مع قهقهات السلطان بقربي. فلا ينسيني أمر الخادم وما يدون من كلامي إلا قول الأمير ابن السلطان:
ـ "إيييه يا سيد بن جلي، ثم ماذا بعد؟!"
فأسترسل في سرد قصة الفارس النبيل المحموم، وفي الأخير يهبني حاجب الأمير حزمة دنانير جائزة، ويصرفني إلى ليلة الغد.
ذاك الإفرنجي معروف لدى كل العالم الآن. أنا لولا سقطة ذاك الفرنجي في بداية نصه بذكره اسمي لما أثار إلي الانتباه مرة أخرى أنطوان برمان في كتابه الجميل L'épreuve de l'étranger.

أمريكا وصنم الحرية
&لما تراءت لهم من بعيد، كانت بداية الفأل السيئ على حضارة بأكملها، لقد سقطت غرناطة التسامح والشعر، وفقد المسلمون فردوسهم.
&الذين أتوا إليها كانوا يتقربون بأي شيء لأجل إرضاء إلههم الوحيد والجديد الذهب، لهذا فستون مليون هندي ربما لا تساوي شيئا أمام جشعهم.
&بزوغها للعالمين ربما كان عقابا إلهيا، والله أعلم، لقد جعلت البرودة تسرح في جسد الملايين في ناكازاكي، فيتنام، بغداد، قندهار، والقائمة تنذر بالمزيد، وبخطى واثقة هاهي تقود وتوقد نار سخونة العالم.
&أوليس منكم من أحد انتبه لشعلة النار التي ترفعها بيمينها؟ وكتاب سيئاتها الذي بشمالها تحمله؟
&
&مراكش
&كانت في طرف العالم الإسلامي، تصنع تاريخ الجناح الآخر منه، بهدوء وفي صمت، رغم أن مكانها عن مكان ظهور الإسلام هو الأبعد، فإن الكثير من أهلها كانوا يصلون في الحرم طيراً على الهواء، لهذا قيل عنها وعن البلاد التابعة لها: "إذا كان المشرق بلاد الأنبياء فهي بلاد الأولياء"، وأقطاب الوقت وأوتاده فيما بين دروبها الضيقة كانوا يتسترون ويستترون.
&دار السلام في المشرق كانت تحكم آسيا وشطرا صالحا من أوربا، وهي من بين غابات النخيل الباسقة، كانت تتحكم في مملكة ممتدة من مماليك غانا حتى مماليك شارلمان البعيدة.

بغداد
&الذي بناها ربما سماها خطأً دار السلام، بشر بن الحارث قال عنها: "ما ينبغي لمؤمن أن يقيم بها"، وابن حنبل أجاز دخولها لضرورة كما أجيز للمضطر أكل الميتة، يقال ـ والله أعلم ـ أن من وراء أسوارها يطل قرن الشيطان، لذا لم تهنأ باستقرارها قط، دخلها من هم في أقصى الشرق فخربوا بيت حكمتها، ودخلها من هم في أقصى الغرب، فما تركوا من بيت فيها إلا خربوه. كتب على أهلها أن يسبحوا في بِرَكِ الدم كل صباح، فكذا دماء من أباح دم الحلاج ذات يوم اليوم تباح.

أبو العباس السبتي
&كان يقامر بالدينار ليعود عليه بعشرة دنانير كاملة، والغريب أنه لم يخسر مرة دينارا واحدا إلا ليربح أضعافه، كان قلبه يستحم كل يوم بما يسديه للناس من خدمات، لم يكن همه جمع المال ولا عده، فإلى حدود علمي في ذلك الزمان ربما لم تبتكر بعد الجيوب فما بالك بالأبناك، لذلك ربما كان يعطي بيمناه كل الذي وهبه الأغنياء من السادة والأمراء ليسراه.
&بعد وفاته كان عدد المقامرين قد تزايد، لذا أصبح ضريحه من بعده مأوى لكل المقامرين، لا في مراكش وحدها، بل في كل المغرب.

مسرور
&هو في الكلمات المتقاطعة، صاحب سيف دوما هو في عطش لدم أقرب، لذا اختاره الأمراء عله يشبع نهمه، بضربة واحدة كان يحفر لبئر مائه عميقا، فتتسابق كل الأنهار لترشه بمائها المعذب.
&هو في الحقيقة ربما والله أعلم كان أكره ما يكرهه أن يشير عليه الخليفة بالتريث، فلربما لم يكن يحب القتل مطلقا، لكنه على كل حال كان عبدا مأمورا، وكم مِن أسود سحنة بداخله قلبٌ أبيض يتسع لكل العالم.